Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أبطال رواية "القفزة" السويسرية ضحايا التطور التقني

سيمونه لابرت ترصد المآسي اليومية في حياة المجتمع العادي

الروائية السويسرية سيمونه لابرت (صفحة الكاتبة - فيسبوك)

ملخص

في عالم قاس سمته التحول واللاثبات، يعيش كل إنسان تعاسته الخاصة، لا فرق في ذلك بين شرق وغرب، رجل وامرأة، غني وفقير، مرموق ومشرد. هذه التعاسة اليومية، وهؤلاء التعساء العاديون، هم أبطال في رواية الكاتبة السويسرية سيمونه لابرت "القفزة" التي رشحت عقب صدورها، لجائزة أفضل كتاب سويسري، واختيرت عام 2020 أفضل عمل أحبه القراء السويسريون، وصدرت ترجمتها العربية أخيراً عن دار الكرمة، بتوقيع الكاتب المصري المقيم في ألمانيا سمير جريس.

 في رواية "القفزة" التي بنيت على حدث حقيقي، شرعت الكاتبة سردها من مشهد فوق سطح أحد المنازل، بدت فيه واحدة من شخوصها المحورية "مانو" متأهبة للقفز والانتحار، ثم تتبعت، عبر سرد مركزي منحت صوته وعبء قيادته لراو عليم، الفوضى العارمة التي تسببت فيها هذه الحادثة لبقية الشخوص الذين ارتبطوا بفتاة السطح بعلاقات تراوحت ما بين وثيقة وسطحية وعابرة.

وعلى رغم كثرة عدد الشخوص في النص حد الإرباك، فإن عاملي الألفة والمعايشة، أضفيا عليهم نوعاً من الحميمية، وخففا من وطأة هذا الإرباك. وتشاركت الشخوص رغبة مجازية في القفز والتحرر، تنوعت دوافعها وغاياتها، بتنوع خلفياتهم وسماتهم. فبينما أراد الشرطي "فيلكس" التحرر من مسؤولية إنجاب طفل، ومن ذاكرة تحمل عقدة قديمة بالذنب، أرادت "مارين" التحرر من زواج بائس، باتت فيه وحيدة بعد أن تحول زوجها "هانيس" إلى رجل لا تعرفه، وكان سر تحوله، قفزة قام بها إلى علاقة جديدة بامرأة أخرى، هي "أستريد"، التي أرادت بدورها عبر هذه العلاقة، التحرر من حصار حماتها، وسلبية زوجها، وما يمثلانه من تهديد لها بخسارة منصب العمدة.

وبينما كان القفز من الماضي العالق بالذاكرة، هاجساً لدى عديد من الشخوص، مثل "إدنا" العجوز التي أرهقتها ذكريات ثلاثاء مملوء بالدم والأشلاء، و"هنري" المشرد، المتخمة ذاكرته بملامح عائلته، وذكرى طرد ابنه له من البيت، كان القفز من الواقع السيئ هاجساً معاكساً لدى شخوص أخرى، مثل "تريز" و"فرنر" اللذين كانا يعانيان كساد تجارتهما، و"دفني" الطفلة التي كانت تكابد تنمر أقرانها في المدرسة، و"سالومي" التي تعرضت للابتزاز الإلكتروني، مما دفعها للتفكير في أن تحذو حذو فتاة السطح... "قالت سالومي: ربما ينبغي علي أن أفعل ما فعلته المرأة على السطح، أن أنهي كل شيء ببساطة. قبل قليل قال إنني لا أحبه إذا لم أتركه يفعل هذا وإنني سأندم لأنه سيضع صورتي أونلاين، الصورة التي أرسلتها له الأسبوع الماضي" ص 194.

تناقضات وهشاشة

عمدت الكاتبة إلى تكرار عبارة "عالم متوحش"، لتبرز هول المآسي اليومية التي يعيشها الشخوص، وتفسر رغباتهم في القفز والتحرر والخلاص، وتثير حالة من التعاطف معهم، حتى في ظل خياراتهم الخطأ، وأفعالهم المشينة. وأوحت عبر فضائها المكاني المتخيل "مدينة تالباخ"، إلى عالمية المعاناة التي رصدتها والتي عادة ما تتكرر كل يوم، بصور مختلفة، في شتى بقاع العالم. وعززت شعور التعاطف مع الشخوص، عبر ما أبرزته من تناقضاتها، فـ"فني" التي انتقمت من زميلها المخادع والمتنمر "تيمو"، بكسر هاتفه المحمول، هي ذاتها التي هبت لمساعدة "سالومي"، على رغم مما نالته منها من تنمر. و"إدنا" العجوز التي سارعت بالاتصال بالشرطة لإنقاذ فتاة السطح، هي ذاتها التي سأمت مشهد تأهبها للانتحار، مطالبة بأنهائه، حتى ولو كانت النهاية قاسية. و"فيلكس" الذي يحمل جسداً قوياً، ووجهاً جاداً متجهماً، هو نفسه صاحب النفس الرقيقة الهشة، التي ما فتئت تجلده، وتشعره بالذنب لموت صديق طفولته.

وكما رصدت لابرت التناقضات داخل النفس الإنسانية الواحدة، أبرزت صوراً أخرى من التناقض، بدت في ثنائيات متقابلة، بين الماضي والحاضر، الصدق والخداع، السلبية والمساعدة، الرقة والصلف. فـ"مانوبلا" الشجاعة الجريئة التي تهتم لحياة النباتات، وتعرض نفسها للخطر كي تنقذها من محبسها في أصص، ليست كـ"أستريد" التي تضحي بكل شيء، من أجل أن تفوز بمنصب العمدة. و"مارين" التي تخلص لعادات غذائية سيئة، ليست كزوجها "هانيس"، الذي قرر التوقف عن العادات نفسها، وعيش حياة صحية. وتعاطي "استر" مع صوت الطيور كإشارة إلى المرح، ليس كتعاطي زوجها "هنري" الذي لم يكن يجده سوى حالة من الهيستريا. وثبات "فرنر" على عاداته في اقتناء وعرض بضائعه، يناقض واقع المجتمع، وتغير أنماطه الاستهلاكية.

وقود الصراع

كانت تلك التناقضات والتقابلات وقوداً للصراع على اختلاف مستوياته، سواء الذي اندلع في العوالم الداخلية لـ"فيلكس"، حين انقسم بين رغبته في الطفل، وخوفه من تحمل المسؤولية، وفي عوالم "استريد" التي انقسمت بين رغبتها في إنقاذ أختها العالقة فوق السطح، وبين مخاوفها من الصحافة وما يمكن أن تسببه الفضيحة من خسارتها منصب العمدة أو على المستوى الخارجي، لا سيما الذي اندلع بين "مارين" و"هانيس"، بين "فني" و"تيمو"، بين "فيلكس" و"مونيك"، بين "إدنا" و"تيريز"، بين "مانو" وأفراد الشرطة، وبينها وبقية الفضوليين حول السطح. وكان ما حاكته الكاتبة من صراعات، مقدمة لما طرأ من تحولات، شملت قفز "مانو" من السطح، إنهاء "مارين" زواجها التعس، تحول "فني" من الهرب إلى المواجهة والتحدي، وتحول "فيلكس" من الشعور بالذنب، إلى التصالح مع نفسه، وتحول "إيغون" من ولاء لعاداته القديمة الرافضة للتكنولوجيا، إلى مواكبة التطور واقتناء هاتف ذكي. وأبرزت الكاتبة وطأة تحول المجتمع إلى نسخة تهيمن عليها التكنولوجيا، المتمثلة في الهواتف الذكية، وتطبيقات التواصل الاجتماعي، وما زامن هذه الهيمنة من زيادة معدل القسوة، وخفض مشاعر التعاطف، وهو ما بدا في مشهد الجماهير الملتفة حول السطح، متأهبة لتصوير مشهد انتحار الفتاة، وإعلان البعض رغبته في سبق نشر القفزة على مواقع التواصل، لجني أكبر عدد من المشاهدات، والإعجابات، والتعليقات!

وإلى جانب ما رصدته الكاتبة من تحولات اجتماعية، نتيجة تطور التقنية، أسفرت عن قسوة وتبلد في المشاعر، طرقت قضايا أخرى، مثل التفسخ الأسري، الابتزاز الإلكتروني، التمييز ضد النساء، شيوع السلوك الاستهلاكي. كما مررت في غير موضع من نسيجها، أسئلة الوجود والمصير.

التشويق واللعب بالزمن

شرعت الكاتبة رحلتها السردية بمشهد صادم، يشي بمحاولة انتحار. وضمنت عبر نظرية الصدمة، وما أحاطت به هذا المشهد من ضبابية، وما أثارته عبره من أسئلة، تتعلق بحقيقته وملابساته ودوافعه وإرجائها الإجابة عنها، التي كانت بدورها بمثابة مفاجأة وصدمة جديدة، لمرحلة متقدمة من السرد، تمرير جرعة من التشويق، ووضع القارئ في حال من الترقب والانتظار. واستمرت في انتهاج حيلتي الاستباق، وإثارة الأسئلة، في تعزيز نغمة التشويق، فاستبقت بارتباك وضياع "فيلكس"، في انتظار قدوم ابنه إلى الحياة، وأرجأت تفسير هذه الحالة من التشتت والضياع. واستبقت بالإشارة إلى مصادفات سابقة للعجوز "إدنا"، مع تجارب من الانتحار. وأرجأت الكشف عن تفاصيل تلك المصادفات. كما عززت نبرة الإثارة، عبر ما استدعته من تقنيات سينمائية، مثل عين الكاميرا، فضلاً عن مشهدية اللغة، التي دعمت من خلالها قدرة السرد على رسم وتجسيد الأحداث، "تأخذ خطوة في الفراغ، تضع قدماً في الهواء، وتترك نفسها تهوي. إنها تسقط، تسقط بوجهها إلى أسفل، ويدور كل شيء أثناء سقوطها. شيء ما يبهر البصر ويحرق العينين والفم، المدينة تدور" ص 9. وبينما لم يتجاوز الزمن الراهن للسرد ثلاثة أيام، هي اليوم السابق لاعتلاء الفتاة السطح، ويوم وجودها فوقه، وكذا اليوم التالي، عمدت الكاتبة إلى الغوص في ماضي الشخوص، واستدعاء ما طمرته السنوات في أعماق ذاكراتهم، عبر الارتداد العكسي باستخدام تقنية الفلاش باك. وضمنت عبر هذا الاسترجاع تحقيق التعاطف مع شخوصها، وإضاءة أعماقهم المأزومة والمظلمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وظفت الكاتبة اهتمام إحدى بطلاتها "مانو" بالنباتات، ومررت عبرها بعض الحمولات المعرفية، منها التماثل بين ثلث جينات الإنسان وجينات الطماطم، كما مررت صوراً أخرى للتماثل بين النباتات وسلوك بعض الشخوص، لا سيما التماثل بين "استريد" والنبات المتسلق، على نقيض "مانو" التي تماثل في سلوكها، الطحالب. وكما استخدمت تقنية التماثل لإبراز الهوة العميقة، والتناقض الكبير بين الأختين، استخدمت تقنية التناظر أيضاً، بين حركة "مانو" على السطح، وحركة "استريد" داخل السيارة، لتحقيق الغاية ذاتها.

وإلى جانب ما مررته من معرفة، استفادت من الموروث الشعبي، فاستدعت الشخصية الفلكلورية الإنجليزية "روبن هود"، الذي كان يسرق الأغنياء ليطعم الفقراء. ومنحت شخصية "هنري" المشرد سمات تراثية، فجعلته بائعاً للأسئلة، على غرار بائع النصائح في الفلكلور الشرقي. وعلى رغم ما مثلته قفزة البطلة من نقطة تحول في حياة غالب الشخوص، إذ ساقت لبعضهم المال، ولبعضهم الشهرة، ولبعضهم الصداقة، ولآخرين الحرية والخلاص، فإن لابرت احتفظت للسرد حتى نهايته بالقدرة على إثارة الأسئلة، مانحة لقارئها دوراً مشاركاً وفاعلاً، لا سيما أنها منحته حق تقرير مصائر الشخوص. وبرع المترجم مستفيداً من سعة معرفته باللغة الألمانية، في نقل ما انطوت عليه الرواية في لغتها الأصلية، من شعرية اللغة، جاذبية الصورة، وقدرة الكاتبة على سبر بواطن النفس الإنسانية، وتعرية هشاشاتها وتناقضاتها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة