ملخص
مصالحة الأكراد، أو استئناف عملية المصالحة المتوقفة، قرار كهذا ليس قرار دولت بهجلي أو حزبه حزب الحركة القومية وحده، هذا القرار هو قرار مشترك اتخذه مجلس الأمن القومي، والمقصود بمجلس الأمن القومي على سبيل المجاز كل من أردوغان وبهجلي وحزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، بالاشتراك مع مؤسسات الدولة الرسمية، هؤلاء يشكلون ما يمكن تسميته مجلس الأمن القومي، واتخذوا قراراً مشتركاً يتعلق بالقضية الكردية
منذ بداية أكتوبر (تشرين الأول) الجاري ينشغل الرأي العام بالمصافحة المفاجئة التي قام بها زعيم حزب الحركة القومية التركي دولت بهجلي لرؤساء "حزب الشعوب للمساواة والديمقراطية" الكردي خلال افتتاح أعمال الدورة الجديدة للبرلمان، هذه المصافحة اعتقد الناس أنها قد تكون إشارة إلى احتمال استئناف عملية المصالحة المتوقفة منذ سنوات، إلا أن مسؤولي حزب "الحركة القومية"، حينها نفوا هذا وقالوا إن المصافحة ليست سوى خطوة نحو تحقيق وحدة سياسية أكبر في البلاد.
ما إن هدأت قضية المصافحة المفاجئة حتى عاود بهجلي من جديد ليطالب زعيم "حزب العمال الكردستاني" عبدالله أوجلان بإصدار أمر بوقف العنف وإعلان انتهاء الإرهاب، داعياً إياه إلى المجيء إلى البرلمان وإعلان حل تنظيم حزب العمال الكردستاني، وقال إنه "في حال أظهر أوجلان العزيمة لحل التنظيم وإنهاء الإرهاب، فقد يتم إجراء تعديل قانوني يسمح بتطبيق حق الأمل الذي يفتح الطريق لرفع العزل".
تزامناً مع كل هذا، للمرة الأولى منذ 43 شهراً، سُمح بزيارة لعبدالله أوجلان المحتجز في السجن الانفرادي منذ عام 1999، إذ زاره ابن أخيه عمر أوجلان، وهو نائب في حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، وكتب عمر أوجلان على منصة "إكس"، "آخر لقاء مباشر لنا مع عبدالله أوجلان كان في الثالث من مارس (آذار) 2020، كعائلة التقينا أوجلان بعد سنوات في الـ23 من أكتوبر، وقدم أوجلان تقييمات حول التطورات السياسية العامة، وأراد إيصال رسالة إلى الرأي العام تقول إن العزلة مستمرة، وإذا تهيأت الظروف، فإنني أملك القوة النظرية والعملية لنقل هذه العملية من أرضية الصراع والعنف إلى أرضية قانونية وسياسية".
قضايا في الداخل والخارج
في الحقيقة هذه تطورات مهمة ومفاجئة في الساحة السياسية التركية، ويبدو أنها تسير بسرعة غير متوقعة، كما أنه لم يتوقع أي من السياسيين في تركيا أن يقوم بهجلي بمثل هذه الخطوة الجريئة. إذاً ماذا يحدث؟
في البداية يجب أن ندرك أن تركيا بالفعل عالقة بملفات داخلية وخارجية، وفي الجوار الجنوبي تتشكل "سوريا جديدة"، وهناك تهديد إسرائيلي في المنطقة، سواء في الأراضي الفلسطينية، أو في لبنان، وربما يتجاوز التصعيد هذه الحدود، وفي الداخل التركي حتى الآن لم يتعافَ الاقتصاد، ولا تزال الأمور المعيشية سيئة، وشهدنا من خلال تفجير أنقرة الأخير أن تركيا تخسر دماً، أما بالنسبة إلى الرئيس رجب طيب أردوغان فهو يعمل بنهج يمكنه من خلاله الترشح للانتخابات المقبلة، ويريد إعادة انتخابه.
أحد التفسيرات المنطقية لكل هذه المعطيات، هو نية كل من حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحليفه حزب الحركة القومية، التقرب من الأكراد وكسبهم إلى جانبهم، ولأجل هذا لا مانع من تقديم بعض التنازلات في ما يتعلق بالمواد الدستورية أو بالنظام الرئاسي وتعزيز النظام البرلماني، على رغم أن حل القضية الكردية ببساطة يكمن بإلقاء حزب العمال الكردستاني سلاحه ومواصلة النضال الديمقراطي.
قرار مشترك وخريطة طريق
بالبقاء في موضوعنا الأساس، في المقام الأول ينبغي أن نعلم أن مصالحة الأكراد، أو استئناف عملية المصالحة المتوقفة، قرار كهذا ليس قرار دولت بهجلي أو حزبه حزب "الحركة القومية" وحده، هذا القرار هو قرار مشترك اتخذه مجلس الأمن القومي، والمقصود بمجلس الأمن القومي على سبيل المجاز كل من أردوغان وبهجلي وحزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، بالاشتراك مع مؤسسات الدولة الرسمية، هؤلاء يشكلون ما يمكن تسميته مجلس الأمن القومي، وقد اتخذوا قراراً مشتركاً يتعلق بالقضية الكردية.
لا يمكن طرح مثل هذه الخطوة المهمة على الساحة السياسية من دون دراسة متأنية وتسوية معينة، وهنا يكمن المقام الثاني، إذ جرت محادثات جادة مع عبدالله أوجلان في مكان سجنه بجزيرة إمرالي القريبة من إسطنبول، ونتيجة لذلك لا يمكن المضي قدماً في هذه الخطوات من دون اتفاق وخريطة طريق، ويبدو أن التطورات الأخيرة وتصريحات بهجلي والمصافحة كلها نتيجة لحوارات ومناقشات جرت مع أوجلان واتفق معه على خريطة طريق. فكيف ستتشكل العملية خلال الفترة المقبلة؟
ردود متباينة
أولاً ستدلي عائلة أوجلان ومحاموه بإفاداتهم الأولية، وهذا سيؤدي إلى ردود فعل مختلفة ومتباينة، منها ما هو سلبي ومنها ما هو إيجابي، بمعنى آخر فإن ما يجري حالياً هو أشبه ما يكون بـ"جس نبض".
بالنسبة إلى الردود الأولية كانت متباينة كما هو متوقع، إذ رد كل من حزب يني رفاه وحزب الظفر بزعامة أوميت أوزداغ، وحزب الوطن، وحزب الوحدة الكبرى، ببيانات مختلفة، وكان من أكثر الأحزاب التي ردت بصورة سلبية على تصريحات بهجلي هو الحزب الجيد القومي أيضاً، فقد انتقد بشدة المصافحة وتصريحات بهجلي.
أما حزب المعارضة الرئيس، حزب الشعب الجمهوري، بقيادة أوزغور أوزيل، فقد كان رده إيجابياً، وأجرى أوزيل لقاءات في جنوب وجنوب شرقي تركيا (المناطق ذات الغالبية الكردية)، وخصوصاً مدينة ديار بكر، ومما قاله حزب الشعب الجمهوري، "سوف نسهم في هذه العملية، وطالما يقول الأكراد إن لدينا مشكلة في تركيا، فهناك مشكلة كردية، ومهما كان يجب القيام به، فسنبذل قصارى جهدنا لحلها من خلال الوسائل الديمقراطية في ظل وتحت سقف البرلمان".
وهذا تطور مهم جداً، لأن حزب الشعب الجمهوري ليس حزباً عادياً له كتلة برلمانية فحسب، بل هو أقدم الأحزاب التركية، وأكبر أحزاب المعارضة، كما أنه يبرز باعتباره الحزب الأول في استطلاعات الرأي بسبب قوته ومعدل الأصوات التي يحصل عليها، وموقفه في أي قضية موقف معتبر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إسكات موقت أم حل نهائي؟
على كل حال، قضية تأييد أو معارضة هذه الخطوات، أو المصالحة التركية - الكردية هي مسألة منفصلة، وليس لها تأثير مهم في صانع القرار، بل إن التأثير الأكبر سيكون للتوازنات الدولية، والسؤال الآن هو: هل ستعد تركيا هذه الخطوة الجديدة مجرد إسكات للسلاح، والهدف منه الضغط على حزب "العمال الكردستاني" لإلقاء سلاحه ضد تركيا، والتوقف عند هذا الحد؟ أم أن هناك، بالفعل، عملية حقيقية تتم عبر القنوات الديمقراطية تهدف إلى حل القضية الكردية بالكامل تحت مظلة البرلمان وفق ما أفاد به حزب الشعب الجمهوري؟ إذا كانت هناك بالفعل عملية كهذه فسيكون ذلك رائعاً.
لكن يجب أيضاً التفريق بين إسكات الأسلحة إلى الأبد وبين إبقائها صامتة لمدة معينة، بالنسبة لحل المسألة الكردية هذه قضية مستقلة، أما إذا كانت النية هي إسكات الأسلحة فهناك طريقان لا ثالث لهما، الطريق الأمني، وطريق التفاوض، بمعنى آخر إذا تم وقف القتال وحل التنظيم بأمر من عبدالله أوجلان بناءً على الاتفاق وخريطة الطريق التي تحدثنا عنها، وكانت النية ليست حل القضية الكردية، فإن كل هذه الجهود ستذهب سدى، وسيكون ما جرى عبارة عن إسكات موقت للأسلحة.
أبعاد دولية
وعلى رغم كل هذا، بعيداً من التأييد أو المعارضة المحلية للمصالحة التركية - الكردية، هناك أبعاد وأطراف دولية في هذه القضية، إذ إن المسألة الكردية ليست أمراً خاصاً بتركيا، هذه قضية لها أبعاد في سوريا والعراق وإيران والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وحتى حلف شمال الأطلسي، وإذا حاولت تركيا اتباع مسار يستبعد الولايات المتحدة وأوروبا من هذه العملية من خلال البقاء في محور إنجلترا والصين وإيران، وهو المحور الذي تقف فيه حالياً، فسيكون هناك مزيد من الأشخاص الذين يعارضون هذه الخطوات، لأن الجسم الرئيس للسياسة الكردية في أوروبا يخضع إلى حد كبير لسيطرة الاتحاد الأوروبي وألمانيا على وجه الخصوص، ومن ناحية أخرى تقع منطقة قنديل تحت السيطرة الإيرانية إلى حد كبير.
بالنسبة إلى الجناح السوري في الحزب الكردستاني، والمنتشر في شمال شرقي سوريا، فإنه يخضع للسيطرة الأميركية، وإن لم يكن هناك قبول أميركي فإنه سيتم العمل على إحباط خريطة الطريق بين عبدالله أوجلان والدولة التركية، لكن إذا التزمت تركيا بتوازنات معينة، ولم تلعب بعيداً من المسار الأميركي أو الأوروبي، وتأخذ بالاعتبار عينه الدور الغربي في الشرق الأوسط، ولعبت على وتر الدبلوماسية مع هذه الأطراف، فإن أي انسحاب أميركي مستقبلي من سوريا سيؤدي إلى تغيير الوضع القائم، وقد تتحقق خريطة الطريق المذكورة آنفاً.
باختصار شديد سواء تم دعم هذه الخطوات أو لا، فإنه يجب الانتباه إلى عدم خداع الأكراد مرة أخرى، ولا يمكننا أن ننسى أن مثل هذه الخطوات تلقى انتقاد اليسار التركي، وقطاع معين من الأعداء اللدودين لحزب العدالة والتنمية وبعض الإسلاميين، ولا ننسى أن هناك تصريحات إيجابية سابقة لعبدالله أوجلان تم إبطالها، مثل قوله خلال عيد النيروز في 2013 "الأخوة الإسلامية عمرها أكثر من 1000 عام"، وقوله "يجب الوقوف معاً ضد العقلية الصليبية"، هذه التصريحات رفضها الرافضون للمصالحة التركية - الكردية، وقالوا إن "هاكان فيدان كتب هذه التصريحات لأوجلان وجعله يوقع عليها".
اقتناص الفرصة
هنا يجب أن نؤكد أن حل القضية الكردية من خلال الوسائل الديمقراطية، من دون أن يتعرض الأكراد للخداع مرة ثانية، وصمت السلاح، سيمهد الطريق للنضال الديمقراطي ويوفر انفراجة تاريخية في القضية الكردية، ولهذا السبب يجب علينا كأكراد تقديم كل أنواع الدعم الإيجابي لعبدالله أوجلان ودولت بهجلي وأردوغان وقرار الدولة بإسكات البنادق.
من جانب آخر علينا أيضاً اقتناص هذه الفرصة، والدفع قدماً باتجاه الحل الديمقراطي في البرلمان، كي لا يبقى الأمر عند هذا الحد، ومن لديه حد متوسط من الذكاء لا يفوت فرصة كهذه، ويجب البدء في دعم بناء العملية، بمعنى آخر يجب تحييد أولئك الذين يعارضون المصالحة التركية - الكردية بهدف حسابات انتخابية أو شخصية بسيطة، عملية المصالحة هذه تحتاج إلى الدعم الكردي كي تؤتي ثمارها، لذلك علينا كأكراد منع تفويت هذه الفرصة، وبالوقت ذاته الحذر من الخداع.
ملاحظة: الآراء الواردة في هذا المقال تخص المؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لصحيفة "اندبندنت تركية"
ترجمة: إسماعيل درويش.