ملخص
تبدو التكنولوجيا بمثابة طوق نجاة للحكومات الباحثة عن مصادر لإلهاء شعوبها، فابتكار ترندات ترفيهية كثيرة قد يحقق الأهداف المطلوبة سياسياً واقتصادياً حتى لو كانت أقل عمراً من القضايا الدينية الجدلية.
لم يتوقف الفيلسوف وعالم الاقتصاد والمفكر السياسي الألماني كارل ماركس يوماً عن ترديد جملته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" التي عرفها العالم منذ ما يقارب قرنين من الزمان، إذ بدت عبارة عصية على النسيان مثلها مثل مختصرات كثيرة في الفكر السياسي، لكنها تكتسب بعداً يجعلها مقولة عصرية وصالحة لأزمنة كثيرة، كما أنها تحظى بلبس هائل في الفهم لدى شريحة عريضة من الجماهير.
وعلى رغم ذلك ظل كثير من حكومات العالم تلجأ إلى تنفيذ مفهوم هذه الفكرة بشكل أو بآخر على مدى أعوام وعقود طويلة.
وعلى سبيل المثال فالقداسة التي تتمتع بها الأديان تجعلها اختياراً أساساً ولا يخطئ في الغالب حينما يرغب بعضهم في وسيلة مضمونة لتمرير وضع أو قرار ما، كما أنه يشكل قوة هائلة يمكن استخدامها في الحشد من أجل التهديد والوعيد، وتخدير الجماهير بوعود زائفة وإرسال رسالة للأعداء، وبالطبع الإلهاء، ولكن في هذا العصر الذي تتعدد فيه مصادر الإلهاء الناجعة والتي أثبتت كفاءتها، فهل لا يزال للدين في أدبيات السياسة والاقتصاد الأثر نفسه؟
كارل هاينريش ماركس (1818 ـ 1883) الذي صاغ تلك المقولة قبل نحو 40 عاماً من وفاته ضمن مقدمة نشرت في مجلة الحوليات التي كان يصدرها مع الفيلسوف أرنولد روج، يرى أن بعضهم يستغل الدين ويستخدمه كأداة لفرض أوضاع ظالمة على الجماهير، ليهنأوا بما هم فيه ولا يطلبون تبديلاً أو تغييراً، وهي طريقة تشبه طريقة عمل عقار الأفيون، إذ يلهيهم عن أزماتهم الاقتصادية أو حتى السياسية والشخصية في مقابل أوهام تجعلهم يستكينون ويتقبلون الأمر الواقع مهما كان بائساً.
أما المتحكمون في تلك الجماهير فيمررون سياساتهم من دون أن يلقوا معارضة كبيرة بعد أن تنجح خطة التغييب التي كان يساعد في تنفيذها كبار رجال الدين المقربين من السلطة، إذ يدعون الشعوب إلى الطاعة العمياء مرة أو يرهبونهم بالعقاب الديني مرة أخرى، أو يطالبونهم بالانتظار والصبر والارتكان للراحة حتى تتحقق العدالة الإلهية في أوقات أخرى.
استخدامات عدة تبدو ملائمة لعصور مختلفة وإن كانت هناك مزاحمات لمصادر أخرى يمكن أن تصلح أفيوناً للشعوب بالمعنى الذي قصده ماركس، وبمعان أخرى أثبتت فعاليتها واُستحدثت مع تطور المجتمعات.
قائمة منوعة من الإلهاءات
الانشغال بالتفاعل مع قضايا وظواهر وأحداث بعينها أمر شائع في كل زمان ومكان، ولكن في بعض الأوقات قد تلجأ المؤسسات إلى إدارة هذا التفاعل أو حتى تصنعه وتبتكره من لا شيء بالبحث في أرشيفها أو الزج بشخصية جدلية إلى الصدارة، أو تضخمه مع الاستمرار في إشعاله ليأخذ حجماً أكبر من حجمه وتتسع تأثيراته، ويصبح الشغل الشاغل لغالبية الرأي العام ويسيطر على منصات التواصل الاجتماعي في منطقة جغرافية بعينها وربما يعبر الحدود.
وأتاحت التكنولوجيا طرقاً متنوعة في يد الحكومات لتحقيق ما تسعى إليه بعيداً من تكرار الحيلة نفسها، بخاصة أن منصات "السوشيال ميديا" باتت هي الوسيلة المعتمدة لمعرفة وقياس توجهات الجماهير، وقد ينطبق هذا الكلام على ترند رياضي أو اقتصادي أو سياسي أو فني أو ديني.
وفي كثير من الأوقات تمزج أكثر من قضية في السياق نفسه، فمثلاً صنع حال من الجدل الديني المرتبط بمشاهير الفن أمر شائع للغاية، ويمكن أن يكون ترنداً مثالياً للإلهاء، وكذلك ربط أزمات كرة القدم والرياضة بصورة عامة بالفساد الإداري أو التحكيمي تصبح أيضاً صيداً ثميناً لا يمكن تفويته، حتى أسعار بعض السلع التي توضع تحت بند الرفاهية التي ترتفع بصورة مبالغة فيها تظل لأسابيع مسار اهتمام وسخرية، ويمكن أن تصبح حلاً معقولاً للإبعاد من إشكال ما، إضافة أيضاً إلى الفضائح الشخصية المتعلقة بالمشاهير ونجوم "السوشيال ميديا" التي تعتبر وسيلة للتسلية وتقضية الوقت وتناسي الهموم.
أخطار سياسية وأمنية
في حين يبدو للدين الغلبة في بعض المجتمعات خلال فترات بعينها، وتنشط جماعات الإسلام السياسي في استخدامه وتضغط بشدة في هذا الاتجاه، وقد كان اللعب على هذا الوتر ضمانة لهذه الجماعات في فترات كثيرة في مصر، وسبباً أساساً في تحقيق الهيمنة السياسية للإخوان، سواء في البرلمان أو الوصول إلى الحكم قبل الابتعاد من المشهد.
لكن أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة الدكتورة سهير عثمان تُذكر بأمر أساس ارتبط بصورة وثيقة باستخدام الدين لخدمة أهداف سياسية، منوهة بداية إلى أن اللجوء بلا تحضيرات دقيقة مسبقة لخطة "الدين أفيون الشعوب" سبّب مشكلات كبرى وكوارث سياسية على أكثر من مستوى، خصوصاً خلال سبعينيات القرن الماضي، مستشهدة بمثال صارخ وفق قولها في هذا الصدد، حينما شجع الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات على وجود جماعات الإسلام السياسي في المجتمع ليعملوا على إزاحة مؤيدي سلفه جمال عبدالناصر عن المشهد، وذلك لثقته أن الشعب في ذلك الوقت كان يسير وراء أي جهة تدعي العمل وفق أحكام الدين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبرت عثمان التداعيات التي حدثت في ما بعد، ومن بينها اغتيال السادات، بمثابة نتيجة للاستخدام الخاطئ للدين كوسيلة للضغط والإلهاء والتمرير.
وتضيف، "الدين بالنسبة إلى الأنظمة السياسية أداة تستخدم وفقاً للظروف وهو أداة شديدة الفعالية بكل تأكيد، إذ يمثل مع الجنس والسياسة مثلث خوف ورعب بالنسبة إلى الجماهير، وبالتالي حينما يستخدم من دون حساب لجميع عناصر المشهد يصبح وسيلة شديدة الخطورة".
أفيون الشعوب يتغير
أما أستاذ العلاقات الدولية الأكاديمي رامي عاشور فيرى أن فزاعة الدين لم تعد تجد نفعاً بالمرة، أو في الأقل بات تأثيرها محدود النطاق وغير مؤثر في غالبية دول العالم التي تعتمد نظاماً علمانياً كاملاً، مشيراً إلى أن السبب يعود بخاصة إلى المعاناة الطويلة التي ذاقتها الجماهير الأوروبية وغيرها بسبب فساد الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، فتشبثوا بنظام الإصلاح البروتستانتي في ما بعد ورفضوا تدخل رجال الدين بباقي مناحي الحياة ليقتصر وجوده على دور العبادة.
وأضاف المتخصص في السياسة الدولية الدكتور رامي عاشور أن "الأمر مختلف عربياً، فالنزعة الدينية مسيطرة بسبب عدم الوعي وهي تستخدم للسيطرة والتحكم، إذ قد يلجأ الحكام لاستنفار الشعب وحشدهم مثلاً بقضايا مثل الرسوم المسيئة للرموز الدينية الإسلامية، كما يستمد رجال الدين المكانة في المجتمع لمجرد أن مظهرهم الخارجي يدل على الصلاح، وأنهم يسلكون نهجاً قائماً على تعليمات الكتب المقدسة سواء إسلامية أو مسيحية، ومن ثم يمارسون سطوتهم بعكس الغرب الذي بات لديه عقيدة راسخة برفض تحكم هذه الفئة بعد التعرض للاستغلال على مدى قرون طويلة".
أفيون محدود التأثير
اللافت أن مقولة كارل ماركس كانت تفسر خطأ في الوعي الجمعي الشعبي على أنها دعوة للإلحاد على رغم أن جوهرها كان تحذير للجموع البشرية من المؤسسات التي قد تستغل عقيدتهم وانتماءاتهم الروحانية لعزلهم تماماً عن التفاعل الحيوي مع محيتهم، بخاصة في ما يتعلق بالوضع السياسي، مما يسهم في تكريس الظلم الاجتماعي والتعايش معه، وهذه المهمة التي أداها الاستغلال الديني بجدارة، أثبت وسائل أخرى أنها يمكن أن تشاركها فيها، وفقاً لمتغيرات العصر، وبينها الرياضة على سبيل المثال.
وهنا تعتبر الدكتورة سهير عثمان أن هذه المهمة "الأفيونية" وسيلة أساس من أدوات الإلهاء، وهي تعمل بصورة جيدة في عصر الإعلام الرقمي، ولكنها تكون محدودة بوقت وحدث معين، كما أنها تتعلق بجمهور له صفات وسمات محددة ولديه اهتمامات نوعية، بخلاف قضايا أخرى قد تتسع مساحة المهتمين بها، مثل القضايا الاجتماعية الكبيرة التي بها شق أخلاقي، لافتة إلى أن المؤسسات يمكنها أن تلجأ لصنع الـ "ترند"، وفقاً لحاجتها والمدى الزمني المطلوب.
وشددت على أنه نظراً إلى ارتباط كثير من الـ "ترندات" بتمرير قرارات بعينها من دون مقاومة افتراضية حتى، أصبح كثيرون يتشبعون بنظرية المؤامرة، معتقدين أن كل قضية تبرز على الساحة ملفقة يستغل فيها الاهتمام الجماهيري بهدف التغطية على شيء كبير وعزل الناس عنه من طريق جعلهم مشغولين بأمور أخرى، متابعة أنه "وعلى رغم أن الأمر قد يكون مصادفة بحتة، أي تزامن اتخاذ قرار مفصلي سواء اقتصادي أو سياسي مع ترند ترفيهي منتشر، ولكن نظراً إلى تكرار تلك المواقف بات كثيرون يتوجسون خيفة من أي ترند يبدو غرضه إلهائياً بحتاً".
فزاعة الدين والوضع الاقتصادي
وتعود أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة الدكتورة سهير عثمان لتؤكد أنه على رغم لجوء أنظمة كثيرة لعدد من الوسائل والملفات لإبعاد الجماهير من المشاركة الفعالة، وحتى السيطرة عليهم، إلا أن الدين لا تزال له الغلبة في المنطقة العربية، مشيرة إلى أن النبرة الدينية تعلو تماماً في فترات الأزمات الاقتصادية الطاحنة حين يسعى المسؤولون إلى الضغط بمفاهيم، مثل الصبر على ضيق ذات اليد وأن الرزق بيد الله، وتكثر الدعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تدعو إلى تحمل الوضع الاقتصادي السيئ، وكأن مجرد الاعتراض الكلامي على قرار اقتصادي دنيوي خروج عن الملة.
وعلى هذا النحو قد تبقى بعض الترندات مثالية للغاية وتقدم الغاية منها من دون أن تنفجر في وجه النافخين فيها، وبينها تلك القضايا الترفيهية التي تخرج بين فترة وأخرى، وبعضها متعلق بالنوستالجيا والمقارنة بين القديم والجديد على صعد كثيرة، أو أصول بعض المأكولات التراثية أو الوصفات الجديدة المثيرة للجدل بمكوناتها وتسمياتها، أو حتى متعلق بترندات تتحول بمرور الوقت إلى مادة للتندر، مثل ترند "المرأة غير ملزمة بتنظيف منزل الزوجية" أو التي "تسخر من ظاهرة أشباه المشاهير" مثل السادات والشعراوي، أو تلك التي تتخذ صفة عالمية مثل "التطبيقات الجديدة" التي تتيح رؤية الملامح في مراحل عمرية مختلفة وتصبح هوساً موسمياً.
ولكن بعض الأوقات قد يخرج الأمر عن السيطرة لأن الترند سواء كان دينياً أو ترفيهياً يتعلق بتفاعل جماهيري لا يمكن تقنينه بصورة كاملة أو السيطرة عليه، ومثله أزمة اللاجئين في مصر، أو ترند مقاطعة البضائع الداعمة لإسرائيل في الدول العربية.
ووفقاً لما يرد في كتاب "مدينة المليار رأي" للباحث الإعلامي والكاتب محمد عبدالرحمن الذي يتناول فيه ما سماه "أمراض العصر الرقمية"، فإن بعض الحكومات تشكو استخدام الإشاعات كسلاح ضدها من قوى خارجية، فيما لا تلوم الحكومات نفسها على أنها تركت عقول الناس عرضة لتجريف يمارس بمنهجية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مما جعل انتشار الشائعة أسهل من انتشار فيروس كورونا خلال أيامه الأولى.