Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في العراق تلوث بيئي يراكمه فساد سياسي

انبعاث الغازات السامة من احتراق النفط المؤكسد تنشر السرطان بين المواطنين وتدمير المساحات الخضراء يفاقم الأزمة

انتقادات موجهة إلى الحكومة العراقية بعدم جديتها في متابعة وضع جودة الهواء (رويترز)

ملخص

العراق من الدول التي تضاعف فيها انبعاث ثاني أكسيد الكربون خلال العقد الماضي بشكل كبير، إذ يحرق 1.7 مليار قدم مكعبة يومياً من الغاز الطبيعي المصاحب للاستخراج النفطي، وهناك 800 حالة سرطان شهرياً، لها علاقة بتلوث الهواء الناتج من تسرب وحرق الغاز في مختلف مناطق البصرة.

في ذاكرة التاريخ العراقي، حين هم الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور (981-1002 ميلادي)، لبناء عاصمة العباسيين الجديدة على مشارف قرية اسمها بغداد، اختار بنفسه موقعاً بين الكاظمية الحالية والكرخ، بعد أن علق شرائح من اللحم على أجزاء بغداد وحولها، ليعين أي المناطق التي لا يفسد فيها اللحم، حتى اختار عاصمته، مدركاً أنها خارج مناطق التلوث.

لو عمد أحد اليوم إلى تكرار تجربة المنصور، الباني الأمهر لعاصمة العباسيين التي حكمت خمسة قرون، فإنه سيندهش من حجم تلوث لا ينافسه غير التلوث والفساد السياسي كما يقول أحد المتخصصين بدراسة البيئة العراقية، حيث بات هواء العاصمة وأقاليمها يطبق على المدينة ويخنقها جراء انبعاث الغازات السامة من احتراق (النفط الأسود) وهو النفط المؤكسد، الذي يحتوي على مركبات عديدة لم تخضع للمعالجة لفصل الكبريت الثقيل والغازات الملوثة السامة الأخرى، لا سيما وأن النفط الخام العراقي يمتاز بكثافة الكبريت فيه لتداخل مكوناته وثقل نوعيته، وزاد الطين بلة عدم الاكتراث في العمل البيئي بعد إلغاء وزارة البيئة، وتحويلها كقسم في وزارة الصناعة، المعطلة أصلاً.

أجهزة القياس الغائبة

‏يؤكد الباحث رسلي سعدون المالكي من خلال متابعة ميدانية أنه في عام 2014، اشترت الحكومة العراقية 74 جهازاً لقياس جودة الهواء، منوهاً بأن هذا العدد غير كاف أساساً لبلد بحجم ومساحة العراق، وعلى رغم ذلك، لم يتم ربط أي من هذه الأجهزة بحيث تكون "أون لاين"، وذلك بسبب الربط الخاطئ أو عدم الربط أساساً".

يضيف المالكي، "لاحظت أن أحد تلك الأجهزة تم ربطه أعلى بناية حكومية بجانب مولدة كهرباء، موضوعة فوق سطح البناية، فكيف يقيس الجهاز جودة الهواء وبجانبه عادم ينفث الدخان؟ وهو جهاز حساس جداً ولو لدخان سيجارة، وهذا يؤشر إلى سوء التعامل مع الأجهزة"، مشيراً إلى أن "الجهاز الوحيد الذي يعمل في كل بغداد هو جهاز السفارة الأميركية، وهو الوحيد الذي يعمل ومربوط (أون لاين)، وهو مخصص للحفاظ على سلامة العاملين في السفارة البالغ عددهم بضعة عشرات ربما، بينما الحكومات العراقية غير عابئة بسلامة 43 مليون عراقي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ينوه المالكي بأن مدينة مثل بغداد بحاجة إلى مئات أجهزة القياس وحدها، بعضها نقطي (ثابت) والآخر جوال، وكل منها يعمل على قياس نوع معين من الملوثات في الجو (المواد المسرطنة – الغبار -الكبريت – الإشعاع وسواها)، وذلك من أجل الحصول على صورة كاملة لجودة الهواء، فيما لا يتوافر ببغداد أي منها عدا جهاز السفارة، بينما في مدن كنيودلهي وإسطنبول وغيرهما من المدن الكبرى، يتم نشر العشرات وأحياناً المئات من أجهزة قياس الجودة.

‏غياب المعلومات عن المتخصصين

وبناءً على ما سبق، لا تملك الدولة العراقية معلومات كاملة عما يعرف بـ"عداد الوردة للرياح" أو Wind Rose Diagram، وهو عداد يحتوي عديداً من الخانات التي يجب ملؤها للتوصل لصورة كاملة عن جودة الهواء.

يؤكد الباحث رسلي المالكي أن "الحكومة العراقية غير جادة تماماً بمتابعة وضع جودة الهواء، فمصفى الدورة في محطات الكهرباء منتهي الصلاحية وبحاجة إلى تجديد شامل، وهو الذي يطلق كميات ضخمة من المواد السامة بسبب عدم اكتمال عمليات احتراق الغاز، وليست هناك أية حلول جدية لمعالجة كثرة السيارات، والمجسرات التي يجري بناؤها تفاقم أزمة التلوث ولا تحل مشكلة الازدحام، وكمية الانبعاثات الصادرة من السيارات مهولة، وليس هناك أية مؤشرات لإنشاء مناطق خضراء، مع اقتلاع الحكومة لبقية الأشجار بحجة توسعة الطرق وإنشاء مناطق سكنية ومشاريع استثمارية".

يقول المالكي إن أحد وزراء النفط السابقين حاول مراراً عبر مجلس الوزراء تمرير مقترح لنقل المصفى جنوب بغداد لمسافة 30 كيلومتراً عن العاصمة لكنه اصطدم برفض من زعامات سياسية تسوغ وجود منشآت لها قريبة، فهي تمانع نقل المصفى، الجاثم على قلب العاصمة وهو ينفث سمومه ليل نهار من دون معالجة.

وتشكل محطتا كهرباء الدورة والزعفرانية مصدراً آخر للتلوث حيث يتم أحياناً استخدام وقود النفط الأسود المحتوي على كل أنواع الوقود (الغاز، البنزين... إلخ)، وهذا عندما يحترق فإنه يحرر عديداً من الانبعاثات السامة القاتلة. ويتم إرسال ملايين الأطنان من الغاز للبنان في الوقت الذي تحتاج إليه هذه المحطات لإنتاج الطاقة بلا انبعاثات خطيرة، كما يؤكد الباحث العراقي.

الفساد أساس الأزمة

تقول الباحثة المهندسة البيئية سعاد العزاوي الأستاذة السابقة في جامعة بغداد، إن "الفساد تحول إلى سلاح يقتل العراقيين كل يوم، فهذه المشكلة قائمة منذ عقدين، حيث تستخدم محطات توليد الطاقة الكهربائية الحرارية الحكومية النفط الأسود غير المكرر والديزل، ونسبة الكبريت في النفط العراقي هو الأعلى بالعالم. وبدلاً من إحلال منظومات تعمل على الغاز الطبيعي النظيف أو تركيب فلاتر ومرسبات تمنع هذه الانبعاثات للهواء، يسرقون التخصيصات وتبقى هذه المحطات تنفث أكاسيد الكبريت والكاربون وكبريتيد الهيدروجين والسخام الهايدر المسرطن والغازات الأخرى السامة".

 

وتضيف "هيئة حماية البيئة لا تستطيع إغلاق هذه المحطات لأن حاجة العراق للكهرباء هو 40 ميغا، ولا ينتج أكثر من 25 ميغا، نصفها فقط من منظومات قديمة، والباقي يعمل بالغاز الإيراني الذي قيمته خمسة مليارات دولار سنوياً. يضاف لذلك كل معامل حرق الطابوق والإسمنت التي تستخدم النفط الأسود مضافاً إليه حرق النفايات حتى الإلكترونية التي تنتج أبخرة مصنفة خطرة عالمياً. ولذلك هنالك زيادة كبيرة بالوفيات وفي الأمراض السرطانية لا تعلن عنها وزارة الصحة، لأن العراق ضمن أسوأ عشر دول بتلوث الهواء في العالم لأكثر من عشر سنوات.

حرائق وانبعاثات خطرة

تورد العزاوي في دراسة انتهت منها أخيراً قولها إن "العراق من الدول التي تضاعف فيها انبعاث ثاني أكسيد الكربون خلال العقد الماضي بشكل كبير، إذ يحرق 1.7 مليار قدم مكعبة يومياً من الغاز الطبيعي المصاحب للاستخراج النفطي والذي يمثل ما قيمته 2.5 مليار دولار سنوياً، واستورد من إيران مليار قدم مكعبة من الغاز يومياً لإنتاج الطاقة الكهربائية خلال عام 2020، ولو تم استخدام الغاز الطبيعي الذي يتم حرقة في إنتاج الطاقة الكهربائية لكان أنتج ما يقارب 10 ميغاواط سنوياً وشكل انبعاث ثاني أكسيد الكربون في العراق للفترة (2013-2020) ملايين الأطنان".

أما الأخطار الصحية المتعلقة بحرق الغاز الطبيعي من الحقول النفطية، فهنالك مؤشرات صرح بها المجلس الأعلى لحقوق الإنسان في العراق عام 2018، تدل على زيادة الحالات السرطانية في البصرة بما لا يقل عن 800 حالة شهرياً، لها علاقة بتلوث الهواء الناتج من تسرب وحرق الغاز الطبيعي في مختلف مناطق المحافظة. وفي ما يخص الاتجاه العام للأمراض السرطانية فتدل دراسة الحالات المسجلة في العراق، أن نسبة الأمراض السرطانية قد تضاعفت من 43.95/ 100000 في عام 1999 إلى 91.66/ 100000 في عام 2019، وبالتحديد فإن هذه الزيادة تركزت في سرطان الثدي والرئة والقولون والدماغ.

خلل المصافي

تشير العزاوي إلى أنه "من المعروف أن زيوت الديزل في العراق ونتيجة الخلل في مصافي تكرير النفط الخام، تحتوي أعلى نسبة من تراكيز الكبريت مقارنة ببقية أنحاء العالم والتي تتراوح بين (10.000- 25.000) جزء بالمليون، وأن احتراق زيت الديزل في المولدات الكهربائية، يؤدي إلى انبعاث أكاسيد الكبريت Sox وغاز كبريتيد الهيدروجين H₂S الذي في حال استنشاقه يؤدي إلى احتقان في العين والأنف والحنجرة، وصعوبة التنفس لمرضى الربو، واختلال في التوازن والذاكرة، وبوجود الرطوبة والأمطار يتحول إلى مطر حامضي، يؤدي إلى تآكل المعادن وواجهات المباني إضافة لقتل الأحياء المجهرية والحشرات في التربة مما يفقدها حيويتها وخصوبتها ويسهم في تصحرها".

أزمة الكهرباء ونتائجها

نتجت من أزمة الكهرباء في العراق كثير من الآثار البيئية والصحية بسبب استخدام مئات الآلاف من المولدات المنزلية التي تستهلك الوقود الأحفوري (النفط الخام، الديزل والسولار والبنزين والكيروسين وغيرها) في المناطق السكنية المزدحمة لتوليد الطاقة الكهربائية.

وتشير دراسة أعدها المركز الكندي للصحة والسلامة المهنية 2021، إلى أن التعرض قصير الأمد لعوادم الديزل يمكن أن يسبب السعال وتهيج العينين والأنف والحنجرة والجهاز التنفسي وتهيج الرئة، أو رد فعل تحسسي يسبب الربو (أزيز وصعوبة في التنفس)، أو يجعل الربو إذا كان موجوداً مسبقاً أسوأ، وقد تشمل الأعراض الأخرى الشعور بالصداع أو الغثيان.

 

أما التعرض طويل الأمد فقد يؤدي إلى آثار صحية خطيرة بخاصة لدى الأطفال، حيث صنفت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان IARC، وهي جزء من منظمة الصحة العالمية WHO، عوادم محركات الديزل على أنها مواد مسرطنة للإنسان، وحددت أن التعرض لانبعاثات عوادم الديزل يزيد من خطر الإصابة بسرطان الرئة وربما سرطان المثانة أيضاً.

الزيادة السكانية

يقول إحسان فتحي وهو معماري ومخطط مدن متخصص بدراسات البيئة، إن "العراق بحاجة إلى إصلاح شامل بوقف التآكل المتواصل للمناطق الخضراء داخل الأحياء السكنية وتجريف بساتين المدينة لأغراض الاستثمار التجاري الجشع، والتجاوز الرسمي وغير الرسمي على ما يسمى (الحزام الأخضر)"، مشيراً إلى أن "العمليات التجميلية تبقى سطحية لا تجدي ولا تشفي الغليل. وتجربة النظام السياسي حتى الآن تشير إلى أن هذا الهدف يبقى بعيد المنال في المنظور القريب، وستستمر بغداد في شيخوختها وتتدهور ولن تنفعها حفنات البوتكس الحضرية، التي تجريها الحكومات الحالية".

نقل معامل الطابوق

من جانبها، فإن حكومة السوداني سارعت جراء تصاعد الشكوى ووجهت بمعالجة سريعة، لنقل معامل الطابوق التي تحيط ببغداد وتنفث العوادم من الديزل الأسود، خارج العاصمة. يقول الباحث حسن الفواز إن وزارة الصناعة والمعادن، أعلنت إيقاف منح المعامل في مجمع النهروان الصناعي رخصة العمل، وأكدت تكليف هيئة المسح الجيولوجي بالتحري عن أماكن جديدة صالحة لصناعة الطابوق محيطة ببغداد.

وكشف مدير عام المديرية العامة للتنمية الصناعية بوزارة الصناعة والمعادن علي إبراهيم لوكالة الأنباء العراقية أنه "بحسب توجيهات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الأخيرة لتحويل مجمع النهروان الصناعي إلى خارج بغداد تم تكليف هيئة المسح الجيولوجي ببدء التحري في مناطق محيطة ببغداد مثل (الصويرة وأبو غريب والتاجي وديالى) لغرض الحصول على أطيان صالحة لصناعة الطابوق. ويشير الفواز إلى أنه يجري التحري في قضاء الصويرة - جنوب بغداد - حتى يتم التأكد من التربة، وهذه الفحوصات تتطلب شهرين، وعند إكمال الإجراءات تنقل هذه المعامل إلى خارج بغداد.

ويرى عضو هيئة مكافحة الفساد في العراق الباحث سعيد موسى بأن الموضوع أبعد من نقل معامل الطابوق بل في تراكم التخريب للعاصمة، يقول، "نحن كبغداديين نتنفس الهواء الملوث بشتى أنواع الأبخرة والغازات المسمومة، والتي تنتج منها شتى أنواع الأمراض منها المنظورة كالسرطان، ناهيكم عن الجهاز التنفسي وأمراض الدم والأمراض الجلدية، وهذه من نتائج تخلف السياسات العامة القطاعية في تحسين البيئة وإنفاذ القانون والردع وتخلف المساءلة".

ويضيف، "عندما أسمع عن تحليلات وتصريحات حول ظاهرة التلوث البيئي، تقفز في ذهني أسئلة عدة، أين كانت وزارة البيئة وقبلها الصحة؟ أين السياسات العامة لأمانة بغداد؟ بل أين نظام المتابعة لهذه السياسات والاستراتيجيات؟ أين وزارة النفط ووزارة الكهرباء وسياساتها في استخدام الوقود وخطط الطاقة النظيفة؟ أين نظام المساءلة والمحاسبة للمؤسسات والدوائر المتخلفة عن تنفيذ هذه الخطط؟ أين تقاريرها الدورية في إبلاغ القيادات الإدارية؟ أين وزارة الصناعة في منح الإجازات الصناعية ومتابعتها في الالتزام بمعايير الجودة ومراعاة البيئة؟".

تظل أسئلة سعيد وسواه مفتوحة لا أحد يستطيع الإجابة عنها في بلد أنهكه الفساد والفوضى والتلوث.

المزيد من تقارير