ملخص
تتعرض غابات لبنان إلى "الإبادة"، إذ تلتهمها حرائق كبيرة مقصودة من أجل استخراج الحطب وتصنيع الفحم، أو عن طريق الإهمال، ويؤدي التغير المناخي وتأخر موسم الأمطار إلى جفاف الأرض وانتشار النيران على نطاق واسع.
منذ أسبوع يكافح رجال الإطفاء لإخماد النيران المندلعة داخل أحراج وغابات في لبنان، منها في مناطق الربوة والشوف وبطرماز والسفيرة، وهي بلدات في مناطق بعيدة جغرافياً عن بعضها البعض.
يجزم رئيس مركز الدفاع المدني في بلدة السفيرة جهاد اليخني أنها "جرائم مفتعلة"، قائلاً "ما أن تقوم الفرق بإطفاء جانب من جوانب الحرج حتى تندلع النيران في مكان آخر ضمن الحرج الأكبر في منطقة الشرق الأوسط".
يلتقي هذا التصريح مع تأكيدات رئيس قسم التدريب في الدفاع المدني اللبناني نبيل صالحاني الذي يقول فيه "99 في المئة من الحرائق مفتعلة، وليس لها علاقة بعوامل الطبيعة في هذه الفترة من السنة، لأنه لا يتخيل اندلاع حرائق مفاجئة بعد منتصف الليل".
السبت الكبير
شكل نهار السبت الـ26 من أكتوبر (تشرين الأول) كابوساً لرجال الإطفاء في لبنان، مع اندلاع أكثر من 20 حريقاً في مناطق مختلفة، ولا يستبعد مراقبون أن تكون هذه الحرائق أعمال تخريبية مقصودة مع العثور على عبوات بنزين في كثير من الأحيان.
في جبل لبنان تعرضت منطقة الربوة - المتن لأعنف الحرائق على الإطلاق، كما انتشرت الحرائق في مناطق مختلفة من كسروان والشوف وبعبدا والمتن الأعلى وجبيل، وتعرضت أحراج شمال لبنان إلى حرائق شرسة، التهمت جزءاً من المساحة الخضراء في إهدن وبشري وبطرماز الضنية، لإضافة إلى عكار العتيقة وبلانة الحيصة وبيت يونس.
هذه الأحداث الخطرة، دفعت المديرية العامة للدفاع المدني المواطنين والبلديات إلى ضرورة مراقبة المساحات الحرجية، والتبليغ فوراً عن أي اعتداء على الطبيعة بإشعال النار.
وأكد المدير العام للدفاع المدني العميد ريمون خطار "العثور على عبوات من البنزين في أماكن عدة على جانب الطريق في منطقة الربوة التي اندلع فيها حريق"، لافتاً إلى أن "هناك أشخاص يعمدون إلى التخريب وإشعال الحرائق في عدد من المناطق اللبنانية".
الغابات العذراء في خطر
خلال الأعوام الأخيرة تعرضت مساحات حرجية لاعتداءات ممنهجة، فهي بقيت شبه عذراء لنحو 200 عام، قبل أن تصبح عرضة لمحاولات "الإبادة"، والقضاء على المنظومة البيئية المتكاملة.
رئيس مركز السفيرة في الدفاع المدني جهاد اليخني قال لـ"اندبندنت عربية" إن "بعض الأشجار التي تجاوز عمرها 200 عام، التهمتها النيران خلال دقائق بسبب فاعل ينوي التجارة فيها من أجل تقطيعها وبيعها"، موضحاً أن "عمليات الإطفاء مستمرة في منطقة الخريبة، وهي مثلث حرجي واقع بين ثلاث قرى هي طاران وبطرماز والسفيرة، وهي منطقة غنية بأشجار الصنوبر والسنديان والشربين".
وأشار اليخني إلى أنه "ما أن تلبس الفرق على إخماد النيران نهاراً حتى يقوم أشخاص بإعادة إشعالها مجدداً في الليل"، مضيفاً "اتسعت دائرة النار، ولم تعد جهود الفرق المحلية والمتطوعين قادرة على العمل وحيدة، واستعانت بمروحيات الجيش اللبناني للإطفاء والتبريد"، لافتاً إلى أن "الشكوك تحيط ببعض الأشخاص الذين أصبحت أسماءهم في عهدة المسؤولين الرسميين والعسكريين في المنطقة، وننتظر الادعاء أمام النيابة العامة في الملف وتجاوز منطق الدعم والواسطة".
من جهته يشير الناشط علي الفشيخ إلى عدم وجود "هبة شعبية" للمشاركة في إخماد النيران المفتعلة، متحدثاً عن مشاركته برفقة صديق له في أعمال التبريد، ومساعدة طوافات الجيش اللبناني في ملء المياه من الخزانات الاصطناعية المستحدثة لكي تقوم بأعمال الإطفاء والتبريد.
ويشكو الفشيخ من أضرار كبيرة تعرض لها السكان المحليون، إذ "لم يعد بالإمكان فتح النوافذ للتنفس نظراً إلى حجم الدخان، ولا نستطيع النوم"، بخلاف آثارها الشديدة في مرضى الجهاز التنفسي.
حراس الأحراج يتحركون
تتحدث أوساط مصلحة الغابات في وزارة الزراعة عن مزايا غابة بطرماز - السفيرة - طاران التي تعد من الأملاك العامة التابعة للجمهورية اللبنانية، وتطل على الضنية وعكار وسوريا، وتضم قلعة رومانية، وتحوي فصائل أشجار ونباتات طبية نادرة، وتحرسها فرق حراس الأحراج، وتبلغ مساحتها أكثر من 5 ملايين متر مربع، لذلك تعتبر رئة الضنية ولبنان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع الفشيخ "منذ سنوات عدة، تتعرض الغابة لعمليات إحراق مقصودة، وفي مواقع هي نفسها، وتحمل الأوساط المسؤولية للخلافات العائلية على الملكية، إذ يقوم أفراد بإشعالها في نقاط معينة عند أطراف الغابة، ولكن سرعان ما تمتد النيران لتلتهم مساحات واسعة داخل الغابة، وهذا الأمر يتكرر في كل عام".
يعتقد الناشطون الميدانيون أن الطقس الجاف وتدني نسب الرطوبة، يشكلان عائقاً أمام عمليات الإخماد السريعة للنيران التي التهمت نحو 1.5 مليون متر مربع من الغابات، ويؤدي تكرار الحرائق في كل عام إلى أضرار فادحة في الأشجار، لذلك لا بد من المساءلة ومعاقبة المخالفين لردعهم عن تكرار أفعالهم.
مأزق إضافي
وكأن لبنان لا يكفيه الدمار الناجم عن الحرب الإسرائيلية، حتى تأتيه عشرات الحرائق لتقضي على ما تبقى من مساحات خضراء، وتشكل هذه الحرائق ضغطاً إضافياً على فرق الدفاع المدني المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية، والموزعة على نحو 230 مركزاً.
ويكشف نبيل صالحاني من الدفاع المدني اللبناني عن أن الفرق تتحمل أعباء هائلة بين إنذارات حرائق، ورفع أنقاض الاعتداءات الإسرائيلية، إذ تقوم بـ200 مهمة تقريباً خلال الساعات الـ24، ويعتقد صالحاني أن الحرائق التي يتعرض لها لبنان راهناً هي من صنع الإنسان، مميزاً بين حرائق متعمدة وأخرى ناجمة عن إهمال وتقصير.
وبحسب مسؤول الدفاع المدني، تفيد شهادات من منطقة رومية بجبل لبنان أن الحرائق التي امتدت إلى المنازل نجمت عن أعمال التحطيب وتقطيع الأشجار الحرجية، أما في حالة أخرى، فنتجت عن "عمل تخريبي"، إذ أشعل المخربون النيران على طرف الطريق المارة بجانب الحرج، قبل أن تمتد إلى قلب الغابة، وتلتهم مساحات خضراء.
ويرد صالحاني على شكاوى المواطنين والادعاءات بتأخر فرق الدفاع المدني عن الاستجابة لنداءات إخماد الحرائق، قائلاً "عند وقوع الكوارث والحرائق هناك عامل نفسي ينتج منه الهلع، ولذلك فإن مرور دقيقة واحدة على ألسنة اللهب من شأنه إحداث خوف كبير لدى المواطن إلا أن الفرق تستجيب فور الاتصال بها".
ويستدرك صالحاني "لا يمكننا إغفال الأعطال في سيارات الإطفاء، كما لا نملك أسطول حديث وآلياتنا قديمة، ولا تسير بسرعة عالية، كما أنه لا توجد لدينا إطفائية لكل بيت، ولكن نبذل قصارى جهدنا"، مطالباً المواطنين بالتعاون والإبلاغ عن الحريق فور ظهور الدخان، وعدم انتظار ألسنة اللهب لتلتهم الغابات.
أما في ما يتعلق بعدم وجود طائرات لإخماد الحرائق، وآليات جبلية صغيرة للعبور نحو الأماكن الضيقة، يعتبر صالحاني أن "التعاون مع الجيش اللبناني، يلعب دوراً في الغطاء الجوي لإطفاء حرائق الغابات، والحاجة إلى الطائرات الخاصة إنما يجب أن يكون للأوقات الحرجة للغاية".
خسائر لا تحصى
لم تقتصر الحرائق على المناطق الحرجية، وإنما تجاوزتها إلى الأراضي الزراعية، إذ تعرضت بساتين الزيتون في بلدة مرياطة قضاء زغرتا لحرائق واسعة النطاق.
وتقول الشابة إيمان "بينما كنا نقطف الزيتون في بستاننا الواقع في منطقة البلاط، انتشرت ألسنة اللهب بسرعة لا تصدق"، وتروي "حاولنا إطفاء الحريق يدوياً ولكن لم نفلح، وهدد حياتنا إلى حد كبير، ولكن تمكنا من الخروج قبل امتداده إلى الجبل".
وتعتقد إيمان أن الحريق ناجم عن إهمال وليس مفتعلاً، إذ "كان المزارعون يقشرون الأشجار، واندلعت النيران في العشب اليابس، وكانت النار أسرع من محاولة محاصرتها بالماء والتراب"، وأدى ذلك لخسارة مساحات واسعة من الأشجار المثمرة.
يلفت فريق المستجيب الأول في عكار إلى نتائج كارثية للحرائق المندلعة في مختلف المناطق اللبنانية، إذ أعلن "تدمير عشرات الهكتارات من الغابات التي كانت مأوى للحياة البرية في بلدة حرار، كما أدت النيران إلى مخاوف كبيرة لدى السكان وخسارة مصادر رزقهم الزراعية"، كما لفت الفريق إلى "اعتماد السكان المحليين على جهودهم الذاتية لمكافحة النيران، باستخدام معدات بدائية مثل أغصان الشجر والمعاول في محاولة يائسة لحماية غاباتهم ومزروعاتهم".
الترميم يحتاج إلى سنوات
أدت الحرائق إلى فقدان مساحات شاسعة من الغطاء النباتي، وتفاقم مشكلات التربة لناحية تآكلها وانجرافها، مما قد يؤدي إلى زيادة أخطار الفيضانات، علماً أن التعافي البيئي قد يستغرق سنوات طويلة.
يلاحظ الناشط البيئي بول أبي راشد من جمعية أرض لبنان، تراجعاً كبيراً في مساحة الغطاء الأخضر في لبنان نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية واللجوء إلى سلاح الفوسفور الحارق والحرائق، إضافة إلى عمليات القطع الممنهجة للأشجار المعمرة من خلال أعمال التحطيب.
ويشير أبي راشد إلى أنه "لم يعد هناك مناطق مأمونة من الحرائق"، وآخرها اندلاع حريق كبير مساء الإثنين الـ28 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري في جزين (قيتولي)، منبهاً إلى أن "إخماد الحرائق يستغرق أحياناً لأكثر من أسبوع وخير دليل على ذلك ما تتعرض له غابة بطرماز، إذ نواجه عملية إبادة للمساحات الخضراء في لبنان".
يلفت الناشط البيئي إلى إسهامات سلبية للتغير المناخي على لبنان، حيث وصلنا إلى نهاية أكتوبر من دون أن تمطر السماء وهذا أمر غير اعتيادي، لذلك فإن ثمة احتمالات كبيرة لامتداد أي حريق مهما صغر نطاقه، معتبراً أن "الغابة هي أساس الحياة ومصدر الأوكسجين، وهي سبب تكوين التربة وتخزين المياه، وكذلك التنوع البيولوجي وجذب السياح والدورة الاقتصادية، ومن هذا المنطلق يعتبر أنه "يجب علينا أن نقلق على نوعية الحياة التي تنتظرنا مستقبلاً من تدمير الحياة البرية والبحرية".
في الموازاة، يتطرق أبي راشد إلى ما يدعيه البعض من أن الطبيعة تجدد نفسها بنفسها، وينطلق من أن "ترميم الطبيعة يحتاج إلى عشرات السنوات، ذلك أننا لن نكون أمام تجدد لفصائل الحيوانات البرية التي تقتلها النيران، كما تحتاج بعض أنواع الشجر كالصنوبر لفترات طويلة لا تقل عن عقد من الزمن لتعود للظهور على شكل شجيرات"، محذراً من أن "تكرار الحرائق في الأحراج عينها، يحول دون إمكانها لتجديد بنيتها".
ويضيف الناشط البيئي "إذا نتج من الأشجار المعمرة بعض البذور، فقد يؤدي سقوطها إلى إمكان تجديد الغابة، ولكن الحرائق التي تمس غابات فتية سيؤدي إلى القضاء عليها، وستتأخر عملية التجدد".
أما في ما يتعلق بكفاءة عمليات التشجير، وإمكانية إعادة بناء المنظمة البيئية داخل الغابات المحترقة، يلفت أبي راشد إلى أن "حملات التشجير غير كافية، لأنها مكلفة للغاية، كما أن ثمة احتمالات ضئيلة في استمرار تلك الشجيرات على قيد الحياة".