ملخص
بعد ما يقارب قرناً ونصف القرن من الثورة الصناعية الأولى المستندة إلى طاقة الفحم وتوليد الكهرباء منه، أقفلت بريطانيا آخر محطة تعمل بتلك الطريقة. ولم يستغرقها ذلك سوى 10 أعوام، مما يعطي الأمل بأن انتقالها إلى الطاقة النظيفة الخالية من الكربون ربما يقترب بصورة حثيثة.
حينما استنبط المبتكر الاسكتلندي جايمس واط تصميماً جديداً للمحرك البخاري في 1765، تميزت تلك الأداة بأن تشغيلها يستهلك كمية فحم أقل من سابقاتها بـ75 في المئة، ومن ثم، استنتج كثر منطقياً بأن استهلاك الفحم سينخفض. بدلاً من ذلك، أدى محرك البخار الذي ابتكره واط إلى زيادة طردية ضخمة في الطلب على الفحم الذي أضحى مصدراً للطاقة يتميز بزيادة الفاعلية بالنسبة إلى الكلفة.
وفي ما عرف لاحقاً بتسمية "تناقض جفونز" Jevons paradox، شكل ابتكار واط الأساس لكل "الثورة الصناعية"، مع استعمال آلاتها الأولى فعلياً في ضخ المياه إلى مناجم الفحم بغية الوصول إلى مزيد منه. ومع حلول عام 1882، شهدت لندن افتتاح أول معمل لتوليد الكهرباء بالفحم، مما أطلق حقبة جديدة في توليد الكهرباء استمرت في اعتبار الفحم المصدر الأضخم للكهرباء عالمياً، وصولاً إلى يومنا هذا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المقابل، بعد 142 عاماً و4.6 مليار طن من الفحم، أقفلت أخيراً أبواب آخر محطة توليد الطاقة من الفحم في المملكة المتحدة. وبداية من الإثنين، سيتوقف معمل الطاقة "راتكليف أون سور" عن نفث ثاني أكسيد الكربون وملوثات أخرى في سماء مقاطعة "نوتنغهامشاير".
وبعد أن غدت أول بلد في العالم يستولد الكهرباء من الفحم، باتت المملكة المتحدة اليوم أول الاقتصادات الكبرى في الاستغناء عنه. ولم يكن لهذا الانتقال السريع الذي ابتدأ تحركه قبل عقد من الزمن، أن يتحقق لولا الصعود المستمر للمصادر البديلة لتوليد الكهرباء تستطيع الإيفاء بالطلب المتصاعد على الطاقة.
وفي العام الماضي، سجل رقم جديد في المصادر المتجددة للطاقة، مع وصول مجموع الطاقات المولدة من المياه والرياح والشمس إلى 44 في المئة من إجمال كهرباء البلاد، مرتفعة ما لا يزيد على سبعة في المئة منها في عام 2010. وفي هذا العام، يتوقع أن تصل حصة المصادر المتجددة من إجمال إمدادات الطاقة في المملكة المتحدة إلى ما يفوق الـ50 في المئة، للمرة الأولى في تاريخها.
وحول العالم، تستمر محطات الطاقة المعتمدة على الفحم في العمل وتتحمل المسؤولية عن ثلث انبعاثات التلوث العالمية، بحسب "الوكالة الدولية للطاقة"، لكن بريطانيا بات ينظر إليها الآن بوصفها نموذجاً يجب أن يُحتذى. ووصف ذلك الأمر الرئيس بالوكالة لمؤتمر "كوب 29"، مختار باباييف، بأنه "أحد أسرع الانتقالات العالمية في الطاقة. ويشكل مثالاً ملهماً عن الطموح".
وفي أوروبا، تفوقت بالفعل طاقة الرياح والشمس على تلك المولدة من الوقود الأحفوري، مع نهوض توربينات الرياح والألواح الشمسية بتوليد 30 في المئة من كهرباء "الاتحاد الأوروبي" خلال النصف الأول من عام 2024.
ووفق أرقام حديثة أصدرها مركز "إمبر" لدراسات الطاقة، يتبين أن 69 بلداً باتت الآن تستولد 50 في المئة من كهربائها بفضل المصادر المتجددة للطاقة، فيما وصلت سبعة بلدان إلى الاعتماد على تلك المصادر بصورة كاملة في تلبية الطلب على الكهرباء فيها.
وفيما تستعد المملكة المتحدة خلال العام المقبل لعبور ذلك المستوى الذي يشكل عتبة مفصلية، أوضحت "الشبكة الوطنية للكهرباء" البريطانية أن الهدف لا يتمثل في الاعتماد بصورة حصرية على المصادر المتجددة في الكهرباء، بل بأن تقدم الأخيرة الشطر الأساس من مزيج الطاقة النظيفة الذي يشمل الطاقة النووية.
وبالاستعادة، لقد تلقى طموح المملكة المتحدة بالتخلص من الكربون في قطاع الطاقة، دفعة إلى الأمام عبر حكومة حزب العمال التي وضعت عام 2030 كحد لتحقيق ذلك الهدف، ويقل ذلك بخمس سنوات عما هدفت إليه حكومة حزب المحافظين السابقة. ولسوف يتطلب تحقيق ذلك الهدف، التوقف عن استخدام الغاز في توليد طاقة الكهرباء بسرعة تبلغ ضعفي تلك التي سار بها التوقف عن الفحم، وكذلك سيتطلب ذلك مضاعفة طاقة المحطات الساحلية لتوليد الطاقة من الرياح، ورفع نظيرتها الشمسية بثلاثة أضعاف، مع زيادة تحصيل الطاقة من الرياح البحرية بمقدار أربعة أضعاف.
ولحسن حظ ذلك الطموح، أن مصادر الطاقة المتجددة تصبح أرخص وأكثر كفاءة بصورة شهرية. وتقدر تقييمات الحكومة الحالية أن طاقة الغاز صارت بالفعل أعلى كلفة بسبعة أضعاف، مقارنة بنظيراتها المتأتية من الرياح والشمس. وتستمر تلك الفجوة في الاتساع. وفي الوقت نفسه، ثمة توربينات عملاقة لتوليد الكهرباء من الرياح، يفوق حجمها ضعفي "عين لندن" [أو دولاب الألفية الثالثة الشهير] تولد بحد ذاتها طاقة تكفي حاجة مئات آلاف المنازل. وكذلك تستمر البحوث حول الجيل المقبل من الألواح الشمسية التي ستستعمل "المادة المعجزة" التي تستطيع تحويل ضوء الشمس إلى كهرباء بمعدلات تفوق لم تذهب الأذهان سابقاً إلى التفكير بأنها ممكنة على الإطلاق.
إذاً، فيما وصل التقدم التكنولوجي المتعلق بطاقة الفحم إلى ذروته قبل قرون، فإن الانتقالات السريعة تعني، وفق ما يعتقد به بعض العلماء ومحللي شؤون الطاقة، أن المصادر المتجددة تعيش نسختها التاريخية من "تناقض جفسونز".
وقد بينت دراسة صدرت العام الماضي من جامعتي "إكستر" و"كلية لندن"، أن الطاقة الشمسية وصلت إلى "نقطة تحول غير قابلة للعودة عنها"، ستجعلها المصدر الرئيس للطاقة العالمية مع حلول عام 2050.
وبحسب تلك الدراسة، "تعد الطاقة الشمسية المصدر الأكثر توافراً على الكرة الأرضية، وتتحسن باطراد جاذبيتها الاقتصادية عبر دورات سريعة من الاستثمار. وبسبب المسارات التكنولوجية التي تحركت بفضل سياسات اتبعت في الماضي، وجدنا أن نقطة تحول غير قابلة للعودة عنها ربما جرى تجاوزها. وبصورة تدريجية، وصلت الطاقة الشمسية إلى الهيمنة على أسواق الطاقة العالمية حتى من دون الحاجة إلى مزيد من السياسات حيال المناخ".
ويتمثل أحد أضخم العوائق أمام الانتقال إلى التقنيات المتجددة في أن إنتاجها للطاقة يجري طبيعياً بصورة متقطعة. وهنالك حاجة إلى تخزين كميات ضخمة من الطاقة للتوصل إلى الاستفادة من فترات الفائض في الإنتاج، ولإرساء دعم ملائم حينما تنعدم الشمس أو الرياح.
وثمة حل تقدمه "أنظمة بطاريات تخزين الطاقة" Battery energy storage systems، اختصاراً "بي إي أس أس" BESS، في شأن فائض الطاقة الآتية من المصادر المتجددة، على رغم أن بعض منشآتها تصل إلى حجم مستوعبات النقل في السفن، وتعمل بوضعية الشبكات الواسعة المدى [بمعنى أنها تشبه شبكات الكهرباء الضخمة العادية التي تشمل منطقة أو بلداً، أو تكون عابرة للحدود]. وبشكل فعلي، بدأت إعادة استعمال معامل التوليد المعتمدة على الفحم [بعد الاستغناء عن ذلك المصدر] في استضافة تلك البطاريات، مع ملاحظة أن الشبكات الكهربائية التي ربطت تلك المعامل سابقاً مع الشبكة العامة، يمكن أن توصل بسهولة إلى شبكات "بي إي أس أس".
ومن بين خطط كثيرة محتملة لمحطة "راتكليف أون سور" للطاقة التي أوقف عملها أخيراً، ثمة واحدة تسعى إلى تحويلها بطارية عملاقة لتخزين كهرباء المصادر المتجددة، مما يتيح تكوين جزء غير متوقع، لكنه قد يتكامل مع خطط بريطانية في إزالة الكربون من قطاع الطاقة، وصولاً إلى الصفر الصافي [بمعنى عدم صدور أي كمية من الكربون أثناء توليد الطاقة من أي مصدر].
ووفق محلل المناخ في "إمبر"، فرانكي مايو، "يؤشر إغلاق آخر معمل للطاقة يعمل على الفحم، إلى بداية حقبة جديدة. لقد حققت المملكة المتحدة شيئاً ضخماً مثله نقل نظامها في الطاقة من ملوث هائل إلى واحد تتنامى فيه المصادر المتجددة للطاقة، ضمن فترة زمنية قصيرة إلى حد مدهش".
وأضاف مايو "في المقابل، سيستمر العمل من أجل إرساء نظام للطاقة النظيفة، ولإنهاء الحاجة إلى الغاز المستورد المكلف، وخفض فواتير الطاقة وتوليد الكهرباء النظيفة التي ستمكن بقية الاقتصاد من عبور انتقال مماثل".
© The Independent