لا شك في أن من يقرأ كتاب ويليام فوكنر "تخطيطات نيو أورلينز" من دون أن يعرف مسبقاً اسم كاتبه لن يمكنه على الإطلاق أن يخمن أن من كتبه هو حقاً ذلك المبدع الأميركي الذي حين منح ذات عام من أواسط القرن الـ20، جائزة نوبل للآداب، لم تمنح له عن هذا الكتاب، بل عن مجمل رواياته الكبيرة لا سيما منها "الصخب والعنف" وفيما أنا مستلقية أحتضر". ففي نهاية الأمر لا تنتمي تلك "التخطيطات" إلى أدب فوكنر الكبير، بل إلى نوع من تحقيقات تكاد تكون صحافية. من هنا، إذا كان الكاتب قد أصدر هذا الكتاب في "صيغته" الأولى في عام 1953 تحت عنوان آخر هو "مرايا شارع تشارلز" على سبيل ملء بعض أوقات فراغه، فإنه عاد وأصدره بعد ذلك بثلاثة أعوام في صيغة جديدة وعنوان مختلف وخصوصاً في اليابان التي كان يزورها بناء على طلب خاص جاءه من وزارة الخارجية الأميركية التي كانت تقوم حينها بحملة دعائية من نمط مبتكر في ذلك البلد الذي كانت قد هزمته ودمرته وتريد الآن أن تقدم عن نفسها صورة أخرى برسم مثقفين. وكان فوكنر أداة من أدواتها في ذلك، كما كان "تخطيطات نيو أورلينز" وسيلة من تلك الوسائل الدعائية.
بين السياسة والأدب
مهما يكن من أمر فسيكون من المهم هنا أن فوكنر لم يدبج المقالات العديدة التي ضمها هذا الكتاب في زمن صدوره، بل قبل ذلك بنحو ثلاثة عقود وتحديداً حين كان يكتب مقالات أسبوعية لصحيفة "دابل ديلر" الصادرة في مدينة نيو أورلينز نفسها وكان ذلك عند مفتتح عام 1925 وكان يقترب من سن الـ30 ويحاول أن يجد لنفسه مكانة في الحياة الأدبية في الجنوب الأميركي الذي كانت تلك المدينة حاضرته الكبرى، لا سيما مع تطور موسيقى الجاز في شارع تشارلز نفسه الذي يشغل والحياة فيه صفحات عديدة من الكتاب، فالشارع كان بصورة ما مركزاً أساسياً للحياة الفنية والثقافية في الجنوب الأميركي، وتحديداً لكونه المرفق الأساسي في ذلك الجانب من الولايات المتحدة من ثَم مهداً للبؤس والحياة العمالية التي كثيراً ما تحدث عنها كتاب الجنوب. ومن هنا لا بد أن نلاحظ قبل أي شيء آخر أن الناس الذين يتحدث عنهم فوكنر في فصول هذا الكتاب هم في مجموعهم أناس بسطاء طيبون على رغم قوتهم وقسوة الحياة عليهم: إسكافي هنا زبال هناك، متسول بينهما أو شرطي أو حتى سائح آت من مناطق أخرى ليجد نفسه مندمجاً بكل بساطة هنا.
تأثيرات ما قبل الحداثة
صحيح أن من الصعب على قارئ تلك التخطيطات أن يجد في كاتبها تلك البساطة التي قد يوحي عبرها أنه واحد منهم حتى وإن كان لا يبدو مترفعاً عليهم، لكنه في المقابل يجد نفسه مندمجاً في حياتهم وتفاصيل تلك الحياة ما قد يذكر على سبيل المثال بكتابة دوستويفسكي عن رفاقه في المنفى السيبيري. ومع ذلك يمكننا أن نصدق ما سيقوله فوكنر نفسه لاحقاً بأنه خلال تلك المرحلة من حياته لم يكن خاضعاً لتأثيرات عملاق الرواية الروسية، بل لتأثيرات شيروود أندرسون، الكاتب الأميركي الذي كان يعد أيقونة أدب البساطة في ذلك الحين. وطبعاً كان ذلك قبل دخول جيمس جويس وأدب الجوانية المطلقة عبر تيار الوعي الآتي من دبلن الإيرلندية من طريق كاتبها الكبير هذا. مهما يكن من المؤكد أنهم دائماً على حق أولئك الذين يعجزون عن التكهن بأن كاتب تلك المقالات سيبدع بعد أقل من أربعة أعوام مجدداً في عالم الرواية الأميركية عبر روايات مثل "الصخب والعنف". ولنشر هنا إلى ما يقوله عدد من مؤرخي حياة فوكنر ودارسي أعماله إن الأهمية الكبرى لتلك الكتابات المبكرة تكمن في كونها المحاولات النظرية الأولى التي كتبها فوكنر.
تجديدات عشوائية
غير أن هذا لا يمنعنا من القول إن ثمة في ثنايا تلك الكتابات ما يمكننا من القول إن في ثنايا تلك المحاولات الجادة للتعاطي مع الواقع إرهاصات ولو مجرد أسلوبية بما سيكون عليه أدب فوكنر لاحقاً. فهناك أولاً ذلك البحث في ثنايا الحياة نفسها، الذي سيميز أدب هذا الكاتب الكبير وهو بحث يتوقف عادة مطولاً عند ربط الصورة الخارجية للشخصية بما يفترض أنه أفكاره وعواطفه حتى قبل أن يتفوق بكلمة. يبدو الأمر هنا وكأن الكاتب يدخل مرآة متحركة إلى روح شخصيته كامتداد لمرآته الخارجية في نفس اللحظة، وهناك تلك الشاعرية التي لا تغيب ولو في سطر من السطور عن تعامل فوكنر مع ما يدور ومن يدور من حوله. فالشاعرية كانت منذ تلك البدايات وستبقى حتى النهاية في أدب فوكنر جزءاً أساسياً من تميزه الأدبي الذي يميزه حتى عن "أستاذه" في ذلك الحين أندرسون الذي كان من ناحيته مغرقاً في واقعيته الفجة أحياناً. وهي شاعرية لا تتعارض مع تلك الواقعية التي هي سمة أساسية من سمات أدب فوكنر كما أشرنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن اللافت أكثر من ذلك كله هو أن في إمكان قارئ تلك التخطيطات أن يجد في وصف فوكنر لعديد من الشخصيات، نوعاً من مسودات تمهد لعديد من الشخصيات التي سنلتقيها، أو في الأقل نلتقي شبيهاً لها، في روايات فوكنر اللاحقة، بل حتى في رواياته الكبرى... وصولاً إلى مواصفات لبعض تلك الشخصيات تكاد تكون مستعارة من توصيفات لأولئك البسطاء الذين يصف لنا الكاتب نمط الحياة التي يعيشونها في شارع تشارلز. غير أن ما يبدو لنا بعد ذلك كله جدير بالتوقف عنده هنا هو أن فوكنر ومن دون أن يتعمد ذلك على أية حال، إنما هو ما يقدم عليه من مزج لديه في مراحله الكبرى المقبلة بين عدة شخصيات يستعيرها من عدد غير متوقع من تلك النصوص المبكرة، ليشكل منها واحدة مثلاً من شخصيات هذه أو تلك من الروايات اللاحقة، كما يحدث مثلاً بالنسبة إلى دمجه الخلاق بين شخصية الأحمق التي نراها أولاً في النص المعنون "مملكة الرب" وشخصية النصاب في نص عنوانه "الكذاب" ليشكل من ذلك الخليط شخصيات سيدهشنا أن نجدها وقد تكرر حضورها وبات لافتاً في ما لا يقل عن ثلاث روايات كبرى للكاتب وهي "الصخب والعنف" و"الحرم" و"أبسالوم أبسالوم".
أدب متكامل
فما الذي يقوله هذا كله لنا بعد كل شيء؟ ببساطة إننا انطلاقاً من تلك "المقالات البسيطة" لفوكنر لا يمكننا إلا أن نجد أنفسنا أمام أدب يدهشنا في تكامله. ففي نهاية المطاف وربما على ضوء ما سبق، يبدو الأمر وكأن هذا الكاتب الكبير في هندسته وأسلوبه وفي كل ما يريد أن يقوله لنا، إنما بنى كل عمله الروائي بما فيه من شخصيات وأماكن وحتى حوارات وأفكار جوانية، في انطلاقة بديعة من تلك المقدمات جاعلاً إياها تبدو وكأنها مقدمة تمهيدية تشبه أكثر ما تشبه تلك الافتتاحية التي يضعها كبار مبدعي السيمفونيات جاعلين منها نوعاً من تمهيد يستحق ما سيلي ذلك في ثنايا الحركات المتتالية التي تتوزع السيمفونية عليها بحيث ما أن تفاجئ جملة لحنية المستمع إلى السيمفونية حتى يبدو متآلفاً معها. ولعل هذه واحدة من الميزات الكبرى لأدب ويليام فوكنر (1897-1962) وكانت بالتأكيد واحدة من السمات الرئيسة التي جعلت منه أدباً كبيراً.