ملخص
بات سماع الأنغام الشرقية على الإذاعات الإسرائيلية المعروفة مألوفاً أكثر، حتى إن سماع الأغاني العربية بأصوات اليهود الإسرائيليين لم يعد أمراً مفاجئاً كما في الماضي.
في حديقة وسط أحد أحياء تل أبيب معظم سكانها يهود، كسرت مجموعة من المراهقين الإسرائيليين وهم يمارسون رياضة الجري هدوء المكان عبر صخب موسيقى أغنية عربية حديثة، يرقصون على أنغامها ويرددون كلماتها وينشرون مقاطع مسجلة على منصة "تيك توك"، حيث تحظى أغاني الموسيقى العربية الحديثة البعيدة من السياسة بشعبية أكبر بين الإسرائيليين الشباب مقارنة بالموسيقى العربية التقليدية.
وليس غريباً أن تجد آلاف مقاطع الفيديو لإسرائيليين، من بينهم جنود ومجندات في الجيش الإسرائيلي، يتمايلون على الإيقاع الشرقي المفعم بالحيوية. وخلال العقديين الأخيرين شهدت الموسيقى العربية رواجاً كبيراً في إسرائيل، سواء في شقها الكلاسيكي الذي يمثله أعلام الموسيقى العربية مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وفيروز، أم في الجانب التجديدي الذي يتبناه فنانون إسرائيليون شباب غالبهم من أصول عربية شرقية يعرفون باسم (يهود مزراحي)، هاجروا من دول عربية، في مقدمها العراق ودول الشام ومصر واليمن ودول شمال أفريقيا.
ووفقاً لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية فإن ثلث الشباب الإسرائيليين يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي، كما أن 54 في المئة منهم ينشطون على "تيك توك"، ويتعلمون الموسيقى العربية من دون وسيط. كيف لا والإسرائيليون الشباب يجدون أنفسهم في المنصة الصينية التي تسير وفقاً للجغرافيا، معرضين لمزيد من محتويات الشرق الأوسط.
وتصل نسبة اليهود الذين ينحدرون من أصول شرقية وآسيوية وأفريقية، إلى جانب اليهود المهاجرين من إسبانيا والبرتغال (السفارديم)، إلى 36 في المئة من إجمالي عدد سكان إسرائيل اليهود البالغ نحو 7 ملايين و200 ألف نسمة.
جذور شرقية
مع وصول المهاجرين الشرقيين اليهود في خمسينيات القرن الماضي، كان نصف سكان إسرائيل يتحدثون العربية، إلى أن جاء "قانون الدولة القومية" الصادر عام 2018 وأضعف بصورة قانونية ورسمية مكانة اللغة العربية التي يتحدث بها 22 في المئة من السكان، وخفض مكانتها من لغة رسمية في الدولة إلى لغة "ذات مكانة خاصة"، بعد أن منح القانون اللغة العبرية مكانة عليا باعتبارها لغة الدولة.
وأظهرت الأبحاث الإسرائيلية التي أجراها معهد "فان لير" للأبحاث في القدس، أن معدل معرفة اللغة العربية انخفض من 25.6 في المئة في الجيل الأول من المهاجرين اليهود من المناطق العربية إلى 14 في المئة وسط أبناء الجيل الثاني، ثم إلى 1.3 في المئة بين الجيل الثالث، على رغم أن تدريس اللغة العربية في المدارس الإسرائيلية من الصف السابع وحتى العاشر لا يزال إلزامياً.
ووفقاً لتقرير صادر عن جمعية سيكوي (Sikkuy) عام 2018، وهي منظمة غير ربحية مقرها إسرائيل، فإن نحو تسعة في المئة فقط من اليهود الإسرائيليين يصفون أنفسهم بأنهم على دراية باللغة العربية. ولأن الثقافة لأي شعب أو أمة تتكون من اللغة والتراث والعادات والأدب والفن والموسيقى، فقد سعت إسرائيل منذ نشأتها عام 1948 إلى صهر التباين الكبير بين المهاجرين الذين يشكلون المجتمع الإسرائيلي في محاولة لتوحيدهم داخل إطار هوية ثقافية واحدة ودمجهم لإنتاج "الثقافة الإسرائيلية"، كما حاولت الضغط على المهاجرين الشرقيين بالتحديد للتحدث باللغة العبرية لتسهيل الاندماج في المجتمع الإسرائيلي.
لكن بعد أكثر من سبعة عقود على هجرتهم من المناطق العربية، ظل اليهود الشرقيون (مزراحي) متعلقين بأنماط الغناء باللغة العربية التي كانت سائدة في الثقافات التي حملوها معهم، ولم تنجح بوتقة الصهر الإسرائيلية في تحريف الغناء وجعله إسرائيلياً، إذ ظلت كل طائفة من أصول شرقية مخلصة للغناء بلغات البلدان التي خرجت منها، ولم يعد غريباً لمن يتجول في الأحياء الشعبية بالمدن الإسرائيلية الكبرى، التي يقطنها عادة اليهود ذوو الأصول الشرقية، أن يسمع أصوات الأغاني والموسيقى العربية المنبعثة من البيوت في هذه المناطق، التي لم تقتصر على كبار السن الذين هاجروا في خمسينيات القرن الماضي وما زالوا متمسكين بتراثهم الثقافي، بل إن هؤلاء أورثوا حب الموسيقى العربية وأنماطها المختلفة لأبنائهم وأحفادهم الذين ولدوا وترعرعوا في إسرائيل نفسها، خصوصاً بعد أن وقعت مصر والأردن على معاهدتي السلام مع إسرائيل، إذ تخلصت الأخيرة شيئاً فشيئاً من عقدة النزاع العربي - الإسرائيلي الذي كان عائقاً نفسياً بوجه تقبل "لغة العدو".
ولادة جديدة
في أعقاب ارتفاع أصوات احتجاجية في أوساط اليهود الشرقيين من أن نصيب الأغاني الشرقية ضئيل، وأن الغناء السائد هو ذو صبغة غربية بعيدة من أذواق الشرقيين، استجاب المسؤولون في إذاعة إسرائيل لهذا التوجه، ونظموا بين أعوام 1971 و1982 مهرجان "مسابقات في الغناء العبري - الشرقي"، وتم بث المهرجان بعد تسجيله على حساب ساعات البث بالعربية في التلفزيون الإسرائيلي، مما أثار الاستياء لدى الجمهور الإسرائيلي، فجرى في السنوات اللاحقة بثه على القناة العبرية وفي ساعات الذروة وببث مباشر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعرض المهرجان إلى موجات كبيرة من النقد الموضوعي والشخصي من منطلق كونه يكرس التقسيم والفجوات داخل المجتمع الإسرائيلي، ولا يقدم شيئاً مشتركاً في الثقافة الإسرائيلية الساعية، على حد قولهم، نحو أتون الصهر الذي أعلنه أول رئيس وزراء إسرائيلي دافيد بن غوريون، في مطلع الخمسينيات. ورأى مراقبون حينها أن هذا المهرجان أثبت صدق مقولة إن "المجتمع الإسرائيلي المركب من ثقافات متعددة لا تجمعه ثقافة واحدة". واستجابة للنداءات بإيقاف عمل المهرجان كانت الحفلة الأخيرة منه عام 1982، مما أشعر اليهود الشرقيون بأنهم غرباء ومرفوضون من الغالبية اليهودية القادمة من الغرب وأوروبا (الأشكيناز) المسيطرة في إسرائيل.
وأشار الكاتبان إدوين سيروسي وموتي ريجيف في كتابيهما Popular Music and National Culture in Israel (الموسيقى الشعبية والثقافة القومية في إسرائيل)، إلى أن المجتمع الأشكنازي في تلك الحقبة "تطور على أساس مبدأين هما: رفض ثقافة يهود الشتات، واختراع فرد يهودي جديد، أي العبراني، أو الإسرائيلي". لكن هذا اليهودي "الجديد" لم يكن شخصاً من أصول عربية أو شرق أوسطية.
سرقة ثقافية
على رغم أن أوضاع الشرقيين الاجتماعية والاقتصادية لم تتحسن كثيراً في ظل استمرار التفاوت بينهم وبين الأشكيناز، رأى عدد من المغنين والموسيقيين في إسرائيل اللغة العربية كمصدر للإلهام وأداة ربط بينهم وبين جذورهم العربية، ولجأ مطربون إسرائيليون إلى كثير من ألحان الأغاني العربية ودمجوها باللغة العبرية. وبعد أن أطلق الإسرائيليون على الموسيقى الشرقية اسم "موسيقى حوض البحر المتوسط" عام 2000، وأصبحت حقوق المؤلفين العرب غير محفوظة، بدأ عدد كبير من الموسيقيين والمغنين الإسرائيليين باستنساخ أغنيات عربية، وإعادة توزيعها الموسيقي مع المحافظة على بعض الكلمات بالعربية. حتى إن بعض الملحنين الإسرائيليين استخدموا موسيقى عربية في تلحين كلمات إسرائيلية ليرسموا خطاً جديداً وموازياً للموسيقى ذات الطابع الغربي "الأشكينازية" التي سيطرت على الموسيقى الإسرائيلية منذ تأسيسها.
ولعب اليهود الشرقيون دوراً جوهرياً في نقل لهجاتهم العربية إلى الأغنيات العبرية، على سبيل المثال وجد مهتمون نسخة أخرى من أغنية "سألوني الناس" (1972) للمطربة اللبنانية فيروز بنسخة عبرية تحت عنوان "شاءلو أوتي" تمت إعادة توزيعها وتسويقها من فرقة "تركواز" الإسرائيلية، كما أعادت المطربة الإسرائيلية نتالي بيرتس غناء "تي رش رش" البدوية الشهيرة مع إضافة كلمات عبرية جديدة، بعدما لاقت نجاحاً كبيراً بصوت المغني اللبناني رامز حسين. ومن لحن أغنية "على بالي" للفنانة اللبنانية إليسا تمكنت المغنية سريت حداد من غناءها بالعبرية، وغير ذلك كثير.
أجيال شابة
أخذت الموسيقى العربية تؤدي تدريجاً دوراً مهماً في تكوين الثقافة اليهودية الشرقية، وبات سماع الأنغام الشرقية على الإذاعات الإسرائيلية المعروفة مألوفاً أكثر، حتى إن سماع الأغاني العربية بأصوات اليهود الإسرائيليين لم يعد أمراً مفاجئاً كما في الماضي، خصوصاً بعد أن غدت وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة إلى اليهود العرب الجدد بمثابة أداة لنشر الوعي حول تراثهم الثقافي لا في إسرائيل فحسب بل في العالم كله. وعليه أنشئت صفحات على منصات اجتماعية وقنوات على "يوتيوب"، فضلاً عن مواقع ومدونات ومنتديات.
وعمل الفنان العراقي - الإسرائيلي ديفيد ريجيف زعرور على إنشاء قناة "يوتيوب" لنشر إرث جده يوسف زعرور الثقافي وجذوره من خلال تأدية أغان عربية عراقية ومصرية مع فرقته "لا فلفولا" La Falfoul، في حين نجحت فرقة "أيوا"A-WA المكونة من ثلاث شقيقات إسرائيليات من أصول يمنية، بدمج التقاليد العربية وكلمات الأغاني مع إيقاعات الـ"هيب هوب" لإيصال الموسيقى الشرقية إلى الأجيال الشابة، فيما تحظى المغنية الإسرائيلية من أصول مغربية زهافا بن بشعبية في مختلف أنحاء العالم العربي، لاسيما لأدائها الأغاني الكلاسيكية باللغة العربية، خصوصاً للمغنية المصرية الشهيرة أم كلثوم.
وفي عام 2022 احتفلت سفارة إسرائيل في مصر بعيد استقلال الدولة الـ74 للمرة الأولى منذ أربعة عقود، في حفلة مهيبة أحيتها فرقة "النور"، التي تأسست عام 2013 كأوركسترا إسرائيلية تعزف الموسيقى العربية الكلاسيكية والموسيقى الشرقية، وتمكنوا خلالها من أداء أشهر الأغاني والألحان لعمالقة الغناء المصريين أمام دبلوماسيين من دول مختلفة وشخصيات عامة، كما أحيت حفلة خاصة لجمهور مصري وإسرائيلي.
تدريب وتدريس
تزامناً مع محاولات إسرائيلية تهميش جمال الثقافة العربية في إسرائيل بكل ألوانها ومن ضمنها الموسيقى الشرقية، عمل أبراهام شوشاني والمغني الإسرائيلي الشهير يهورام غاون عام 1996على تأسيس مركز "الموسيقى من الشرق" في مدينة القدس، بهدف تسليط الضوء على التقاليد الموسيقية من الشرق الأوسط، وأهميتها في تشكيل جسر بين اليهود والمسلمين في المنطقة، وجعلها محط اهتمام الجمهور الأوسع والأعم.
وبحسب الموقع الرسمي للمركز فإن المكان على مدار أكثر من عقدين قام بدور حيوي في إحياء التقاليد الموسيقية الشرق أوسطية في إسرائيل، التي أهملت لعقود عديدة، وجلب تغيرات اجتماعية كبيرة وساعد في تكوين مجتمع أكثر عدلاً وتقبلاً، مضيفاً "المكان أصبح معقلاً إبداعياً لمئات التلاميذ اليهود الذين أصبحوا اليوم في طليعة مشهد الموسيقى الكلاسيكية الشرقية".
وتمكن المركز من خلال تدريب وتدريس الآلاف من اليهود المهتمين بالموسيقى الشرقية على الطبلة والعود والدف والناي العربي والقانون والبزق وغيرها من آلات العزف الشرقية، وتشكيل ما لا يقل عن 17 فرقة فنية إسرائيلية بطابع شرقي، لعل أكثرها شهرة فرقة "نشواتي نشواتي" و"يالا" و"طلوع" و"منصورة" و"أركاداش" وهابوستان". وتستند أغاني الفنانين في هذه الفرق إلى تأثيرات مثل الألحان الأندلسية والعربية اليهودية التقليدية والـ"بلوز" والـ"جاز" والموسيقى من تركيا ومقدونيا واليونان ومصر والعراق والبلقان، وغالباً ما تحتوي أغنياتهم على كلمات عربية وعبرية.
وعلى رغم الاستقبال الإيجابي لبعض الفرق الشرقية الإسرائيلية عبر العالم العربي، واجه موسيقيون وفنانون إسرائيليون عقبات كبيرة بسبب التعقيدات السياسية، وقليل منهم نجح في الوصول إلى المستمعين العرب.
تراتيل شرقية
وفقاً لباحثين ومهتمين، لا يزال الحاخامات اليهود والشرقيون بصورة خاصة يستخدمون الموسيقى الشرقية الكلاسيكية في كنسهم وأثناء صلواتهم وأعيادهم المختلفة خصوصاً في "عيد الغفران" ورأس السنة العبرية، وفي معظم المناسبات الاجتماعية، ظلت ألحان محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وكبار الملحنين العرب حاضرة بقوة عند غالبية المرتلين والمبتهلين في الكنس اليهودية الشرقية.
يذكر أن المستوى الرسمي الإسرائيلي بدأ يهتم في العامين الأخيرين بتعليم اللغة العربية، ففي القدس كثفت البلدية جهودها في تعليم العربية، وأطلقت في نهاية أغسطس (آب) 2022 منهاجاً جديداً يسمى "أهلاً" لتعليم التلاميذ في المدارس اليهودية بالقدس اللغة العربية يعتمد على تدريس اللهجة الفلسطينية المحكية بدلاً من اللغة العربية الفصحى. وقالت البلدية آنذاك عبر صفحتها الرسمية، إن ذلك يأتي بهدف "تعزيز قدرة الطلاب اليهود على التواصل باللغة العربية، في محاولة لخلق ضوء إيجابي بين سكان المدينة العرب واليهود".
كما وتعتقد وزارة التعليم الإسرائيلية "أن الطلاب اليهود يجب أن يكونوا على دراية بما يقوله العرب اليوم حتى لو لم يكن لطيفاً بالنسبة إليهم"، وكانت جامعة "بن غوريون" في النقب و"الجامعة العبرية" في القدس من أوائل الجامعات التي بدأت إجراء تغييرات من تلقاء نفسها لتعليم العربية، إذ حصلت الأخيرة على امتياز كونها أول من أسس كلية الدراسات الشرقية عام 1926.