Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل السلام أخطر على الطبيعة من الحرب؟

الاستفادة من الموارد الطبيعية ضرورة حتى تختفي الصراعات بين البشر

الحرب تدمر البيئة (أ ف ب)

ملخص

في كتابه الجديد "نحو إيكولوجيا الحرب، تاريخ بيئي للسلام"، الصادر حديثاً في باريس عن منشورات لاديكوفرت (2024)، يوضح الباحث والمفكر الفرنسي المهتم بشؤون البيئة وفلسفتها بيار شاربونييه المولود عام 1983 كيف تفرض الأزمات الجيوسياسية الإسراع في اتخاذ خيار الانتقال والتحول البيئي. ذلك أن دراسة العلاقة بين البيئة وكل الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان لم تعد أولوية أمام عودة الحروب والفوضى الجيوسياسية في أكثر من منطقة في العالم.

ينطلق كتاب "نحو إيكولوجيا الحرب، تاريخ بيئي للسلام" من فرضية غريبة قد تكون "استفزازية" بالنسبة إلى كثيرين، مفادها أن "السلام أخطر من الحرب على الطبيعة والمناخ" وأن التأسيس لشروط إحلاله يتطلب استغلال الطبيعة وتبادل مواردها لتوفير الازدهار للجميع. وهذا يعني أن هذه الفرضية والمنطق الذي تأسست عليه يقومان على فكرة أن الاستفادة من الموارد الطبيعية ضرورة حتى تختفي الصراعات والحروب بين البشر وأن الانصياع للغة العلوم والتكنولوجيا والحوسبة والتنمية هي السبيل الوحيد للسلام بين الأمم.

وبغية توضيح هذه الفرضية يعود بيار شاربونييه إلى التاريخ الحديث فيقول لنا إنه بعيد الحرب العالمية الثانية قام أمراء الحرب الأوروبيون بتوقيع اتفاقية تتعلق بإنتاج الفحم الحجري والغاز والنفط، وصفها أحد مؤسسي الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا وحلف شمال الأطلسي روبير شومان (1886-1963) بـ"التضامن الإنتاجي"، بمعنى تقاسم موارد الطاقة والتنافس عليها. وأسهم هذا الاتفاق برأي شاربونييه في تحقيق استقرار جيوسياسي ونمو اقتصادي واجتماعي ساد خلال الفترة‏ الممتدة بين عامي 1945 و1975، تلك الفترة التي أطلق عليها عالم الاقتصاد الفرنسي جان فوراستيه اسم "الثلاثون المجيدة".

 مثلت "الثلاثون المجيدة" ثورة صامتة أحدثت تغييرات اقتصادية واجتماعية ضخمة، سجلت انتقال أوروبا 40 عاماً بعد الولايات المتحدة إلى مجتمع استهلاكي قائم على التبادل التجاري "الناعم" الذي كانت جذوره الفكرية تعود إلى القرن الـ18 وعصر أنواره، حين أطلقت أولى الدعوات إلى "التجارة الناعمة" كبديل للهيجان الحربي الذي كان يهيمن على أوروبا القديمة. وهذا جلي في كتاب مونتسكيو "روح الشرائع"، الذي دافع فيه عن فكرة أن التجارة تشجع على العمل وتطوي صفحة الحروب.

السلام الكربوني

وبلغ هذا "السلام الكربوني" ذروته بعد الحرب العالمية الثانية، حين قرر الحلفاء تأسيس الأمم المتحدة عام 1945 بحجة أن العالم يريد السلام. فاجتمع ممثلو 50 دولة في سان فرانسيسكو للتداول في شؤون تنظيم العلاقات بين الدول وإنشاء هذه المنظمة الجديدة التي كان من المأمول أن تمنع نشوب حرب عالمية جديدة. وحددت هذه المنظمة التي تتطلع إلى السلام أهدافاً للتنمية بغية "تجنب الحروب" من خلال تعزيز الاقتصاد العالمي. لكن "إرساء أسس نظام دولي يتم فيه كبح الغيرة الاقتصادية وتلبية الرغبة بالسيطرة الإقليمية" يحتاج إلى الطاقة، والطاقة كانت آنذاك أحفورية. وبدلاً من أن تحل المنافسة بين القوى العظمى عبر الأسلحة، تم خوضها خلال الحرب الباردة في تنافس اقتصادي وتكنولوجي عبر السباق لغزو الفضاء والاختراعات، والتي لعبت دور الإشارات الجديدة للقوة خصوصاً بين القوى العظمى كالاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها. ولم تكن الدول المستقلة حديثاً كالبرازيل والهند ودول الخليج بعيدة من هذا السباق، فقد سعت جاهدة إلى تعويض تأخرها التكنولوجي من خلال منظور التنمية، مستغلة بصورة كبيرة الطاقات الأحفورية المستخرجة من باطن أراضيها. وبتعبير آخر بعد الحرب العالمية الثانية تم دمج تطوير البنية التحتية للطاقة الأحفورية بخطاب سلمي عالمي كان الهدف منه القضاء على أسباب الحرب من خلال تعزيز الإنتاجية. وهكذا أصبح السلام أو توازن القوى الكبرى الذي أنشأته الولايات المتحدة، قائماً على الطاقة الأحفورية بعامة والنفط بخاصة، وعلى استنزاف موارد الأرض بكميات تدميرية من معادن وغابات ومياه وغيرها.

 لكن هذا السلام القائم على الوقود الأحفوري لم يكن بحسب بيار شاربونييه قابلاً للبقاء، ذلك أن طرق إنتاجه أصبحت مرادفة لتدمير البيئة وساهمت بصورة خطرة في ازدياد الاحتباس الحراري، مشدداً على فكرة أن تحقيق السلام بين الدول نجح لفترة قصيرة، ولكن على حساب حرب غير مرئية طاولت الأرض والطبيعة، مستعيداً بذلك أطروحة سبق أن دافع عنها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي برونو لاتور (1949-2022).

كان الاعتقاد السائد أن الحروب التي شنها الغرب من أجل النفط في النصف الثاني من القرن الـ20 هي ضمانة للسلام المستقبلي. غير أن اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية وضعت هذه المقولة أيضاً موضع تساؤل، فقد لاحظ شاربونييه أن اعتماد الاتحاد الأوروبي على روسيا الاتحادية لتأمين الطاقة الأحفورية التي يحتاج إليها كان خياراً ساذجاً، وأن "تجارة الطاقة الناعمة كانت بالنسبة لبوتين وسيلة ضغط على أوروبا وأداة في بناء عجزها الجيوسياسي". ولعل إدراك القوى العظمى أن تحقيق الأمن والسلام لم يعد يعتمد على تأمين البنية التحتية للطاقة الأحفورية، جعلها تبحث عن تغيير نموذج إنتاج الطاقة المتبع للوصول إلى تأمين طاقة متجددة ومستدامة. ففي القرن الـ21 أصبحت الطاقة الأحفورية نموذجاً قديماً. فكيف يجب إذاً تأمين حاجات الدول وحفظ أمنها وفي الوقت عينه تعلم صناعة السلام دون تدمير الأرض وثرواتها؟

وفي هذا السياق يأتي حديث شاربونييه عن "إيكولوجيا الحرب" التي يفترض بها تصويب البوصلة نحو الحفاظ على البيئة. ويرى أن عودة الصراع والحروب بين القوى الكبرى هو خبر سار للأرض، لأنه يخفف من "سلام الكربون"، وفقاً لتعبير المؤرخ الأميركي توماس أوتلي الذي بلغ ذروته بعد الحرب العالمية الثانية.

ويؤكد بيار شاربونييه أن الفحم والغاز والنفط كانوا في ما مضى أدوات السلام، لكن في ظل التغير المناخي لم يعد ينظر إلى الفحم والغاز والنفط كأدوات للسلام بل كأسلحة خطرة مثلها مثل الرؤوس النووية خلال الحرب الباردة. فهي "نموذج قد ولى بالنسبة إلى القوى العظمى" بعد أن أصبح العمل من أجل حفظ المناخ والبيئة الضمانة الأولى للسلام والاستقرار، وأصبح الانتقال البيئي مسألة جيوسياسية، تثبتت في قلب الأجندة السياسية الأوروبية. ويصف بيار شاربونييه هذا التحول الذي ميز النصف الأول من عشرينيات القرن الحالي بـ"إيكولوجيا الحرب" مقابل "إيكولوجيا السلام" التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مشيراً بهذا المصطلح إلى اللحظة التي لم تعد فيها الاستدامة والأمن مطالب متناقضة بل تتقارب في الأقل خطابياً لتوجيه العالم نحو خفض انبعاثات الغازات الدفيئة.

القوى الكبرى

ويرى شاربونييه أن عودة الصراع بين القوى الكبرى إدراكاً منها لخطر الطاقات الأحفورية على الكوكب وعلى أمنها الخاص هي أخبار جيدة للأرض. لذا بدأت هذه القوى العظمى مثل الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تنظر إلى خفض الكربون كضمانة للاستقرار، وعدت السباق نحو "صفر انبعاثات" كساحة جديدة للمواجهة. بعبارة أخرى يقول شاربونييه إن عشرينيات القرن الـ21 تمثل بداية عصر جديد للسياسات المناخية. فبعد التحذيرات والمؤتمرات العلمية والسياسية وحملات التوعية والنضال ضد الإنكار، أصبحت قضية المناخ الآن في صميم العلاقات الدولية وفي صميم توازنات القوى. فمرض الأرض وصل إلى مرحلة متقدمة، ولم يعد يتخذ أي قرار دون أن تكون هذه القضية في الأفق. ومستقبل العلاقات القوية بات يعتمد بصورة كبيرة على الخيارات التي ستتخذ لمواجهة الكارثة المناخية، من خلال صلة وثيقة أقيمت بين الحرب والسلام والمناخ.

وفي هذا الصراع المرتقب، سيكون من مصلحة التحالف ما بعد الأحفوري ألا يتجاهل الحق المشروع في التنمية لدول الجنوب، التي لا تزال اقتصاداتها تعتمد بصورة كبيرة على الطاقات الأحفورية المنخفضة الكلفة، وإلا فإن هذه الدول كما هو حال دول غرب أفريقيا، ستتطلع للتعاون مع الدول الأحفورية وعلى رأسها روسيا. فعلى سبيل المثال، إن العقوبات المفروضة على النفط والغاز الروسيين خلقت فرصة لدول الجنوب، وبخاصة الهند التي تمكنت من شراء هذه الطاقة بأسعار منخفضة في الأسواق الدولية، مما أغضب القوى الغربية. بالتالي فإن خطوط الانقسام في السياسة العالمية تميل إلى أن تتماشى مع المواقف تجاه الأزمة المناخية، إذ يحدد كل طرف موقعه وفقاً لمصالحه الفورية ومزاياه وضعفه. باختصار، إن "صياغة السياسات ما بعد الأحفورية ليست هبوطاً سلمياً في عالم المصالح المشتركة، بقدر ما هي فضاء من التنافس المنظم حول البنى التحتية الجديدة والتركيبات الجديدة بين السلطة السياسية واستغلال الأرض".

هذا التصور الجديد للعلاقات الدولية، الصدامي بطبيعته، يتعارض مع التقليد البيئي الذي يتسم بالسلمية ومعاداة المواجهة العسكرية تاريخياً. ويتبنى بيار شاربونييه هذا الموقف بكل وضوح إذ يقول "مثل كل انقلاب، فإن التغيير الذي يجب تنظيمه لن يكون على الأرجح متناغماً أو بلا صراعات".

ويدعو شاربونييه إذاً إلى نهج واقعي في العلاقات الدولية قائم على العالم كما هو، بما فيه من تنافس وصراع بين الدول وليس على ما ينبغي أن يكون، كما تدعو إليه الأيديولوجيا المثالية السائدة في الفكر البيئي. ولتعزيز حجته يعارض البيئة الليبرالية السائدة في الهيئات الأممية منذ الحرب العالمية الثانية، والتي تهدف إلى الحد من الأضرار البيئية الناتجة من "السلام الكربوني" دون المساس بأسسه، أي استخدام الطاقات الأحفورية كبدائل للحرب العالمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن قراءة كتاب "نحو إيكولوجيا الحرب" تثير التساؤل. ذلك أن الفرضية التي يطرحها المؤلف والمتأصلة في الواقعية الجيوسياسية للإيكولوجيا تحمل في طياتها اهتماماً وجاذبية. لكن وكما يجادل المؤلف نفسه، إن تحالف الدول الراغبة في التخلي عن الوقود الأحفوري سيكون بلا شك خبراً ساراً للمناخ، لكن لا يمكننا حصر الإيكولوجيا فقط في مسألة إزالة انبعاثات الكربون والانتقال من طاقة إلى أخرى.

إن حماية التنوع البيولوجي البحري والبري ووقف الاستغلال المفرط للموارد المعدنية والغابات، وحماية الشعوب الأصلية والعمل لمصلحة عدالة اجتماعية بيئية... إلخ، كلها قضايا يتغاضى عنها الفيلسوف المنشغل بسؤال الوقود الأحفوري والكربون. وعلى رغم أن إزالة الكربون من النظام الجيوسياسي الدولي لا تضمن بأية حال من الأحوال تقدماً اجتماعياً وديمقراطياً على المستوى العالمي، فإن الانتقال من الطاقة الأحفورية إلى طاقة صديقة للبيئة في الاقتصادات الغربية سيعيد إحياء الطموحات الإمبريالية للقوى الكبرى، التي نراها تتهافت بشغف على موارد الجنوب. وبمعنى آخر، هل نقبل العيش تحت سيطرة إمبراطوريات جديدة فقط لأنها تزعم أنها غير معتمدة على الكربون؟ بعد الانتهاء من قراءة كتاب "نحو إيكولوجيا الحرب، تاريخ بيئي للسلام" قد نحلم بسلام ما بعد الأحافير، ولكن أيضاً بسلام ما بعد الدولة.

خلاصة القول: الطاقة والمناخ ليسا منفصلين عن الجيوسياسة، وإن العمل من أجل المناخ لم يعد يقتصر على العمل غير الأناني والمجرد من المصالح الخاصة من أجل خير الإنسانية جمعاء، بل أصبح جزءاً من منافسات القوة والدفاع عن أمن الأمة أو التحالف بين الدول. والمفارقة الكبرى في هذا الوضع أنه في هذا السباق نحو "صفر انبعاثات"، يجب الوصول إلى موقع جيد. وللوصول إلى هذا الموقع يتعين على الدول الدخول في المنافسة وعرقلة الآخرين وفرض الشروط، بالتالي تقويض تماسك العمل الجماعي. وللاستفادة من نظام الطاقة الجديد بجاذبيته البيئية (من يستغل الموارد؟ من يعاني العواقب البيئية؟) والتكنولوجية (من يطور براءات الاختراع والمعرفة الضرورية للانتقال؟) والدبلوماسية (من سيتمتع بوضع "بطل المناخ"؟)، تظل استراتيجيات القوة سارية المفعول.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب