Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أعيش في أكثر المدن الأميركية عصرية وهذه حقيقتها

كانت مدينة أوستن النابضة بالهيبية والمحتضنة لقيم السلام، التي تعشق الموسيقى الحية والمأكولات المكسيكية وتفضلها على الجدل السياسي، تبدو على أنها المكان المثالي للعيش في الولايات المتحدة. لكن الأمور سرعان ما تغيرت

المدينة، التي كانت ذات يوم بركة من اللون الأزرق الديمقراطي في بحر من اللون الأحمر الجمهوري، تتغير ببطء (آيستوك)

ملخص

يسود شعور عام بالقلق في الولايات المتحدة الأميركية بسبب تصاعد العنف والقيود الاجتماعية. وفي هذا الإطار، يصف الكاتب، الذي انتقل إلى أوستن في تكساس، كيف تغيرت المدينة مع مرور الوقت، مما دفعه وعائلته إلى الانتقال إلى ولاية نيويورك بحثاً عن بيئة أكثر أماناً وقوانين أكثر صرامة بشأن الأسلحة.

في وقت سابق من هذا الشهر، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالاً تناولت فيه توجهات ناخبين أميركيين يعتزمون الرحيل عن الولايات المتحدة في حال عدم فوز مرشحهم المفضل في الانتخابات الرئاسية المرتقَبة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وقد أجاب ألفي شخص عن أسئلة استطلاع نشرته الصحيفة، بينما شارك 3000 آخرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وبحسب التقرير، "أعرب كثيرون عن خوفهم من أن تنجر البلاد إلى دوامة من الحكم الاستبدادي في حال فاز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية". وفي المقابل، أعرب آخرون عن عميق قلقهم حيال الطريقة التي ستتعامل فيها إدارة كامالا هاريس مع الحرب في غزة والأوضاع الاقتصادية. وعموماً، ساد شعور بالقلق والتوتر حيال تفاقم العنف المسلح، والتصعيد في الخطاب السياسي، والقيود المفروضة على حق الإجهاض، وتصاعد معاداة السامية، والعنصرية العرقية، والتمييز ضد مجتمع الميم LGBT+.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد انتقلت للعيش في الولايات المتحدة قادماً من لندن في عام 2003 – حيث وجدت نفسي في عين العاصفة، في أعماق ولاية تكساس. وكنت قد اكتشفت مدينة أوستن قبل ذلك بكثير، لدى قيامي برحلة استكشافية للولايات المتحدة في عام 1999. وآنذاك، اتخذت قراراً بأن أجعلها موطني، مع أن أوستن، وكما تعلمون، هي أشبه "بحبة توت زرقاء في وعاء من حساء طماطم أحمر" أي أنها بقعة صغيرة من الديمقراطيين الزرق وسط بحر من الجمهوريين الحمر.

وأستذكر، على سبيل المزاح، أنه في كل مرة تطرق فيها شخص من تكساس لموضوع السياسة، كنت أرد عليه بالقول: "إن حزب العمال لدينا يشبه حزبكم الديمقراطي"، في محاولة مني لشرح النظام السياسي البريطاني. ومن ثم كنت أضيف: "وحزب المحافظين لدينا شبيه بحزبكم الديمقراطي".

وبشكل عام، لم يكن أي من الحزبين الرئيسين في المملكة المتحدة يريد إلغاء هيئة الخدمات الصحية البريطانية "أن أتش أس". بل على العكس، ارتأى الحزبان أن يكون ما تطلقون عليه في الولايات المتحدة بازدراء تسمية "الطب المؤمم" [أي نظام رعاية طبية تديره أو تموله الحكومة بشكل كامل] هو مدعاة للفخر في بريطانيا. (وقد تغاضينا، وإن كان للحظة، عن الفوارق الكبيرة في المبالغ المالية التي كانا مستعدين لدفعها بغية تمويل هذا النظام).

ومن ثم، لم يعاود أي من الحزبين إدراج موضوع عقوبة الإعدام في برنامجه [الانتخابي]، ولم يطلق أية حملة حول الحق بحمل السلاح، علماً بأن امتلاك الأسلحة كان جزءاً لا يتجزأ من ثقافة ولاية تكساس. وعندما انتقلت للعيش هناك في عام 2003، كانت تكساس تحتل الصدارة في تنفيذ عقوبات الإعدام مقارنة مع أية ولاية أخرى.

لكنني اخترت أوستن موطناً لي – حيث كنت أراها مدينة تنبض بالهيبية وتحتضن قيم السلام، وأعتبرها مدينة تعشق الموسيقى الحية والمأكولات المكسيكية، مفضلة إياها على الجدل السياسي. ومن موقعي كصحافي، كنت أستعد للكتابة عن قضايا مثل الأسلحة، والهجرة، وعقوبة الإعدام، والتفسير الحرفي للكتاب المقدس، بدلاً من مسائل قد تثير قلقي في المكان الذي أصبحت أعتبره موطني. ذلك أن أوستن كانت المدينة الأجمل والأحب إلى قلبي في الولايات المتحدة: ففيها 300 يوم مشمس سنوياً، وأنهر وبحيرات بأعداد لم أكن لأتصورها يوماً، وقد اعتبرتها بمأمن عن جميع أنماط السلوك المفرطة في الأجزاء المتبقية من الولايات المتحدة. أو ربما كان هذا ما اعتقدته.

وعلى مدار 19 عاماً من حياتي في هذا المكان، كتبت عن الميليشيات المسلحة، والجيوش الخاصة التي اعتبرت نفسها مكلفة بالاستعداد لحماية الأميركيين من حكومة مستبدة طاغية، وزرت زنزانات إعدام لمرات كثيرة لم أعد أذكر عددها حتى. لا بل أكثر، كنت شاهداً على عملية إعدام.

وسافرت بالسيارة على طول الخط الحدودي الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك، وقمت بتعداد جثث المهاجرين الذين قضوا نحبهم في الصحراء أثناء محاولتهم عبور هذه الحدود. وقد أجريت مقابلات مع من أطلقوا النار في المدارس، والتقيت بقادة من طوائف دينية، وقمت بتغطية تداعيات الأعاصير والزوابع، وتناولت قضايا الفقر والعنف والإدانات الظالمة. وفي إطار إعداد أحد مقالاتي، اقتنيت مسدساً من عيار 9 مليمترات وقمت بوصف تجربة التحول إلى أميركي يحمل السلاح.

لكن تلك كانت مجرد مقالات، ولم يكن لها أي تأثير فيّ أو انعكاس على حياتي. فقد تزوجت فتاة من ولاية تكساس، واشترينا بيتاً جميلاً في ضواحي المدينة. وهو المكان الذي ولدت فيه ابنتي، ولم يخطر لنا يوماً أن نفكر في الرحيل عنه. لكن على مدى 20 سنة تقريباً عشتها في المدينة، بدأت تتغير بشكل جذري. ولم أتنبه للأمر فعلياً إلا عندما بدأت ابنتنا تذهب إلى المدرسة.

فحتى هذه السنة، ظلت مدينة أوستن محتفظة، ولأكثر من عشر سنوات، بلقب المدينة الكبرى الأسرع نمواً في البلاد. وفي هذا السياق، وصفت صحيفة "نيويورك تايمز" سوقها العقارية بـ"البيت المجنون"، مشيرة إلى أن الأوضاع الراهنة كانت تجبر الناس العاديين على التصرف كما لو كانوا "مراهنين". ومع ذلك، فقد كانت المدينة الكبرى النامية الوحيدة التي شهدت تراجعاً في أعداد الناس من العرق الأسود في الولايات المتحدة. بيد أن المدينة ظلت تروج لنفسها على أنها "عاصمة الموسيقى الحية في العالم"، متجاهلة أنه بحلول صيف عام 2022، وصل متوسط إيجار الشقة فيها إلى ما يقارب 3000 دولار، مما جعل الموسيقيين يكافحون لتغطية كلفة ركن سياراتهم في وسط المدينة، فقط لإخراج معداتهم، ناهيك من الأكلاف التي يتكبدونها ليعيشوا في المدينة.

واليوم، تسجل أسعار العقارات في أوستن تراجعاً ملحوظاً. فهل يعتبر هذا الأمر إيجابياً؟ الإجابة هي نعم. فالحقيقة أن هذه الأسعار لا تنفك تتأرجح بين ارتفاع وانخفاض. ولكن يبدو أن الأوان قد فات، لأن الناس الذين ما عادوا قادرين على تكبد كلفة المعيشة في أوستن رحلوا عنها. ومن ثم، فإن المدينة تفتقر إلى نظام نقل عام فاعل، كما أن المقيمين لا يريدون أية زيادة إضافية على الضرائب العقارية المرتفعة أصلاً لدى تسديدهم كلفة هذه العقارات.

وماذا الآن؟ في الآونة الأخيرة، قال أستاذ مالية في "جامعة تكساس" إنه لو توقف الجميع عن البناء على خلفية ارتفاع الأسعار، "لوجدنا أنفسنا في وضع نشهد فيه مجدداً فائضاً في الإمدادات، فترتفع أسعار الإيجار... وإن لم يعد هناك أي سبيل لجني المال، فلن يعود أي كان ليستثمر في قطاع البناء. وهذا هو جوهر ما يحصل".

وفي مدينة أوستن اليوم، تبقى نسبة 20 في المئة من مباني المكاتب شاغرة، بعد أن أحدثت جائحة كوفيد تغيراً جذرياً في أسلوب العمل، حيث أن الناس بمعظمهم ما عادوا يريدون العمل في المكاتب بدوام كامل. وعلاوة على ذلك، فإن تحويل المكاتب إلى شقق سكنية يظل خياراً باهظ الكلفة. ومن ثم، فإن المشهد الهندسي لمدينة أوستن تغير بشكل جذري، ولم تعد شبيهة أبداً بالمدينة التي اكتشفتها في عام 1999، والتي كانت تتميز بقبة مبنى "كابيتول" وبالبرج الشامخ والرفيع الذي يتسم به حرم "جامعة تكساس"، والذي يصل ارتفاعه إلى 300 قدم (91.4 متر).

منذ بضع سنوات، عدت إلى أوستن بغرض إعداد تقرير تطور لاحقاً إلى كتابي الجديد بعنوان "تائه في أوستن: تطور مدينة أميركية" Lost in Austin: The Evolution of an American City، والتقيت بصديقي كيفين آشتون، وهو زميل بريطاني لي، اشتهر بابتكار مصطلح "إنترنت الأشياء" – الذي يعبر عن فكرة ارتباط الإنترنت بالعالم المادي، مع الإشارة أيضاً إلى أن كيفين هو مؤلف كتاب يتناول موضوع الإبداع بعنوان "كيف تجعل الحصان يطير" How to Fly a Horse. وبعد أن ودعت كيفين في ذلك اليوم، بعث لي برسالة نصية تتضمن صورة لمدينة افترضت أنها أوستن. لكنه رد علي كتابياً بالقول "إنها ليست أوستن، بل مدينة ووهان في الصين". ومع ذلك، فقد بدا المشهد الهندسي في الصورة مشابهاً إلى حد كبير بالمشهد العمراني في أوستن – وهو عبارة عن كتلة متراصة من ناطحات السحاب المصنوعة من الفولاذ والزجاج.

ومن جهته، طلب مني تشارلز بيفيتو، وهو مؤرخ متخصص في هندسة البناء يعمل مع "اللجنة التاريخية لولاية تكساس" Texas Historical Commission، أن أحدد بعضاً من المباني الجديدة الكثيرة، التي أرى أنها تستحق الإدراج في قائمة المباني الواجب الحفاظ عليها بعد 50 عاماً من الآن. بيد أنني واجهت صعوبة في اختيار أي من هذه المباني – لأنها كانت كلها متشابهة ومصنوعة من الفولاذ والزجاج، مما جعلها صعبة الوصف وتفتقر إلى الروح والحياة.

في الواقع، كان اليوم الذي بدأت فيه ابنتي ارتياد المدرسة في أوستن، هو اليوم نفسه الذي بدأتُ فيه حديثاً جدياً مع زوجتي حول موضوع السلاح. فمع أن حضانة ابنتي اعتادت إجراء تدريبات [الحفاظ على السلامة]، إلا أننا تلقينا يوماً رسالة إلكترونية تعلمنا بإغلاق المدرسة، وفي هذه المرة، لم يكن الأمر مجرد تدريب. وقد اكتشفنا لاحقاً أن الشرطة طوقت مجمعاً سكنياً على الجانب الآخر من الطريق مقابل المدرسة، وذلك بسبب حادث منزلي تسبب به رجل مسلح.

وبعد التحاقها بالمدرسة الابتدائية، أصبحت المقالات التي أكتبها عن حوادث إطلاق النار في المدارس محط اهتمامنا، وباتت تعنينا شخصياً. فمنذ عام 2008، كانت ولاية تكساس أكثر الولايات تعرضاً لحوادث إطلاق نار في المدارس مقارنة بأية ولاية أخرى. وفي عام 2022، حققت تكساس رقماً قياسياً على مدى أربعة عقود، على صعيد حوادث إطلاق النار في أرجاء الولايات المتحدة – مع تسجيل 300 حادثة إطلاق نار في أرجاء البلاد. وفي 24 مايو (أيار) الماضي، قتل 19 تلميذاً واثنان من المعلمين جراء حادثة إطلاق نار جماعي في مدرسة "روب" الابتدائية، في مدينة يوفالدي بولاية تكساس.

وعندما أتمت ابنتنا عامها الخامس في عام 2016، أصدرت الولاية قانوناً جديداً يعرف باسم "قانون حمل الأسلحة في حرم الجامعات" “campus carry” law، الذي يتيح لأي شخص يزيد عمره على 21 سنة، ولم تصدر في حقه أية إدانة بارتكاب جنحة، أن يحمل مسدساً مخفياً داخل حرم الجامعات والكليات.

ومع أننا كنا في مدينة أوستن المعروفة بروحها الهيبية والمتمردة، لكنني كنت على يقين تام بأننا نخضع للقوانين الغريبة والمجنونة عينها التي فرضتها ولاية تكساس. بل وأكثر من ذلك، فقد أدركت أن سكان أوستن لا يمكن تصنيفهم كليبراليين شرقيين أو غربيين. بل يشكلون شريحة مختلفة تماماً من الناس – فقد يبدون تقدميين ثقافياً، إنما لديهم نزعة تحررية أكثر وضوحاً من غيرهم. فهم يدعمون زواج المثليين، ومع ذلك يفضلون النوم مع مسدس "غلوك" من عيار 9 مليمترات بجانب سريرهم، ويحتفظون ببندقية "أ ر – 15" AR-15 في مخزن الأسلحة بالطابق السفلي.

وفي صيف عام 2019، كنا قد عدنا إلى مسقط رأسي في لندن في زيارة، وقرأت أخباراً عن رجل يبلغ من العمر 23 سنة، اعتقلته الشرطة في حديقة في أوستن. وقد وُجد مع هذا الرجل سكين معلق في حزامه، ومسدس من عيار 9 مليمترات على خصره، وهو أبلغ رجال الشرطة بأنه يخفي بندقية هجومية ومخزن ذخيرة بسعة 30 طلقة خلف بعض الأشجار. وفي لحظة مداهمته، كان يسير باتجاه مجموعة أطفال يلعبون في منطقة الألعاب المائية داخل الحديقة.

لكنها لم تكن مجرد حديقة. بل كانت حديقة "بيز"، التي تبعد مسافة بضعة أحياء عن مدرسة "بيز" التي كانت تدرس فيها ابنتنا. وهناك، كانت تستمتع بوقتها برفقة أصدقائها في منطقة الألعاب المائية نفسها، وكنا نتنزه مع كلبنا في أرجاء تلك الحديقة، وقد احتفلنا فيها بعيد ميلادها مرات عدة.

وقد تبين لاحقاً أن الرجل المسلح كان مطلوباً بموجب مذكرة توقيف، مما أدى به إلى قضاء عقوبة سجن لمدة خمسة أشهر.

كان ذلك بنظرنا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. فقررنا الانتقال للعيش في الشمال الشرقي – واخترنا ولاية نيويورك التي تتبنى قوانين أكثر صرامة في مجال اقتناء الأسلحة، وقد أتاح لنا هذا الانتقال الاستمتاع مجدداً بفصول السنة بعد سنوات من الشح والقيظ، مع مواسم صيف كانت من بين الأشد حرارة في مدينة أوستن.

وصحيح أننا نفتقد أصدقاءنا في أوستن، إلا أن هذا المكان يروق لنا. وبالنسبة إلينا، لن تدفعنا نتائج انتخابات نوفمبر لتغيير مكان سكننا. وسنبقى على وضعنا الحالي. فابنتنا التي بلغت من العمر 13 سنة قد تأقلمت بشكل جيد في المدرسة. وعلى رغم جذورها البريطانية جزئياً، تبقى لهجتها أميركية وهي تعشق لعبة الرغبي (وتشجع فريق "جامعة تكساس" وفريق "كانساس سيتي تشيفس").

بيد أنها ستبدأ دراستها الجامعية بعد خمس سنوات، ومرة أخرى، نتطلع إلى إرسالها إلى إنجلترا، الواقعة على الضفة المقابلة من المحيط الأطلسي. والحال أن كلفة المعيشة في الولايات المتحدة قد شهدت ارتفاعاً كبيراً، وأصبحت سياستها أكثر جنوناً على مدى عقدين ونيف أمضيناهما في البلاد، فضلاً عن أن نظام الرعاية الصحية يتسم بالتركيز على الربح. ومع أن إنجلترا قد لا تكون المكان المثالي، لكنني أقر بأنني أعود إليها بذكريات وردية، وأكثر ما أفتقده فيها هو الناس. ومن ثم، أطمح في العيش في مكان لن يكون حمل السلاح فيه يوماً أمراً شائعاً.

سيكون كتاب "تائه في أوستن: تطور مدينة أميركية" (23 جنيهاً استرلينياً) متاحاً للقرّاء في 24 أكتوبر (تشرين الأول).

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات