ملخص
تعكس خيارات التسوق في المملكة المتحدة تعقيدات الطبقات الاجتماعية، إذ يدل اختيار المتجر على الانتماء الطبقي. ويعود التحول لبعض المتاجر التي تعتبر فاخرة إلى تحسين جودة المنتجات وخفض الأسعار، مما جعلها وجهة شعبية للباحثين عن الرفاهية بأسعار معقولة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
ربما تكون نظرة البريطانيين إلى متاجر السوبر ماركت معقدة وغامضة مثل نظامهم الطبقي العتيق، فاختيارك لمتجر معين للتسوق الأسبوعي يكشف كثيراً عن طبقتك الاجتماعية، تماماً مثل طراز السيارة التي تقودها، أو ماركة الملابس التي ترتديها، أو حتى المفردات التي تستخدمها للإشارة إلى دورة المياه مثلاً، كأن تقول "loo" بدلاً من "toilet" أو العكس. وهي قواعد غير مكتوبة، لكنها متجذرة في الوعي المجتمعي البريطاني والجميع يعرفها.
لم يخبرني أحد صراحة خلال نشأتي، لكنني أدركت من تلقاء نفسي أن خيارات أمي التسويقية حددت طبقتنا الاجتماعية، إذ كانت تشتري المنتجات الأساسية وبكميات كبيرة من متاجر "سينسبري" والسلع الخاصة من متاجر "ويتروز". وكان ذلك إعلاناً صامتاً بانتمائنا للطبقة المتوسطة، وتعبير عن ولاء راسخ لا يتزعزع لمتاجر "سينسبري" ذات العلامة البرتقالية. وحتى عندما عملت في أيام المراهقة على صندوق في متاجر "تيسكو" الضخمة قرب الطريق السريع لم يخطر ببالنا أبداً تغيير ولائنا، على رغم الحسومات المغرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن المعروف أن "ويتروز" هو متجر الطبقة الاجتماعية الراقية بينما "ماركس أند سبنسر" هو خيار شريحة مختلفة تماماً، ولعل هذا يفسر استغراب شخصية مارك دارسي الغني في سلسلة "بريجيت جونز" للمؤلفة هيلين فيلدينغ من "رخص أسعار" متاجر "ماركس أند سبنسر". فبينما يعد شراء بعض المنتجات الراقية من "ماركس أند سبنسر" أمراً مقبولاً، فإن الاعتماد عليه كمصدر رئيس لحاجيات البقالة أمر مثير للدهشة والتساؤل.
لكن الموازين انقلبت الآن، فبعد أن كان "ماركس أند سبنسر" عنواناً للرفاهية، أصبح الآن خياراً لثلث الأسر في المملكة المتحدة، وفقاً لإحصاءات شركة خدمات معلومات المستهلكيين "NIQ". وخلال شهر واحد فقط، استقطبت المتاجر 800 ألف عميل جديد. وبهذه الزيادة الكبيرة، قفزت حصة "ماركس أند سبنسر" في السوق من 3.4 في المئة إلى 3.7 في المئة خلال عام. صحيح أن متاجر "تيسكو" لا تزال تسيطر على السوق بحصة 27 في المئة بصفتها أكبر سلسلة متاجر سوبرماركت، إلا أن القفزة النوعية في النمو التي حققتها متاجر "ماركس أند سبنسر" مثيرة للإعجاب.
ويعزى هذا التحول إلى تحسين جودة بعض المنتجات، مثل تقليل صلاحية السندويشات إلى يومين فقط، وتطوير 1000 سلعة في المتجر. وفي حديثه لصحيفة "التلغراف"، أكد مدير قطاع الأغذية في "ماركس أند سبنسر" أليكس فرويدمان، قائلاً: "الجودة هي أساس كل شيء". وأشار إلى أن سر نجاح العلامة التجارية هو الابتكار المستمر: "قطاع التجزئة البريطاني تنافسي للغاية، والجميع يحاول تقليدنا ومنافستنا، لذا علينا مواصلة الاستثمار للحفاظ على التفوق."
لم يكن صعود "ماركس أند سبنسر" في المدن الكبرى مجرد صدفة، فمع ارتفاع أسعار المطاعم الشهيرة مثل "بريت" و"ليون" و"إيتسو"، وجد موظفو المكاتب في المتجر البريطاني العريق ملاذاً اقتصادياً يفوق في الجودة خيارات "تيسكو" المخفضة. لكن القصة أعمق من مجرد وجبات الغداء السريعة أو مشتريات عابرة من مشروبات الكوكتيل الجاهزة وكعكة "كولن ذا كاتربيلر" التي تشترى في اللحظات الأخيرة لمفاجأة الزملاء في أعياد ميلادهم أثناء استراحة الغداء، إذ كشفت بيانات شركة "كانتار" للأبحاث التسويقية، التي جمعتها الشركة قبل بضعة أسابيع، أن "ماركس أند سبنسر" تصدر قائمة أسرع سلاسل السوبرماركت نمواً في البلاد، محققاً زيادة في المبيعات بنسبة 12.4 في المئة خلال الأسابيع الـ12 حتى أكتوبر (تشرين الأول). ويعزو المحللون هذا النمو الملاحظ إلى تحول في سلوك المتسوقين، إذ بات مزيد منهم يختارون المتجر لتسوقهم الأسبوعي الرئيس، متجاوزين نمط المشتريات العرضية من الحلويات والوجبات الخفيفة مثل حلوى "بيرسي بيغز".
ويبدو توقيت إقبال المواطن العادي على متاجر "ماركس أند سبنسر" غريباً للوهلة الأولى، خصوصاً مع تحولها من متاجر نخبوية إلى وجهة يومية للتسوق، فعلى رغم انحسار معدل التضخم وانخفاضه إلى 1.7 في المئة في سبتمبر (أيلول) 2024، بعد أن بلغ 11.1 في المئة في أكتوبر 2022 وهو أعلى مستوى منذ 40 عاماً، لا يزال معظم البريطانيين يعانون تداعيات أزمة كلفة المعيشة.
وشهد أكتوبر 2024 ارتفاعاً جديداً في فواتير الطاقة، مضيفاً عبئاً سنوياً بقيمة 149 جنيهاً استرلينياً على موازنة الأسر البريطانية. وامتد الارتفاع إلى قطاع العقارات، إذ سجلت أسعار المنازل زيادة بنسبة 2.8 في المئة حتى أغسطس (آب) 2024، بينما قفزت الإيجارات السكنية بنسبة 8.4 في المئة حتى سبتمبر. أما في قطاع الغذاء فعلى رغم استقرار التضخم الغذائي عند 1.8 في المئة في أغسطس، وانخفاضه من ذروته، إذ وصل إلى 19.2 في المئة في أكتوبر 2022، إلا أن المستهلكين ما زالوا يدفعون زيادة تقارب الربع في كلفة سلة مشترياتهم الغذائية مقارنة بأسعار أبريل قبل عامين.
وسجل المواطن البريطاني خلال العام المالي 2022-2023 أكبر تراجع في مستوى معيشته منذ بدء مكتب الإحصاء الوطني توثيق هذه البيانات في خمسينيات القرن الماضي.
ووسط هذه الظروف الاقتصادية، يثير نجاح "ماركس أند سبنسر" التساؤل. فعلى رغم صورته كمتجر فاخر، اتخذ المتجر خطوات لتعزيز تنافسيته السعرية، بدءاً بخفض أسعار 200 منتج في أكتوبر الماضي، تبعها خفض أسعار 65 منتجاً إضافياً مطلع العام الحالي. وشملت التخفيضات السلع الأساسية ضمن سلسلة "Remarksable Value" الاقتصادية، من الفاصوليا المعلبة إلى الرز والقهوة السريعة التحضير. وكشف تحليل أجرته مدونة "This Mum Cooks" الشهيرة على "إنستغرام" خلال موسم عيد الميلاد الماضي عن تفوق "ماركس أند سبنسر" سعرياً على منافسه المعروف بأسعاره المنخفضة "ألدي" في بعض المنتجات. فعلى سبيل المثال، بلغ سعر الموزة الواحدة في "ألدي" 18 بنساً، في مقابل 99 بنساً للكيلوغرام في "ماركس أند سبنسر" (مما يعادل 12-13 بنساً للموزة)، كما بيع البصل الكبير بنصف سعر "ألدي".
وعلى رغم أن "ماركس أند سبنسر" يظل من أغلى سلاسل المتاجر في بريطانيا، إلا أن دراسة مقارنة أجرتها مؤسسة "Rest Less" لأسعار السلع الأساسية كشفت عن أن الفارق السعري بينه وبين "ويتروز" لا يتجاوز 15 بنساً، بل إن أسعاره تقل بمقدار 30 بنساً عن متاجر "كو-أوب".
ويضاف إلى العوامل السابقة ميزة الانتشار الجغرافي، إذ نجح "ماركس أند سبنسر" في تعزيز حضوره عبر قاعات طعام منتشرة في جميع أنحاء لندن، خصوصاً في محطات القطار والشوارع الرئيسة، مما يوفر للمتسوقين سهولة الوصول إلى شراء حاجاتهم في طريق عودتهم للمنزل. كما عززت المتاجر خدماتها الرقمية منذ 2020 عبر شراكة مع منصة "أوكادو" للتوصيل المنزلي، تلبية لرغبات المتسوقين في التسوق من منازلهم.
وهناك تفسير آخر لهذه الظاهرة يتعلق بظهور فئة اجتماعية جديدة يمكن وصفها بـ"فقراء الرفاهية"، فمع ضيق الموارد المالية عن تحقيق الأحلام الكبيرة كشراء المنزل والسيارة وتجديد المطبخ والسفر للعطلات، يلجأ هؤلاء إلى الملذات الصغيرة مثل رقائق البطاطس بنكهة اللحم الإيطالي والبروسيكو، أو مشروبات المارغريتا المعلبة بنكهة البرتقال الأحمر. وتعرف هذه الظاهرة باسم "تأثير أحمر الشفاه"، وهو مصطلح صاغه رئيس شركة إستي لودر ليونارد لودر، بعد ملاحظته ارتفاعاً في مبيعات أحمر الشفاه عقب أحداث الـ11 من سبتمبر. ويمكن وصف هذه الظاهرة بصورة عامة بـ"مؤشر الترف"، إذ تزداد مبيعات السلع الكمالية الصغيرة خلال فترات الضائقة الاقتصادية.
وتقول فرانشيسكا سميث، كبيرة محللي أنماط المستهلكين في مؤسسة "Mintel": "يبحث المستهلكون خلال الفترات الاقتصادية الصعبة عن منتجات تمنحهم لمحة من الرفاهية من دون إرهاق موازنتهم. وتتجلى هذه الظاهرة بصور مختلفة، لكنها تنطلق دائماً من دوافع عاطفية قوية، سواء لتحسين المزاج، أو الهرب من ضغوط الحياة اليومية، أو مجرد البحث عن متعة بسيطة"، ولعل علبة من حلوى "روكي رودز" الصغيرة، أو كيس من رقائق البطاطس بنكهة الملح والفلفل الأسود، أو قطع عجينة الكوكيز تمثل خير دليل على هذا التوجه في تحسين المزاج.
وربما حان الوقت لننسى كل الدلالات الاجتماعية لاختيار المتجر، فها نحن جميعاً نغرق في الديون متلذذين بالروبيان المقرمش والنقانق الصغيرة وكوكتيل المارتيني بنكهة الباشن فروت، ويمكننا القول بثقة: إذا كان لا بد من تحمل الديون، فلتكن ديون لـ"ماركس أند سبنسر".
© The Independent