ملخص
تحمل المصريون تبعات تحريك أسعار الوقود لثلاث مرات خلال هذا العام فحسب، علاوة على زيادة أسعار الكهرباء ووسائل النقل في ظل زيادات في الأسعار متلاحقة أرهقت جيوب المصريين منذ مارس (آذار) 2023
أخذ اتفاق القاهرة مع صندوق النقد الدولي منحى جديداً، إذ تسعى الحكومة المصرية إلى تخفيف وطأة الضغط على المصريين، ولو بصورة موقتة، من طريق إعادة التفاوض مع الصندوق الدولي على أرجاء تنفيذ بعد السياسات والإجراءات المتفق عليها بينهما، لكن في المقابل يبدو أن الأمر ليس سهلاً، إذ يطالب الصندوق القاهرة باستمرار تنفيذ الإصلاحات بصورة عاجلة.
ويجري صندوق النقد الدولي المراجعة الرابعة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والتي تستهدف صرف الشريحة الأكبر من شرائح القرض المتفق عليه بقيمة 8 مليارات دولار بقيمة 1.3 مليار دولار.
وتحمل المصريون تبعات تحريك أسعار الوقود لثلاث مرات خلال هذا العام فحسب، علاوة على زيادة أسعار الكهرباء ووسائل النقل في ظل زيادات في الأسعار متلاحقة أرهقت جيوب المصريين منذ مارس (آذار) 2023.
في نهاية مايو (أيار) الماضي وللمرة الأولى منذ ثلاثة عقود، أعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، رفع سعر رغيف الخبز المدعم بنسبة 300 في المئة إلى 20 قرشاً (0.004 دولار)، إذ قال آنذاك، إن "سعر الخبز المدعم لم يتحرك منذ أكثر من 30 عاماً، وإن الكلفة خلال تلك الفترة تضاعفت مرات عدة"، لافتاً إلى أن رغيف الخبر يكلف الدولة 1.25 جنيه (0.025 دولار)، بينما تبيعه بخمسة قروش (0.001 دولار). وذكر أن قيمة الدعم السنوي للخبز في مصر تبلغ 120 مليار جنيه (2.474 مليار دولار)، والإنتاج اليومي يصل إلى 100 مليار رغيف.
مواقع التواصل الاجتماعي
وحركت الحكومة أسعار الوقود في الـ18 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري لثالث مرة في 2024 بنسبة تراوح ما بين 7 و17 في المئة.
وضجت مواقع التواصل الاجتماعي عقب القرار الذي يشعل الأسعار مجدداً خصوصاً بعد رفع أسعار السولار الذي ينعكس بصورة مباشرة على كلفة النقل وأسعار السلع الأساسية.
أنين المصريين المكتوم يبدو أنه قد وصل أخيراً إلى مسامع القيادة السياسية، حتى إن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي طالب حكومته بصورة واضحة ضرورة مراجعة الحكومة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، إذ قال الأحد الماضي، إنه "لا بد من مراجعة الاتفاق إذا كان سيضع الناس في وضع غير محتمل".
وأضاف السيسي خلال جلسة حوارية بالمؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية "لو لم يؤخذ في الاعتبار التحديات التي نواجهها، بما في ذلك أننا فقدنا 6 إلى 7 مليارات دولار من دخل قناة السويس"، مشيراً إلى احتمالية استمرار الوضع لمدة سنة، قائلاً "إذا كان البرنامج المتفق عليه مع الصندوق سيجعلنا نضغط على الناس، لا بد للحكومة من مراجعة هذا الاتفاق".
في وقت سابق من العام الحالي، توصلت مصر إلى اتفاق مع صندوق النقد لرفع قيمة برنامج قرض إلى 8 مليارات دولار من 5 مليارات دولار.
مراجعة توقيتات تنفيذ الإصلاحات
بدوره قال رئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، إن "بلاده ستبدأ مراجعة توقيتات تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية مع صندوق النقد، بناءً على المستجدات الاقتصادية التي طرأت في مصر". وأضاف مدبولي أنه "ستكون لدينا فرصة للتفاوض بهذا الشأن مع بعثة الصندوق لمراجعة البرنامج" وفق ما نقلته وكالة "بلومبيرغ".
تصريحات الرئيس المصري ومطالبات حكومته وجدت صدى واسعاً لدى الصندوق الدولي، إذ قال في بيان الخميس الماضي إن "حجم برنامج القرض المقدم إلى مصر والبالغ 8 مليارات دولار لا يزال مناسباً"، مضيفاً إن "الصندوق سيضع على أولوياته تقييم مدى فاعلية برامج الحماية الاجتماعية في البلاد".
من جانبها، قالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغيفا في اليوم نفسه إنها ستسافر إلى مصر في غضون 10 أيام للاطلاع من كثب على الوضع الاقتصادي الصعب في البلاد وتأكيد الحاجة إلى التمسك بتنفيذ الإصلاحات.
وأشارت غورغيفا في مؤتمر صحافي إلى أن "الاقتصاد المصري يواجه تحديات بسبب الحروب في غزة ولبنان والسودان وسط خسارة 70 في المئة من إيرادات قناة السويس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقالت غورغيفا "كنا منفتحين للغاية على تعديل البرنامج المصري أو أي برنامج آخر بما يخدم الناس على أفضل وجه"، مستدركة "لكن اسمحوا لي أن أقول إننا لن نقوم بما يجب فعله من أجل البلاد وشعب البلاد إذا تظاهرنا بأن الإجراء الذي يتعين اتخاذه يمكن التجاوز عنه"، مؤكدة أن "مصر تخدم بصورة أفضل من خلال إجراء الإصلاحات عاجلاً وليس آجلاً".
وكشفت المدير العام لصندوق النقد الدولي لمنصة "الشرق بلومبيرغ" عن أن "خفض كلفة رسوم الديون الذي أقر من نحو 10 أيام سيوفر على مصر 800 مليون دولار حتى 2030".
ووافق مجلس إدارة الصندوق قبل أيام على خفض كلف اقتراض أعضائه بنحو 36 في المئة، أو نحو 1.2 مليار دولار سنوياً ضمن حزمة تدبير تقر من أول نوفمبر المقبل، في ظل بيئة عالمية محفوفة بالتحديات وارتفاع أسعار الفائدة.
وتعد القاهرة ثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين، بعدما حصلت منذ عام 2016 على 28 مليار دولار منها قرض قائم بقيمة 8 مليارات دولار حالياً سينتهي سحب آخر شريحة في سبتمبر (أيلول) 2026.
مساحة التفاوض
تصريحات غورغيفا جاءت على هامش اجتماعات صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي حالياً في واشنطن العاصمة الأميركية، بحضور وفد مصري على رأسهم محافظ البنك المركزي المصري حسن عبدالله ووزير المالية أحمد كجوك ووزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي رانيا المشاط.
في غضون ذلك يرى المحللون أن مراجعة الاتفاق لا يعني التراجع عنها، وهناك فروق شاسعة ما بين تراجع الحكومة المصرية عن تنفيذ التزامات الاتفاق مع الصندوق الدولي والتفاوض حول التنفيذ الحرفي بما ألزمت الحكومة نفسها بتطبيقه.
ويقول المتخصص الاقتصادي وأستاذ التمويل مدحت نافع إن "مساحة التفاوض ما بين مصر والصندوق قد تسمح بتقديم وتأخير تنفيذ بعض الالتزامات في بنود الاتفاق ما بين الطرفين"، موضحاً أن "تغيير تنفيذ بعض الالتزامات في ضوء النتائج الفعلية على أرض الواقع، وهذا هو الغرض الأساس من المراجعات الدورية التي يقوم الصندوق مع الحكومة المصري كل فترة وليس الغرض منها التأكد من مدى التزام الحكومة بالتنفيذ فحسب".
ويؤكد أن "الحيز المالي للحكومة ليس كبيراً لتحقيق واحدة من ركائز الاتفاق مع الصندوق، وهي التعويض المجتمعي عن بغض السياسات مثل رفع أسعار الوقود، أو إذا كان المستهدف الأول والأسرع هو كبح التضخم فبعض السياسات تأتي بنتائج عكسية سريعة وهنا لبد من التدخل لتقويم المسار".
تشكيل لجنة مستقلة
ويشير إلى أن ما طلبه الرئيس المصري كنت أنادي به منذ بدء التفاوض مع الصندوق، وهي أن بعض برامج الاتفاق يجب حوكمتها"، ويوضح أن "تشكيل لجنة مستقلة تراجع نتائج تطبيق سياسات التي يطلبها الصندوق، على أن ترفع توصياتها بصورة دورية إلى حكومة المصرية ومجلس إدارة صندوق النقد الدولي في آنٍ واحد، إضافة إلى رفع بيانات وتقارير إلى البرلمان المصري باعتباره ممثلاً عن الشعب".
ويشير نافع إلى أداء تلك اللجنة قد يسهم في رفع الحرج عن الحكومة عن تطبيق سياسات اجتماعية واقتصادية محددة تتسم بالحساسية، إذ إن اللجنة ستكون مطعمة بالكفاءات والخبرات التي تتفاهم بصورة مباشرة مع الصندوق في تنفيذ الالتزامات المطلوبة ونقل نبض الشارع المصري، وكذلك تسهيل تمرير بعض القرارات والسياسيات الحساسة التي تجد الحكومة حرجاً منها".
من جانبه يقول المتخصص الاقتصادي هاني توفيق إن تصريحات مديرة صندوق النقد الدولي تؤكد أن الصندوق ماضٍ في تنفيذ سياسته ولن يتراجع عنها"، مستدركاً "لكنها في الوقت نفسه شددت على أن الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة لن تضر المصريين". ويقول "نعم هناك بعض السياسات التي أضرت بالمصريين كالدعم ورفع أسعار المحروقات والتضخم، إلا أن هناك سياسات أخرى لا ترتبط بهم كتخارج الدولة من الاقتصاد والاستثمار وإفساح المجال للقطاع الخاص"، مؤكداً أن "استمرار تنفيذ السياسات المطلوبة هو أمر مطلوب حتى نستطيع عبور النفق الاقتصادي الصعب".
مأزق حقيقي
وحول تصريحات مديرة صندوق النقد التي تطلب خلالها من مصر القيام بالإصلاحات المتفق عليها عاجلاً، وليس آجلاً يقول توفيق "كنت أتوقع ذلك". ويضيف "يضعنا هذا الأمر في مأزق حقيقي ما بين فكي الصندوق، والرأي العام غير المتحمل لمزيد من الضغوط".
قبل أيام، توقع صندوق النقد الدولي أن تشهد مؤشرات الاقتصاد المصري تحسناً، إذ يتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في مصر من 2.7 في المئة عام 2024 إلى 4.1 عام 2025.
وبعد أيام من قرار الحكومة برفع أسعار الوقود توقع الصندوق أن ينخفض معدل التضخم إلى 33.3 في المئة في 2024 قبل أن يصل إلى 21.2 في المئة في 2025.
يشار إلى أن معدل التضخم السنوي على مستوى مدن مصر عاود الارتفاع منذ أغسطس (آب) الماضي بعدما تراجع لمدة خمسة أشهر ليصل إلى 26.4 في المئة خلال شهر سبتمبر الماضي من 26.2 في المئة خلال أغسطس 2024، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري.
على مستوى الديون الخارجية شهدت تطوراً لافتاً منذ الإعلان عن البرنامج الأول مع الصندوق في نهاية عام 2016، إذ قفز إجمالي الدين الخارجي من مستوى 55.76 مليار دولار بنهاية عام 2016 إلى نحو 168.034 مليار دولار بنهاية عام 2023، بزيادة بلغت قيمتها 112.274 مليار دولار، بنسبة زيادة بلغت نحو 201 في المئة، وبمتوسط زيادة سنوية تبلغ نسبتها 25 في المئة خلال الأعوام الثمانية الماضية، قبل أن يتراجع أخيراً إلى 153.86 مليار دولار في مايو الماضي بمقدار 14.17 مليار دولار في نهاية عام 2023.
تراجع الديون
ووفقاً لبيانات البنك المركزي المصري يتوزع الدين الخارجي إلى 84.2 في المئة ديون طويلة الأجل (يعادل 39.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي)، بخفض من نحو 43 في المئة خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
وكانت القاهرة دعمت خزانة البنك المركزي في نهاية فبراير (شباط) عندما باعت حقوق تطوير أراضٍ في منطقة رأس الحكمة المطلة على البحر المتوسط للإمارات، في صفقة بلغت قيمتها 35 مليار دولار.