ملخص
جاء فوز ثلاثة علماء بجائزة نوبل لهذا العام في الكيمياء (أحدهم بريطاني والآخران أميركيان) تقديراً لجهودهم البحثية في مجال الذكاء الاصطناعي، ليعزز فرص بذل مزيد من الأبحاث في هذا المجال الذي بات "علم القرن الـ21"، بحسب المراكز البحثية العالمية، فيما لا يزال الكثير يعتبرونه خطراً على مستقبل البشرية، بينما يذهب متفائلون إلى أن البشر قادرون على تطويعه لخدمتهم، ومن ثم السيطرة على أخطاره المحتملة. وفي الأعوام الأخيرة صدرت كتب كثيرة حول هذا الموضوع، منها كتاب "حرب الذكاء" للجرَّاح والمفكر الفرنسي لوران ألكسندر وترجمه محمد سيف إلى العربية وصدر حديثاً عن المركز القومي للترجمة في القاهرة.
يرى المفكر الفرنسي لوران ألكسندر أن البشر على رغم الشوط الذي قطعوه في سبر أغوار الذكاء الاصطناعي، منذ بداية القرن الـ21 بصفة خاصة، فإنهم لا يزالون "أسفل الجدار"، أو بالأحرى في مستهل "تنمية متفجرة وباعثة على الدوار بفعل طاقتهم التقنية". ومن ثم فإنه يرى أن على الإنسانية "أن تتهيأ لتسلق الوجه الغامض من تاريخها"، معتبراً في الوقت نفسه أنه لا توجد حتمية في ما يخص المستقبل، لكن أعمالاً منطقية عميقة بوسعها تغيير اتجاهه، ومع أنه ليس مؤكداً حدوث وعي بتطوير الخليَّة العصبية، كاف لتوجيه دفتها، فليس هناك على العكس أي شك بأن البقاء في الجهل والإنكار هو أفضل وسيلة لبلوغ السيناريوهات الأسوأ، "أي سيناريو عالَم يعاني فيه الإنسان مستقبله. عالم من اللامساواة ينتصر فيه من هم أفضل تاركين الباقين تحت رحمة دكتاتورية عقلية".
الثورة الثالثة
وبالنسبة إلى المستقبل يرى لوران أيضاً أن المدرسة، باعتبارها المؤسسة المكلفة بالمهمة الثقيلة لإكمال نقل الذكاء والتعليم، سوف يختفي شكلها الحالي، وما سيجب حسمه في المقابل، هو الطريقة الأكثر أو الأقل إيلاماً التي ستختفي بها، فمقاومة هذا التحول المنتظر ستعني المجازفة بحرمان الأطفال، وبخاصة أولئك الذين أتوا من الأوساط الأكثر حداثة، من الاستفادة من عوائد الوصول الذائع للذكاء. وهو هنا يشدد على ضرورة فهم أن إعادة ابتكار المدرسة سيكون شرطاً لنوع من الإنقاذ أكثر تأسيساً: يتعلق بالإنسانية كلها، لأن المدرسة الجديدة التي سنبتكرها، "عليها أن تمكننا من الكشف عن التحدي الهائل لصلاحيتنا في عالم سرعان ما سيعج بالذكاء الاصطناعي". ويرى لوران أننا في الدوامة الرقمية للقرن الـ21، لم يعد البرابرة هم الذين غيَّروا روما، وإنما الرومان القدامى الذين استيقظوا في الصباح فلم يتعرفوا على مدينتهم... "سيغير مسرح المجتمع تماماً ديكوره، تاركاً الممثلين السابقين الذين أزاحهم في مشهد جديد كمحظيات القرن العظيم اللواتي تم الإتيان بهن إلى قلب ضواحي باريس" ص15.
النانو تكنولوجي والبيوتكنولوجي والمعلوماتية وعلوم الدماغ، هي أربع تقنيات تشكل قوام الثورة العلمية الثالثة التي نعيشها حالياً وتثير فينا الفزع من المستقبل أكثر مما تثير الاطمئنان. ويرى لوران أن هذه الموجة لا تمثل وحسب ثورة إضافية، فهي تتسم بثلاثة اختلافات مع الموجة التي سبقتها وامتدت من 1870 إلى 1910، مع مولد الطيران والسيارة والكهرباء والاتصالات الهاتفية، أولها، أن "فرنسا الزمن الجميل كانت في المقدمة وقد لقَّنت العالم إيقاع التغيير، واليوم هي خارج هذا"! ومن ثم صار موضوع هذه التقنيات الأربع هو تعديل مسار إنسانيتنا البيولوجية، ولم يعد هو التلاعب بالمادة الجامدة. وأخيراً تشهد هذه التقنيات تطوراً استثنائياً، وهو ما يولد توقعات هائلة ويجدد باستمرار الخرائط الاقتصادية والجيوسياسية.
نقل المعرفة
ويؤكد لوران أن نقل المعرفة لن يكون على الشكل نفسه الذي كان قائماً قبل القرن الـ21، وقد انعكست إشكاليته بالكاد: فالبالغ هو الذي يجب أن يجتهد ليثبت أنه ملم بالتقنيات الحديثة. ولا يعني هذا أن الأصغر سناً لم يعودوا بحاجة إلى التعليم، فمضمون المعارف الضرورية لفهم عالمنا لا بد من إعادة التفكير فيه: صارت التقنيات الأربع معارف لا يمكن الإحاطة بها من خلال نظام التعليم الحالي، باعتباره تقنية نقل للذكاء، وباعتباره تقنية تمَّ تحولها وتعيش لحظاتها الأخيرة. ويتوقع لوران أنه ابتداء من 2035 سيكون التعليم "فرعاً من الطب"، يستخدم الموارد الهائلة لعلوم الإدراك كي يشخصن أولاً التحول، ويستهدف بالتالي الذكاء بيوإلكترونياً. وفي حوالى 2080، سيجيء عالَم مهيمَن عليه بواسطة الذكاء الاصطناعي. وسيكون التحدي أمام الإنسانية هو الدفاع عن بقاء الجسد الفيزيائي، بالقيام بالاختيار الحر للاحتفاظ بصلة مادية لتجنب الذوبان في عالم افتراضي. هذا الأفق النهائي يبدو بعيداً، يقول لوران، "ومع ذلك فالانقلابات الأولى في التعليم بدأت، وهذا الكتاب يشرح لماذا بدأت، ويشرح لماذا وكيف أن أحفاد أبنائنا لن تكون لديهم مدرسة، بالشكل الذي نعرفه نحن".
مسخ فرنكشتاين
يتساءل لوران عمَّا إذا كان الذكاء الاصطناعي سيتحول إلى تهديد، على غرار المسخ الذي صنعه فيكتور فرنكشتاين، في رواية ماري شيللي الصادرة عام 1818. وهو يرى أن للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أولاً فهم ما هو الذكاء الاصطناعي. الذي ابتكره علماء يشبهون في مظهرهم ذلك الشاب السويسري في رواية شيللي، ومعظمهم أميركيون وصينيون. يتألف كتاب لوران من مقدمة ومداخل عدة يتبعها 15 فصلاً، و"تذييل" تحت عنوان "رسالة إلى أولادي". وجاء في تلك الرسالة: "لا تكونوا ضحايا مدرسة تؤهل اليوم لمهن الأمس، لا تكونوا جراحين فمهنة الجراحة ستكون روبوتية 100 في المئة عندما تنهون دراساتكم للطب، وعلى وجه الخصوص لا تدرسوا في مدرسة الإدارة العليا: هي مدرسة من النوع الذي لا يعترف بقانون مور ولا يجب أن توجد، وتذكَّروا أن أساتذتكم يعرفون عن المستقبل أقلَّ منكم بكثير" ص 272.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتوقع لوران في هذا الصدد أنه بدءاً من 2030، فإن الذكاء الاصطناعي المجهَّز بعقل رشيد، الذي يضم روبوتات متعددة الكفاءة بأسعار في المتناول، سوف يغير جذرياً سوق العمل، وسيقلب كل شيء في العمق، حتى النظام السياسي والاجتماعي. وهو هنا يدعو إلى "دمقرطة الذكاء الاصطناعي"، حتى لو كانت النخب السياسية والاقتصادية مقتنعة بالاختلافات الهائلة بين الكفاءات العقلية.
نبوءة مزدوجة
إن الذكاء الاصطناعي بوسعه تدمير العمل، إضافة إلى خطورة أن يصبح عدائياً، وهذه النبوءة المزدوجة ساقت، كما يقول لوران، إلى مقترحيْن: تطوير العائد العام، "الوظائف للروبوتات، والحياة لنا"، وتصنيع تقنيات رفع الكفاءة الدماغية، "كي نرتفع نحن لمستوى الذكاء الاصطناعي الذي يُعتقَد أنه سيصبح عدائياً على المدى المتوسط" ص 267. ويرى صاحب كتاب "سقوط السرطان" أن الخوف من الموت، وبالتالي الرغبة في تسريع "موت الموت" المسيطرة على عقول عدد من رواد الذكاء الاصطناعي، يمكن أن تعمل على تسريع بزوغ ذكاء اصطناعي ضروري للغاية من أجل دفع الأبحاث المتعلقة بالشيخوخة التي هي ظاهرة فائقة التعقيد، دون أن تكون لدينا أدوات الملاحظة والمراقبة، و/ أو التي تعمل أيضاً من أجل التحامنا مع السيليكون للحصول على خلود رقمي، يحل محل الحياة الدائمة البيولوجية. ويضيف أنه بهذا المعنى، سيكون من الحكمة قبول الموت لعدة قرون مقبلة، وتنظيم الذكاء الاصطناعي. ولوران على قناعة بأنه لو لم تعمل "المدرسة" سريعاً على دمقرطة الذكاء البيولوجي، ستنظم نخبة صغيرة للغاية تقنية مسار عبور إجباري صوب حضارة متحولة للإنسانية، ومن ثم فإن علينا أن نرفض الذوبان الكامل بين الأدمغة الاصطناعية، والبيولوجية، منتهياً إلى أن "المعلم" يجب أن يكون هو صاحب المهنة الأكثر أهمية في القرن الـ21.
وتبقى أسئلة عدة معلّقة: كيف يجب أن يتطور التعليم في عالَم سيكون للذكاء الاصطناعي فيه قوة فائقة؟ وما الذي ستكون عليه مهنة المعلم في 2050، وكيف سنتصرف في مواجهة قادة الذكاء الاصطناعي الأميركيين والصينيين، الذين سينافسون "المدرسة" في الغد؟ وهل يتطلب الأمر، كما يقترح وادي السيليكون، زرع دوائر مدمجة في أدمغة الأطفال لتجنب تهميشهم في مواجهة الذكاء الاصطناعي؟