ملخص
على مدى أربعة عقود استثمرت إيران في مشاريع تهدف إلى تعزيز نفوذها الإقليمي، لكنها تواجه تحديات متزايدة بعد الهجمات المتكررة من إسرائيل وعدم نجاح استراتيجيتها في الردع. في ظل تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد وكلاء إيران قد تدفع نقاط الضعف المتزايدة النظام الإيراني للمخاطرة بتطوير أسلحة نووية، مما قد يؤدي إلى تفاقم مشكلاته الداخلية والخارجية بدلاً من تحسين موقفه الاستراتيجي.
على مدى أربعة عقود وفي محاولة للحفاظ على وجودها وبسط نفوذها الإقليمي وردع أعدائها استثمرت إيران في ثلاثة مشاريع، وهي تمويل شبكة من الحلفاء غير الحكوميين وتسليحهم، وتطوير الصواريخ الباليستية القادرة على الوصول إلى خصومها، وإطلاق برنامج نووي يمكن تخفيفه لتحقيق فوائد اقتصادية أو توسيعه لإنتاج سلاح نووي. وبسبب النكسات التي لحقت بالمشروع الأول والنتائج المتباينة التي حققها المشروع الثاني، وعدم اليقين في شأن المشروع الثالث أصبحت هذه الاستراتيجية محل تساؤلات متزايدة.
وبعد هجوم "حماس" خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل سارعت المجموعات التابعة لـ"محور المقاومة" المدعوم من إيران في حشد قواتها للتحرك على جبهات متعددة. ففي اليمن هددت صواريخ الحوثيين ومسيراتهم حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، وفي العراق وسوريا أطلقت الميليشيات طائرات مسيرة وصواريخ على القوات الأميركية، وفي لبنان كثف "حزب الله" إطلاق النار عبر الحدود باتجاه إسرائيل. وبينما شنت إسرائيل حملتها العسكرية في غزة سعت أيضاً إلى إخماد طوق النار الإيراني المحيط بها من جبهات متعددة، بما في ذلك استهداف أفراد الحرس الثوري الإيراني. وخلال أبريل (نيسان) الماضي أسفرت غارة إسرائيلية على مبنى ملحق بالقنصلية الإيرانية لدى دمشق عدتها القيادة في طهران اعتداء مباشراً على أراضيها السيادية، عن مقتل عدد من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني. ورداً على الخسائر المتزايدة في ضباط الحرس الثوري الإيراني داخل لبنان وسوريا شنت طهران للمرة الأولى هجوماً عسكرياً مباشراً ضد إسرائيل. وأبلغت إيران الولايات المتحدة بصورة غير مباشرة عن هجومها مسبقاً مما جعل وابل المسيرات والصواريخ عقيماً إلى حد كبير. ومع ذلك، أعلن قادة إيران نجاح هجومهم.
وربما تكون الضربة خلال أبريل الماضي التي أطلق عليها اسم "عملية الوعد الصادق" أرست سابقة في التنافس الطويل الأمد بين إسرائيل وإيران، ولكنها لم تسهم كثيراً في تعزيز الردع بالنسبة إلى طهران. فقد ردت إسرائيل سريعاً بضربة دقيقة على منشأة للدفاع الجوي قرب أصفهان مما كشف عن نقاط ضعف الحرس الثوري الإيراني على مقربة من منشآت نووية متعددة، وردع طهران موقتاً في الأقل عن توجيه ضربة مباشرة أخرى إلى إسرائيل. وقد قللت الحكومة الإيرانية من أهمية الحادثة. ولكن خلال أواخر يوليو (تموز) الماضي انكشفت نقاط ضعف إيران مرة جديدة من خلال عملية إسرائيلية لم يكن من السهل تجاهلها، تمثلت في مقتل زعيم "حماس" إسماعيل هنية أثناء وجوده في طهران لحضور مراسم تعيين الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.
ولكن هذه المرة وعلى رغم التصريحات النارية امتنع النظام عن الرد، وكانت الجهود التي قادتها الولايات المتحدة لإرساء وقف إطلاق النار في غزة أحد الأسباب المعلنة لذلك، إضافة إلى التحذيرات الموجهة للحكومة الإيرانية الجديدة بأن محاولاتها الرامية إلى تحسين العلاقات مع الغرب قد تتضرر قبل أن تتاح لها فرصة اختبارها. فضلاً عن ذلك، فإن الزيادة في عدد السفن الحربية والمقاتلات الأميركية في المنطقة والمخاوف من أن ترد إسرائيل بقوة ساحقة على أي رد إيراني ربما أثرت أيضاً في قرار طهران بعدم اتخاذ مزيد من الإجراءات.
ولكن اتضح أن الأمر مجرد هدنة موقتة. فلم تحرز المفاوضات في شأن غزة أي تقدم واضح نحو وقف إطلاق النار في حين بدأت إسرائيل في تكثيف عملياتها على الجبهة الشمالية ضد "حزب الله"، وهو لا يعد الحليف الأقرب لإيران فحسب بل أيضاً الجهة التي أسهمت طهران في تعزيز قدراتها العسكرية أكثر من غيرها كجزء من ضمانة ضد أي هجوم على الأراضي الإيرانية. كانت عملية الـ17 من سبتمبر (أيلول) التي فجرت الآلاف من أجهزة النداء الآلي (بيجر) التي يستخدمها عناصر "حزب الله" بمثابة بداية لحملة سريعة أسفرت خلال أقل من أسبوعين عن مقتل نحو 16 من كبار قادة الحزب، بمن في ذلك الأمين العام حسن نصرالله. وكانت الضربات الإسرائيلية على "حزب الله" بارزة سواء من حيث القدرات الاستخباراتية أو العسكرية التي كشفت عنها، بما في ذلك القدرة على اختراق الاتصالات الداخلية وتعقب تحركات عناصر الجماعة. وبالنظر إلى أن طهران كانت عرضة بالفعل لعدد من العمليات الإسرائيلية السرية في الماضي بما في ذلك ضد مواقع نووية وأفراد، فقد تكف عن الاعتقاد بأنها محصنة ضد مثل هذه العمليات الإسرائيلية أيضاً.
ومن المرجح أن قادة إيران لم يروا أنفسهم إلا أمام خيارات سيئة، إما الوقوف مكتوفي الأيدي وخسارة ما تبقى من ردع طهران المتضائل كخصم وصدقيتها كحليف، أو الدخول في المعركة مرة أخرى على رغم أخطار التعرض لرد إسرائيلي أعنف. ومن دون سابق إنذار شنت إيران هجومها المباشر الثاني على إسرائيل خلال الأول من أكتوبر الجاري، وقدرت وزارة الدفاع الأميركية أنه كان ضعف حجم الهجوم خلال أبريل (تسببت الصواريخ الباليستية البالغ عددها 180 في بعض الأضرار في قاعدتين جويتين عسكريتين إسرائيليتين، وهو ما قد يثير المخاوف في شأن احتمال وقوع هجمات إيرانية في المستقبل، على رغم أن الجيش الإسرائيلي وكبار المسؤولين الأميركيين اعتبروا أن تأثيرها كان "غير فعال" من الناحية العملية).
قوة الجمهورية الإسلامية تضاءلت بلا شك
هذا الهجوم، الذي أطلقت عليه طهران اسم "عملية الوعد الصادق 2" كان مخاطرة أكبر بكثير من العملية التي حملت ذات الاسم خلال أبريل الماضي، إذ كان بمثابة دعوة لرد فعل إسرائيلي أثناء وقت شعر فيه الإسرائيليون (وبعض كبار المسؤولين في واشنطن) بالتفاؤل حيال السرعة والابتكار الذي نجحت به إسرائيل في تقويض قيادة "حزب الله" وقدراته العسكرية. وقد نصح الرئيس الأميركي جو بايدن إسرائيل علناً بعدم مهاجمة المنشآت النووية والنفطية الإيرانية، خلال وقت قد تخفف الحملات العسكرية الجارية في كل من غزة ولبنان قليلاً من الرد الانتقامي الإسرائيلي الذي أشار إليه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأنه سيكون "قاتلاً ودقيقاً ومفاجئاً خصوصاً". ومع ذلك حتى لو أمكن احتواء هذه الجولة من التبادلات والاشتباكات، فقد تثبت مرة أخرى أنها مجرد فترة استراحة قصيرة.
مع إضعاف وكلائها وفشل القصف الصاروخي الثاني الإيراني في إحداث أضرار جسيمة وتفوق قدرات خصومها من الناحية العسكرية والاستخباراتية، فقد تضاءلت قوة الجمهورية الإسلامية بلا شك. وليس من المستغرب أن جزءاً متزايداً من النخبة السياسية والقنوات الدعائية أصبح يعبر الآن علناً عن مطالب كانت مجرد همسات في السابق، على غرار التخلي عن الواجهة السلمية المزعومة للبرنامج النووي والمضي قدماً نحو تطوير الأسلحة النووية باعتبارها الرادع النهائي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقدر مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بيل بيرنز أخيراً أن الوقت الذي تحتاج إليه إيران لكي تجتاز مرحلة التخصيب وهو الوقت اللازم لتخصيب ما يكفي من المواد الانشطارية إلى مستويات يمكن استخدامها لصنع قنبلة واحدة، قد يبلغ "أسبوعاً أو أكثر قليلاً". ومن ثم فإن الأمر لن يستغرق سوى بضعة أشهر أخرى لتحويل هذه المادة إلى سلاح جاهز للاستخدام. وبالنظر إلى الطبيعة المتقدمة لأنشطة إيران النووية إضافة إلى الانتكاسات في الأجزاء الأخرى من استراتيجيتها الثلاثية، فإن النظام لديه الدافع والفرصة لاتخاذ قرار كثيراً ما تم تأجيله. ولكن لثلاثة أسباب فإن هذه الخطوة قد تؤدي إلى تفاقم مشكلات النظام بدلاً من حلها.
إن السبب الأول هو أنه حتى إذا استثنيت المنشآت النووية الإيرانية من رد الفعل الإسرائيلي الأولي فإن أي اندفاع نحو التسلح، وهو أمر سيكتشف "خلال وقت مبكر نسبياً" بحسب تقديرات بيرنز، قد تعده تل أبيب وواشنطن سبباً للحرب مما يضع المواقع النووية الإيرانية الرئيسة في مرمى نيران إسرائيل وربما الولايات المتحدة. وعلى رغم أن إسرائيل يمكن أن تلحق أضراراً بالغة بالمنشآت النووية الإيرانية المحصنة بشدة والمنتشرة على نطاق واسع، فإن الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على إبطاء برنامج إيران بصورة كبيرة.
من غير المرجح أن تتمكن الترسانة النووية من حل المعضلات الاستراتيجية التي تواجه إيران.
ومن المفارقات أن المشكلة الثانية برزت بوضوح بسبب أفعال الحكومة الإيرانية بحد ذاتها، فأصبحت الحجة المؤيدة للسعي إلى امتلاك سلاح نووي كوسيلة ردع نهائية أضعف، وذلك نتيجة استعداد طهران لتنفيذ هجمات تقليدية ضد قوتين نوويتين هذا العام هما إسرائيل وباكستان. وبمعنى آخر إذا لم يكن هدف إيران يقتصر على ضمان بقاء النظام بل أيضاً ثني الخصوم عن شن هجمات مضادة، فمن غير المنطقي توقع تحسين الردع بوسائل لم تفلح في ردع طهران نفسها.
أما التحدي الثالث الذي سينشأ من السعي إلى بناء ترسانة نووي فهو الانهيار المحتمل في الأقل في المدى القريب إلى المتوسط لأية فرصة لاستخدام البرنامج النووي كورقة ضغط لتخفيف العقوبات الدولية. فخلال أواخر سبتمبر كانت حكومة بزشكيان تجس نبض القوى الغربية حول إمكانية استئناف التفاعلات وتجديد العلاقات. إذا طورت طهران أسلحة نووية فإن المشاركين الأوروبيين في اتفاق 2015 النووي (فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة) سيعيدون بالتأكيد النظر في هذه التفاعلات الأولية. وبدلاً من ذلك، سيتولون زمام المبادرة في إعادة فرض العقوبات الدولية التي رفعت بموجب ذلك الاتفاق، وإعادة تصنيف الجمهورية الإسلامية على أنها تهديد للأمن الدولي وفقاً لميثاق الأمم المتحدة.
وبالنسبة إلى القادة الإيرانيين، فإن الكشف المفاجئ عن نقاط ضعف إيران ربما يغذي ميلهم ورغبتهم المتزايدة في المخاطرة، على أمل التعويض عن الإخفاقات المتراكمة ومنع حدوث إخفاقات مستقبلية. ولكن من المستبعد أن يؤدي تغيير عقيدة إيران النووية إلى حل المعضلات الاستراتيجية التي تواجهها، ومن المرجح أن يؤدي التحرك نحو امتلاك سلاح نووي إلى نشوب صراع في الأمد القريب. أما في الأمد الأبعد فحتى الحصول على وسيلة ردع نهائية لن يحمي النظام بالضرورة من الأعداء في الداخل والخارج، الذين سيستمرون في استغلال تفوقهم الاستخباراتي، وضعف الأسلحة التقليدية في إيران، وتدهور اقتصادها، وتآكل شرعيتها.
علي فائز هو مسؤول برنامج إيران في "مجموعة الأزمات الدولية".
مترجم من "فورين أفيرز"، الـ11 من أكتوبر 2024