ملخص
يبدو أن "الخط الرابط" لهؤلاء المعمرين المغاربة الذين رحلوا أو حتى لمن يسيرون في طريق أن يكونوا معمرين، كونهم عاشوا حيوات بسيطة غير معقدة، صحياً ونفسياً أيضاً، من دون حتى أن يكونوا متعلمين في كثير من الحالات.
إذا كانت أعمار الناس في الغالب ما بين الـ60 والـ70 فإن قليلين بالفعل من تتجاوز أعمارهم الـ80، وقلة القلة من يتجاوزون قرناً من الزمان.
في المغرب غالب المعمرين الذين يتجاوزون 100 سنة غادروا الحياة وأشهرهم وعميدهم على الإطلاق الشيخ المسن محمد البواشري الذي كان يلقبه معارفه قيد حياته "عبو"، والذي بلغ 140 سنة عندما وافته المنية خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2017.
ويعزو كثر "أسرار" الحياة المديدة لهؤلاء الأشخاص المعمرين إلى نمط الحياة الذي كانوا يتبعونه خصوصاً في البوادي والقرى المغربية، فضلاً عن ابتعادهم من ضغوط الحياة المعاصرة المثقلة بالمشكلات والإكراهات والتعقيدات.
عبو عاصر سبعة ملوك
ينعت كثر في المغرب البواشري الملقب بـ"عبو" بأنه أكبر معمر على الإطلاق في المغرب المعاصر وأحد أكبر المعمرين في أفريقيا والوطن العربي، فقد ناهز عمره الـ140 سنة فيما تقول بعض الروايات إنه بلغ 138 سنة عند وفاته.
ويبقى مؤكداً حسب عديد من سكان قرية عبو التي عاش وتوفي فيها بضواحي مدينة تاونات أن هذا المعمر عايش وعاصر سبعة ملوك وسلاطين من الدولة العلوية التي حكمت المغرب، ابتداء من أواخر القرن الـ19 وطيلة القرن الـ20، و17 عاماً من القرن الـ21.
وتفيد المعطيات المتوافرة حول هذا المعمر الراحل وفق ما كان يحكي بنفسه لمن يعرفه ولزواره في بيته المتواضع، أنه عاصر سبعة ملوك مروا على المغرب، هم على التوالي السلطان الحسن الأول والسلطان المولى عبدالعزيز والسلطان المولى عبدالحفيظ والسلطان المولى يوسف، والسلطان محمد الخامس، والملك الحسن الثاني ثم الملك الحالي محمد السادس.
كتاب تاريخي يمشي على الأرض
ويقول الناشط والباحث المحلي في دوار القلعة، حيث عاش المعمر عبو، عبدالواحد صحابي إن هذا المعمر يعد مفخرة القرية والمغرب كله، فقد كان قيد حياته ذاكرة حية متقدة ومشتعلة لم تعرف العياء أو النسيان على رغم تقدمه الطاعن جداً في السن.
واسترسل المتكلم ذاته بأن أبناء الدوار (القرية) كانوا يستمعون إلى قصصه ويوقرونه ويأتون إلى بيته ويسعون إلى خدمته بكل ما يستطيعون، فقد كان رمزاً للشيخ الصلب الذي عارك الحياة ونال منها واستطاع العيش فيها بعمر لم يتجاوزه أحد من قبل، حسب كثر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأورد الناشط أيضاً أن "المعمر الراحل عبو كان كتاباً تاريخياً يمشي على الأرض، إذ عاش أحداثاً تاريخية شهدتها البلاد والعالم أيضاً منها ثورة الجيلالي بن عبدالسلام الذي اشتهر تاريخياً بلقب (بوحمارة)، الذي تمرد على الدولة المغربية بمدينة فاس أواخر القرن الـ19 الميلادي".
وأكمل الباحث "عايش المعمر عبو أيضاً حدثاً تاريخياً مؤسفاً بارزاً عرفه المغرب هو ما يسمى (عام البون) أو (عام الجوع) في عهد الاستعمار الفرنسي، عندما عانى المغاربة ومات الآلاف منهم بسبب الجوع خلال الفترة بين 1940 و1945".
ووفق المصدر عينه عاش عبو في أتون المقاومة المغربية ضد الاحتلال الفرنسي وشارك فيها، ودافع كجندي عن فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية وأسهم في الحرب الهندية الصينية.
المعمر الناجي
وإذا كان المعمر عبو رحل عن دنيا الناس وهو في عمر 140 سنة أو أقل بقليل، فإن هناك معمراً مغربياً ما زال على قيد الحياة وقد يحطم هذا "الرقم القياسي" إذا أمد الله في عمره، هو الحاج حسين بيجديكن الذي يبلغ حالياً 124 سنة، ويقطن في منطقة الحوز التي تعرضت لزلزال مدمر خلال سبتمبر (أيلول) 2023.
ولهذا المسن قصة عجيبة مع الزلزال الذي هز المغرب ذات ليلة من ليالي سبتمبر الباردة، فقد تهدم جزء من بيته فوق رأسه وظل تحت الأنقاض يتلو أذكاره الدينية ويردد آيات من سورة "يس" قبل أن يفطن إليه أحد أبنائه، ويستطيع إخراجه من تحت الركام دون أن يصاب بأذى.
واشتهر هذا المعمر الناجي من هذا الزلزال عندما هبَّ إليه عدد من القنوات التلفزيونية العالمية سائلة عن أحواله وطريقة نجاته من هول الزلزال الذي قتل مئات الأشخاص، ونجا منه هذا الرجل المسن بلحيته البيضاء وجلبابه الأبيض الذي لا يكاد يفارقه في حله وترحاله.
ومن المعمرين المغاربة الراحلين الذين اشتهر ذكرهم بين الناس ووسائل الإعلام أيضاً الحاج قدور المقصوري الذي توفي خلال ديسمبر (كانون الأول) 2015 وعمره آنذاك ناهز 130 سنة، وكان يعيش في إحدى بوادي مدينة الجديدة، وبدوره عاصر سبعة ملوك وسلاطين من الدولة العلوية في المغرب مثل المعمر عبو، لكنه توفي وهو أصغر سناً منه.
وبمدينة وجدة شرق المملكة المغربية عرف الحاج محمد قلقول بأنه أحد أكبر المعمرين في المغرب قبل أن تدركه المنية خلال ديسمبر 2013 عن عمر ناهز 115 سنة، وشارك قيد حياته في الحرب العالمية الأولى بصفته جندياً مع الجيش الفرنسي، وكان يقتات من مهنته البسيطة كحلاق، وامتهن أيضاً الحجامة الشعبية وختان الأطفال.
أكل وحركة وصفاء نفسي
ويبدو أن "الخط الرابط" لهؤلاء المعمرين المغاربة الذين رحلوا أو حتى لمن يسيرون في طريق أن يكونوا معمرين أنهم عاشوا حيوات بسيطة غير معقدة صحياً ونفسياً أيضاً، دون حتى أن يكونوا متعلمين في كثير من الحالات.
وتقول في هذا الصدد الباحثة السوسيولوجية ابتسام العوفير إن الحياة السليمة الخالية من الأكل غير الصحي الذي تُعرف به المدن والحواضر بصورة أكبر، أحد أهم الأسباب التي تساعد في امتلاك حياة مديدة "على رغم أن الأعمار تظل بيد الله" وفق تعبيرها.
وتضرب العوفير المثال بالمعمر الأشهر عبو الذي كان وفق ما حكي عنه في روايات متطابقة من جيرانه ومعارفه أنه لا يتناول سوى الأكل الطبيعي الذي يخرج من الأرض، ويُكثر من تناول زيت الزيتون والتمر والخضر غير المعالجة بالمواد الكيماوية كما هي الحال اليوم.
وعامل آخر لفتت إليه الباحثة السوسيولوجية يسهم في امتلاك حياة مديدة مثل هؤلاء المعمرين هو الحركة البدنية، فعلى رغم أن هؤلاء المعمرين لم يكونوا يعرفون شيئاً اسمه الرياضة فإنهم كانوا يقومون بها بصورة فطرية عندما ينهضون ويقومون بأعمال الحقل ويركبون الخيل والدواب، ولا يفترون عن المهام التي تتطلب جهداً عضلياً خلال طفولتهم وشبابهم.
وتردف العوفير عاملاً تراه أيضاً مهماً في هذا السياق هو الصفاء النفسي والذهني الذي يمتلكه مثل هؤلاء المعمرين خصوصاً في القرى والأرياف، بالنظر إلى طبيعة الحياة الهادئة والمسالمة في ذلك الحيز الجغرافي، بخلاف المدن والحواضر التي تتسم الحياة المعاصرة فيها بالسرعة والتوتر.