Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من أجل سردية للكسكسي

توالت مرويته جيلاً بعد آخر وهو المرآة التي تحيل الأمازيغي إلى ملامحه وتذكره بجزء من تاريخه العريق

الشيف الجزائري رابح أوراد يقوم بإعداد طبق من الكسكسي (أ ف ب)

ملخص

يمثل الكسكسي جزءاً من هويتنا ومن فخرنا وتاريخنا، وقد تتغير المكونات الأولية التي تشكل طبق الكسكسي لكنه لا يغير أصالته ولا يخون أرض ميلاده الجزائر ولا ينكس نظره عن السماء الزرقاء فوق الأيدي الناعمة الساحرة التي تفتله بجلال.

يشكل تاريخ الكسكسي سردية هوياتية وزراعية وحضارية فريدة ومثيرة في الجزائر وشمال أفريقيا، فالكسكسي وقبل كل شيء هو أكلة المقاسمة والتشاركية، ففي الأعراف النبيلة لا يتناول الكسكسي مفرداً أبداً بل يؤكل جماعياً أو عائلياً، والناس جلوس حول مائدة دائرية بقوائم قصيرة، في مثل هذه اللحظات السعيدة لا تسمع سوى موسيقى الملاعق.

والكسكسي وجبة المصالحة والضيافة الأمازيغية السخية، ومن غرائب الأمور أنه صحن الفقراء والأغنياء على حد سواء، ويستهلك في الشتاء وفي الصيف بمرق ساخن أو بارد، أحمر اللون أو أبيضه، طعام المواسم الأربع، لذيذ أيام البرد القارس وشهي أيام القيظ، وهو أكلة الملوك والرعايا على حد سواء، وجبة السعادة في حفلات الأعراس والبارود ووجبة الأحزان في المآتم والجنائز، ليظل الكسكسي أسطورة أمازيغية بامتياز.

منذ غابر الأزمان توالت سرديته جيلاً بعد جيل، حكاية بعد حكاية، مروية بعد مروية، متشابكة مع سردية تاريخ الشعوب الأمازيغية التي تعيش والتي عاشت في جغرافية ثابتة تارة ومتغيرة تارة أخرى، تسمى بلاد شمال أفريقيا الميمونة.

الكسكسي هو المرآة التي تحيل الأمازيغي إلى ملامحه وتذكره بجزء من تاريخه العريق المعقد، تاريخ مكتوب بطريقة غير صحيحة ومدرّس بطريقة غير دقيقة، وتاريخ في حالات كثيرة يُروى مشوهاً.

إن قراءة تاريخ بلاد الأمازيغ من خلال تاريخ الكسكسي ليست بالأمر الهين، لكنها إحدى الطرق الأكثر صدقاً، فالكسكسي هو الذاكرة المشتركة والتاريخ الذي يخفي خلفه وفيه تاريخاً آخر، وأعني به تاريخ الزراعة، زراعة القمح والشعير والذرة والرز، إنه سجل حافل بخصائص تاريخ فن الطهي الأمازيغي، ثقافة المائدة، ريبرتوار عامر ومقدس لجميع الأعياد الأمازيغية الدينية والمدنية والأسطورية والوطنية، أكلة الملك أقليد ماسينسيا ويوغرطة والكاهنة وكسيلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إنه شهادة حية عابرة للأزمان على تاريخ الضيافة الأمازيغية بكل طقوسها ونبلها، فقد سافر الكسكسي إلى جهات العالم جميعها، وكان أيضاً بطاقة دعوة فصيحة للآخر من أطراف العالم للمجيء إلى طاولته الكريمة.

للكسكسي مكانة كبيرة وشهية في الآداب العالمية، نجده وبأوصاف دقيقة تارة وعامة تارة أخرى في الأعمال الأدبية الخالدة، تلك الأكثر مقروئية بين شعوب العالم جميعها عبر كل المراحل التاريخية المختلفة، نجده عند سيرفانتيس ورابليه وألكسندر ديماس الأب وجورج ساند وألفونس دودي وابن خلدون وابن رشد وابن طفيل وابن زيدون وابن بطوطة والبكري وليون الأفريقي ومولود فرعون ومحمد ديب ومولود معمري ونبيل فارس وعبدالحميد بن هدوقة ورضا حوحو وإبراهيم الكوني ومحمود المسعدي وأبو القاسم الشابي وبشير خريف، وله حضور مميز في السينما، في أكبر الأفلام الجزائرية عند سليم رياض والأخضر حمينة وأحمد راشدي وعمار العسكري ومحمد شويخ وبنعمر بختي وبلقاسم حجاج ومرزاق علواش وسعيد ولد خليفة، وله الحضور الواضح في المسرح فنلقاه في مسرحيات بشطارزي وقسنطيني وعلالو وكاكي وعلولة وبن قطاف وبوقرموح وزياني شريف عياد وأدار، ويحضر بقوة في الفن التشكيلي العالمي والجزائري والمغاربي، ونعثر عليه بتميز في لوحات باية وعائشة حداد وأسياخم وبيكاسو ورونوار وموني وديني ودولاكروا وماتيس وقريشي ومسلي.

ويشكل رصيد الكتابة عن الكسكسي مكتبة عامرة وفريدة من الشعر الفصيح والشعبي والرواية والمسرح والقصة والنقد والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والغناء والموسيقى.

وعبر التاريخ الإنساني احتفل بالكسكسي بكل لغات العالم تقريباً، بالأمازيغية، بفروعها القبائلية والشاوية والتارقية والشلحية والمزابية، والعربية الفصيحة والعاميات واللاتينية والفرنسية والإنجليزية واليونانية والإسبانية والإيطالية والمالطية والتركية والعبرية.

إنها الحبة العجيبة بأسرارها المدهشة، إذ يمثل الكسكسي جزءاً من هويتنا ومن فخرنا ومن تاريخنا، وقد تتغير المكونات الأولية التي تشكل طبق الكسكسي لكنه لا يغير أصالته ولا يخون أرض ميلاده الجزائر، ولا ينكس نظره عن السماء الزرقاء فوق الأيدي الناعمة الساحرة التي تفتله بجلال.

جميع نساء قريتي والقرى الأخرى موهوبات حين يجلسن قدام قصعة الكسكسي، موهوبات ليس فقط في تحضير الكسكسي، ومع ذلك أرى أمي متفوقة عليهن جميعاً، نعم جميع الأمهات متفوقات دائماً ومبدعات أبداً.

لكل امرأة سرها في تحضير الكسكسي، خضره وتوابله وملحه وتفويره، إن الكسكسي مثل الحب لكل واحدة حكايتها فيه ومعه التي لا تشبه الحكايات الأخرى.

سابقاً كنا نتناول الكسكسي كل يوم تقريباً، في الغذاء كما في العشاء، لكن تغيرت الأحوال اليوم وأصبحنا نأكله يوم الجمعة، فلقد دُين الكسكسي أيضاً.

ثلاثة أمور تمثل الاستثناء الثقافي عندنا، الكسكسي والبرنس والحصان البربري، فهذا الثلاثي مضافاً إليه بعض القضايا الأخرى، هي الفاتحة التي تشكل القاعدة المتينة لوحدة دائمة وصادقة بين شعوب بلدان شمال أفريقيا.

وأخيراً في عام 2020 صنفت منظمة الـ "يونيسكو" الكسكسي في قائمة التراث العالمي الذي يجب أن يحفظ ويصان ويحتفل به، وجبة شهية طيبة وذكية.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء