ملخص
كثيراً ما طرح ويطرح السؤال حول جدوى الكتابة في زمن الحروب. لكنّ الجواب يظل مفتوحاً على التأويل الادبي والثقافي. في هذا الصدد يبرر جورج أورويل الكتابة بالرغبة في الحصول على من يستمع إليه.
سأل كتاب كثر هذا السؤال وسُئلوه "لماذا نكتب؟". بأمر من الهشاشة، ربما. وليس ثمة إجابة قاطعة أو جامعة بل إجابات متنوعة ينطلق بعضها من "عقائدية" ما بأن الكتابة رسالة، أو من تصور "تبشيري" يجعل الكتابة أداة حاسمة في التغيير، أو من رغبة في الشهرة وتحقيق شهوة الحضور. وثمة من يجيب على نحو مبسط ومعقد في الآن نفسه بأنه يكتب ليختبر ذاته ومعرفته ونموه ونضج أفكاره.
يقول جورج أورويل في كتابه "لماذا أكتب؟" الذي ترجمه علي مدن وصدر عن المؤسسة العربية ، إنه يكتب "من أجل أن يحصل على من يستمع إليه".
قد تضمر الكتابة الأدبية رغبة في التلذذ بالكلمات كأن الكاتب يمص شفتي اللغة، أو كأنه يمارس لعبة الإمتاع الذاتي للعقل مثل الشطرنج، وبخاصة عندما يلعبها وحده ويفوز على نفسه. الكتابة واحدة من أدوات مقاومة النسيان وإسعاف الذاكرة وتفريغها قبل أن يدهم الروح وحش التصحر، وينشب ألزهايمر مخالبه في جسد الذكريات. ومن شأن توقعات مقتصدة كهذه أن تقتل الجمهور، أن تنفيه وتبعده عن المشهد. والمؤلف لا يكتب لكي يرضي أحداً لأن الآحاد المتكررة التي تسمى جمهوراً هي وهم خالص، وأما الانجرار وراء ما يطلبه الجمهور فهو الخرف الكامل، والخرف شقيق ألزهايمر أو جذع شجرته.
الكتابة هنا تغدو أشبه بالمحو، فثمة إزاحة واعية لتطلعات الآخرين وانتظاراتهم، وثمة علو شاهق يستتبعه شعور بالنشوة لأن الكاتب قتل الجمهور وقتل نفسه أيضاً. مخاوف الإصابة بـ"ألزهايمر" تهيمن على الكاتب أو يمر طيفها في سمائه، لذا ما يبرح يخشى أن تتبخر الصور وتحتضر الذكريات وتبدو الحروف مذعورة ممسوسة بجن اللامعنى بالمفهوم الواقعي، وليس الفلسفي.
وربما أحس الكاتب البلغاري غيورغي غوسبودينوف بثقل هذه المشاعر وضغطها وهو يستذكر المآلات التي انتهى إليها بلده وشعبه في غمرة توحش العولمة وتصاعد رغبات الانفصال، وتنامي الشعبويات والأحقاد العرقية وأوهام الغلبة والاصطفاء.
اختار غوسبودينوف ألزهايمر كمتكئ فني ليدشن روايته (Time Shelter) أي "ملجأ الزمن" التي حازت العام الماضي جائزة بوكر الدولية في لندن، لأنها وفق لجنة التحكيم "عمل عميق يتناول قضية معاصرة جداً، ماذا يحدث لنا عندما نخسر ذكرياتنا؟"، لافتين إلى أنها تنخرط في مرحلة جديدة من الأسئلة القديمة "التي تناقش خطر الذاكرة الانتقائية ووراثة الصدمات، وكيف يمكن للحنين أن يسيطر على المجتمع".
في "ملجأ الزمن" (التي لم تترجم بعد للعربية) ينتقل القارئ إلى "عيادة للماضي" مخصصة لعلاج المصابين بمرض ألزهايمر، من خلال إعادة خلق الماضي الذي شعروا فيه بأمان أكبر. وتبدأ "العيادة السابقة" بغرف وأرضيات مختلفة مزينة بدقة كاملة وعين مهووسة بالتفاصيل، ماركات معينة من السجائر وأغطية المصابيح وورق الحائط ومجلات الأرشيف. ويُكلف الراوي بحسب موقع الجائزة بجمع حطام ومخلفات الماضي بدءاً من الأثاث الذي يعود إلى الستينيات وأزرار القمصان التي تعود إلى الأربعينيات وحتى الروائح، وضوء ما بعد الظهيرة.
وعقداً بعد عقد تسمح الملاجئ العلاجية للمرضى بالسكن في حياتهم الموقتة "المساحات الآمنة" التي تعيد المرضى بالزمن إلى لحظة مألوفة وأكثر طمأنينة وسعادة. ولكن مع أن الغرف داخل العيادة أصبحت أكثر إقناعاً فإن عدداً متزايداً من الأشخاص الأصحاء يبحثون عن ملجأ هناك على أمل العثور على ضوء ولو شحيح من النسيان، فالذاكرة لو حضرت فإنها تنذر بقلق ممض وإن هي غابت وتآكلت، أمسى الكائن نهباً للشفقة.
إن الكاتب إن ينسى لا يمكنه أن ينسى بكاء أنتوني هوبكينز. إن الذاكرة تجهش في الغياب أحياناً. مأهولاً بالارتباك والشواش، وقف في زاوية الغرفة يسأل الممرضة: ماذا عني. من أكون بالضبط؟ / أنت أنتوني. / أنتوني اسم جميل. ألا تعتقدين ذلك؟ أمي سمتني بهذا الاسم. هل تعرفينها؟
من بين كل الصور المتناثرة في ذاكرته يتذكر أمه بعينيها الواسعتين فيريد أن تكون بقربه وأن تحميه، أن تعيده إلى المنزل "أمي، أريد أمي". وفي غمرة البكاء يستعيد الوعي حيويته الخاطفة "أشعر كأنني فقدت أوراقي كلها". وحين يسأل ماذا يعني بالأوراق، يجيب "الأغصان والريح والمطر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هوبكينز الذي أدى هذا الدور الملهم في فيلم "الأب" (The Father) الذي نال عنه جائزة أوسكار أفضل ممثل يبعث في نفس الكاتب خوفاً كامناً، يود لو يقاومه ويهزمه قبل فوات الأوان. وليس من سبيل أمامه إلا الاعتصام بالذاكرة وإفراغها، حتى إذا هجم النسيان لا يجد ما يسلبه أو يقتات عليه.
وربما تكون هذه حيلة كاتب ماكر، وما الضير في ذلك؟ صديقان لصاحب هذه الحروف من الكتاب فقدا ذاكرتيهما تدريجاً، حتى إن أحدهما كان يقضي ساعات صحوه مقيداً بكرسي كيلا يؤذي نفسه بسكين المطبخ، أو يلقي بجسده من الشرفة. ولقد علم أن ممثله الأثير جاك نيكلسون أصيب بـ"ألزهايمر" واختفى من المشهد، لكن صاحب "أحدهم طار فوق عش الوقواق" (One Flew Over The Cuckoo's Nest) ظهر في مقابلة صحافية ونفى تلك الإشاعات، وهذا ما ترك في نفس عشاق هذا الفنان العظيم أثراً طيباً.
أمر مروع أن يفقد الإنسان ذاكرته والبصمة والصور والهوية، أليس هذا ما شعرت به جوليان مور في فيلمها المضرج بالأسى "لا أزال أليس" (Still Alice) الذي تجسد فيه شخصية أستاذة متخصصة في اللغويات واللسانيات في جامعة كولومبيا بنيويورك، تعاني تدريجاً من فقدان الذاكرة على رغم أنها عالمة كرست أبحاثها لدراسة الملامح المبهمة للعقل؟ ألم تضع الانتحار خياراً متاحاً كي تتخلص أو تهرب من هذه المحنة الفظيعة؟ ألم تسجل فيديو كي يرشدها كيف تنتحر عندما تفقد ذاكرتها؟ ألا يتطلب فعل الإرشاد ذاته ذاكرة شجاعة تقرر عن إدراك الإقدام على الانتحار الذي لم يتحقق، لأن قوة الأمل طغت وتغلبت فرسمت النهاية التي تلاشت فيها ذكريات أليس هولاند؟
جوليان مور أدت أروع أدوارها واستحقت جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة لأنها جسدت الضعف في أكثر حالاته هشاشة وضياعاً، وعاينت فقدان السيطرة على العالم، والأهم على الجسد (مشهد زوجها "أليك بالدوين" وهو ينظفها بعدما بالت على نفسها، مؤذ وجارح). الجسد يخون والذاكرة تنكمش، إنه مأتم الذات والوجود.