ملخص
هل كان لدولة إسرائيل أن تولد من غير الدعم الأوروبي والأميركي؟ وما دلالات رفض كثير من دول العالم قرار التقسيم وهضم حقوق الفلسطينيين؟
وسط أزمة الحرب في غزة المشتعلة منذ أكثر من عام، وفي خضم محاولات الأطراف الدولية التدخل، بهدف التهدئة والتوصل إلى هدنة، اندلع أخيراً سجال بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حول قرارات الأمم المتحدة، وهل كانت هي المنطلق الرئيس وراء نشوء وارتقاء دولة إسرائيل، أم إن "حرب الاستقلال"، كما سماها نتنياهو، أي عمليات العنف والإرهاب التي وقفت وراءها عصابات مثل "الأرغون"، و"الهاغاناه"، و"الإتسل"، هي التي تسببت في تهجير سكان فلسطين الأصليين، ومن ثم قيام الدولة.
صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية كشفت عن هذا السجال الخاص بظروف نشأة إسرائيل، مشيرة إلى أن ماكرون قال إنه يجب على نتنياهو ألا ينسى أن إسرائيل أنشئت بقرار من الأمم المتحدة، ولذلك لا ينبغي له أن يتنصل من قرارات المنظمة الدولية.
هذه التصريحات أدلى بها نتنياهو خلال جلسة مغلقة لمجلس الوزراء الفرنسي، ولم يكن المقصود نشرها للعوام، غير أن تسريبها أثار كثيراً من الجدل، لا سيما داخل إسرائيل أول الأمر.
وكان الرد الأول من جانب نتنياهو الذي أصدر مكتبه بياناً جاء فيه، "نذكر رئيس فرنسا أن قرار الأمم المتحدة لم يكن هو الذي أسس إسرائيل". وأضاف نتنياهو مخاطباً ماكرون أنه يعارض أي وقف أحادي الجانب لإطلاق النار في لبنان، مشدداً على أن تل أبيب تعمل على تقويض قدرة "حزب الله" على تهديد الإسرائيليين وإعادة سكان الشمال إلى منازلهم.
والثابت أنه من بين أسباب غضبة ماكرون على نتنياهو، اعتبار الأول أنه "من غير المقبول على الإطلاق" أن تكون القوة التابعة للأمم المتحدة في لبنان مستهدفة عمداً من قبل القوات الإسرائيلية، وحذر من أن "فرنسا لن تتسامح".
فهل نشأت إسرائيل على أساس حفنة من عمليات إرهابية في الداخل كما يذهب نتنياهو، أم إن قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة هو السبب الأول والأهم في خروج تلك الدولة إلى النور؟
الطريق إلى فكرة الدولة اليهودية
يؤصل كثير من المؤرخين فكرة قيام دولة يهودية إلى الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، فقد كان ظاهرياً أول من دعا إلى تأسيس دولة لليهود خلال حملته العسكرية على مدينة عكا الفلسطينية في عام 1799.
وتشير دراسات عدة لاحقة إلى أن البارون دي روتشيلد، مول بأكثر من 14 مليون فرنك إنشاء 30 مستعمرة أهمها "ريشون ليتسيون" التي رفعت العلم الإسرائيلي الحالي في عام 1885.
أما الكاتب النمسوي ناتان بيرنباوم فكان أول من أطلق مصطلح "الحركة الصهيونية" نسبة إلى جبل صهيون، فيما كان الطبيب ماكس نوردو المجري الأصل أول من أرسل بعثة استكشافية إلى فلسطين، وتبنى برنامج تأسيس وطن قومي معترف به للشعب اليهودي.
وفي الأخير يصل الباحث إلى النمسوي – المجري، الصحافي تيودور هرتزل صاحب كتاب "الدولة اليهودية"، الذي يتحدث صراحة عن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، التي وصفها بأنها "أرض بلا شعب"، ومن هنا تطفو صلاحيتها لأن تكون موقعاً وموضعاً مختاراً للشعب اليهودي المنتشر في شتات الكرة الأرضية.
غير أن غالبية الباحثين، لا يتوقفون أمام شخصية ألمانية، ذات إرث ديني عميق في أوروبا، طفا على السطح منذ منتصف القرن السادس عشر، ونعني به مارتن لوثر الذي انشق على الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، فكان أول من طالب بإقامة وطن ليهود العالم في فلسطين، وغالب الأمر أنه عمد إلى هذا الطرح بهدف تفريغ أوروبا منهم، لا سيما بعد أن تنكروا للتحالف معه ضد البابوية، وعليه فبعد أن استهل انشقاقه بكتاب "المسيح ولد يهودياً"، عاد بعد نحو 20 عاماً ليدحض ما جاء في كتابه، بكتاب آخر عنوانه "اليهود وأكاذيبهم"، وفيه تطلع إلى الخلاص منهم إلى فلسطين.
إلا أنه مهما يكن من أمر الخلفية التاريخية، ومن صاحب أول دعوة لإنشاء وطن ليهود العالم، فإن سلسلة من السياقات دفعت بالوصول إلى المنظمة الدولية في عام 1947 وصدور قرار التقسيم بالفعل في عام 1948.
وقبل الخوض في هذه المرحلة، دعونا نتساءل: هل كانت هناك بالفعل محاولات لإنشاء دولة إسرائيل في أماكن أخرى حول العالم؟
وطن لليهود في أميركا وروسيا
بالعودة إلى عام 1785 أي قبل نحو 123 عاماً من قرار التقسيم، نجد الحاخام اليهودي مردخاي مانويل، الأميركي الجنسية، الذي عمل في مجالات متعددة، وكان أول من حاول عملياً إقامة دولة يتمتع فيها اليهود بالحكم الذاتي في أميركا.
فهل كان لهذه الدولة أن تنجح فعلاً؟
الشاهد أن قصة الولايات المتحدة مع الحضور اليهودي قصة مثيرة للتأمل، لا سيما أن نسبة معتبرة جداً من يهود أوروبا، كانوا بالفعل من أوائل المهاجرين على السفينة "ماي فلاور" التي حملت في عام 1620 أوائل الأوروبيين الذين ارتحلوا إلى الولايات المتحدة، كما أن المسيحيين الذين كانوا على متنها، هم في غالبيتهم من البروتستانت الفارين من قساوة المؤسسة الدينية هناك.
وكان يسيراً أن يتقبل الأميركيون الجدد إذن الكثير، إن لم يكن كل الأفكار التوراتية، بل إن البعض فكر في أن يكون علم الفيدرالية الأميركية عبارة عن عمود الغمام الذي كان يقود بني إسرائيل في برية سيناء.
كان نواه الذي ولد في فلادلفيا في عام 1785، عمل في الشرطة والجيش والصحافة وكتابة المسرح، وعندما كان في الـ28 من عمره عينه الرئيس الأميركي حينئذ جيمس مونرو قنصلاً في تونس، وكانت مهمته الرئيسة العمل على إطلاق سراح رهائن أميركيين أسرهم قراصنة في المنطقة، ودفع فدية كبيرة لتحقيق ذلك.
في عام 1820 فكر نواه في إقامة دولة أطلق عليها اسم "دولة آرارات" في مدينة بافلو في ولاية نيويورك لتكون بمثابة ملاذ آمن لليهود من كل أنحاء العالم في الأراضي الأميركية، فاشترى أراضي قرب شلالات نياغرا، كما وجه الدعوة للهنود الحمر للانتقال إلى مدينته هذه، إذ كان يعتقد أنهم من نسل قبائل بني إسرائيل المفقودة.
بعد خمسة أعوام أطلق نواه على المدينة اسم "دولة آرارات" نسبة إلى جبل "آرارات" الذي رست عليه سفينة نوح بحسب العهد القديم، وقد أرسل حاخامات ومندوبين إلى أوروبا للترويج لفكرته، غير أن الأمر لم يرق لعتاة التفكير التوراتي، أولئك الذين كانت أعينهم على أورشليم القديمة – القدس الجديدة.
ولعل المحاولة الثانية لإقامة الدولة اليهودية، جرت بها المقادير في منطقة "بيروبيدجان" المركز الإداري لمنطقة أوبلاست أحد الكيانات الاتحادية في روسيا، وعرفت تاريخياً باسم منطقة الحكم الذاتي ليهود العالم وقد أسسها الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين في عام 1934.
تبعد أوبلاست نحو 8 آلاف كيلومتر، شرقي العاصمة الروسية موسكو، قرب الحدود مع الصين، وقد حاول ستالين اعتبارها وطناً قومياً رسمياً ليهود العالم.
وبدأ بالفعل المستوطنون اليهود بالتوافد على المنطقة في عام 1928، أي قبل 20 عاماً من إعلان قيام إسرائيل، بهدف إقامة وطن قومي لليهود السوفيات، وعدت اللغة "اليديشية" اللغة الرسمية للمنطقة.
ومع حلول عام 1939، وصل عدد اليهود في المنطقة إلى نحو 18 ألفاً. غير أن الأحوال تغيرت بصورة مثيرة للشفقة على هؤلاء اليهود، لا سيما بعد أن بدأ ستالين يمارس جنونه التقليدي ضدهم، و"لا ساميته" نحوهم، فبدأ بقمع الثقافة اليهودية، فأعدم رئيس حكومة المنطقة، وأحرق الكتب المكتوبة بـ"اليديشية"، وأغلق المعابد اليهودية في المنطقة.
وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينيات، غادر الآلاف من هؤلاء اليهود هذه المنطقة متجهين إلى إسرائيل والغرب، واليوم لا يتجاوز من تبقى منهم هناك الـ1600 شخص.
إلا أنه رغم فشل التجربة الأميركية وإخفاقات المحاولة السوفياتية، كانت هناك عقول تفكر بجد وتنظر إلى فلسطين التاريخية، الدولة العربية بمسلميها ومسيحييها، كوطن قومي لليهود.
لورد بالمرستون وبداية القضية
بالعودة إلى عام 1840 نجد وزير الخارجية البريطاني، اللورد بالمرستون يكتب إلى سفيره لدى مدينة إسطنبول التركية يدعوه لإقناع السلطان العثماني عبدالحميد وحاشيته بفكرة أن الوقت مناسب لفتح فلسطين أمام هجرة اليهود، وذلك للرد على فكرة والي مصر، محمد علي باشا وابنه إبراهيم بتوحيد المجال الجغرافي والسياسي في مصر وسوريا في عام 1877.
ومنذ ذلك الوقت بدأ بعض كبار رجال الأعمال الأوروبيين عامة، والإنجليز خصوصاً، بزيارة فلسطين في رحلات استكشافية للبحث عن إمكانية إنشاء الدولة الإسرائيلية هناك.
وكان من أوائل اليهود المستجيبين للمبادرة البريطانية أحد أكبر البارونات الأثرياء في بريطانيا اللورد إدموند روتشيلد الذي زار فلسطين أربع مرات للاطلاع على فرص الاستثمار فيها، وإمكانية تحويلها إلى دولة إسرائيلية.
في تلك الفترة كان عدد المواطنين اليهود في فلسطين يقدر بنحو 3 آلاف شخص، غير أن أموال روتشيلد، فعلت فعل السحر في إنشاء مزيد من المستعمرات اليهودية، ووصل الأمر إلى حد رفع العلم الإسرائيلي الحالي غرب مدينة اللد.
وفي مواجهة حركة بيع الأراضي للمستوطنين اليهود، أصدر السلطان العثماني عبدالحميد قراراً بتجريم بيع الأراضي لليهود، الذي بقي ساري المفعول حتى عزله في عام 1909.
كما صدر عن المؤتمر الأول لعلماء الدين في فلسطين، الذي عقد في القدس في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1935، فتوى بالإجماع تحرم بيع الأراضي في فلسطين لليهود، لأن ذلك يمكنهم من تحقيق أهدافهم المتمثلة بتهويد فلسطين.
بعد أعوام وفي عام 1915، قدم الوزير البريطاني هربرت صموئيل مذكرة سرية للحكومة البريطانية بعنوان "مستقبل فلسطين"، أكد فيها أن الوقت الحالي غير مناسب لإعلان دولة يهودية مستقلة، ولهذا يجب وضعها تحت السيطرة البريطانية.
وبالوصول إلى عام 1917 كان وعد بلفور يجد طريقه إلى عالم الوقائع لا التنظير السياسي، وقد كان عبارة عن رسالة من وزير الخارجية البريطانية في ذلك الحين، آرثر جيمس بلفور إلى والتر روتشيلد، تتضمن وعداً من الحكومة البريطانية بتشكيل وطن قومي لليهود في فلسطين.
تأسيس فلسطين ككومنولث يهودي
خلال العقود الثلاثة التي تلت وعد بلفور، تسارعت الأحداث بصورة كبيرة، فاعتمد ما عرف ببرنامج بلتيمور في عام 1942، كمنصة للمنظمة الصهيونية العالمية، مع دعوة واضحة "لتأسيس فلسطين ككومنولث يهودي".
غير أن لجنة التحقيق الأنغلو- أميركية، المعروفة أيضاً باسم لجنة "جرادي – موريسون"، قطعت في عام 1946 بأن إقامة دولة يهودية تجاوزت بنود وعد بلفور أو الانتداب، وهو ما تبرأ منه رئيس الوكالة اليهودية بصورة صريحة في عام 1932.
وكانت الأمم المتحدة بدأت تظهر في الصورة، لا سيما بعد أن قالت اللجنة الخاصة بها المعنية في شأن فلسطين إن مصطلح "الوطن القومي لليهود" المستمد من التطلعات الواردة في برنامج بازل في عام 1897، أثار كثيراً من النقاشات حول معناه ونطاقه وطابعه القانوني، لا سيما أنه لا يملك دلالات قانونية معروفة ولا توجد سوابق لتفسيره في القانون الدولي، فقد استخدم هذا المصطلح في وعد بلفور وفي الانتداب، وكلاهما وعد بإنشاء وطن قومي لليهود من دون تحديد معنى لذلك.
من جهة أخرى، فإن تبعات الحرب العالمية الثانية، والدور الذي لعبته الولايات المتحدة في تحقيق الحلفاء النصر على دول النازي، عجل ولادة دولة إسرائيل عبر الأمم المتحدة.
وكان الثقل السياسي الأممي قد انتقل من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، وبات "اجتماع بالتيمور"، برئاسة حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية، وديفيد بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية هو الصوت النافذ في الداخل الأميركي لتحقيق هدف دولة إسرائيل.
إثر ذلك في عام 1944 طالب الأميركي ستيفن وايز، إضافة إلى سياسيين آخرين في مؤتمر الصهيونية الذي أقيم في أتلانتا، بالإسراع في إقامة دولة يهودية في فلسطين وطرد العرب منها.
وبدعم من الرئيس الأميركي هاري ترومان الرئيس الـ33 للولايات المتحدة، وصل إلى الأراضي الفلسطينية أكثر من 100 ألف مهاجر يهودي من الولايات المتحدة.
وفي عام 1945 أقر المؤتمر الصهيوني برئاسة حاييم وايزمان، بضرورة الإسراع في إخراج بريطانيا من فلسطين، ومن ثم بدأت الفترة التي سماها نتنياهو "حرب الاستقلال"، من خلال تجهيز قوات الهاغانا، والأرغون، والإتسل، والشتاغ وغيرهم بالسلاح والعتاد لتحقيق الهدف الأكبر، أي ترويع سكان البلاد الأصليين، وتهيئة الأرض لإعلان دولة إسرائيل.
في الأثناء، بدأت العصابات الصهيونية باستهداف الجيش البريطاني في فلسطين بعمليات عسكرية وصل عددها إلى نحو 500 عملية، وفق وثائق إنجليزية. وتسببت تلك العمليات في مقتل مئات الجنود الإنجليز، ودفعت رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل إلى القول، إن "تلك الجرائم هزت العالم وأثرت بشدة على أشخاص مثلي كانوا في الماضي أصدقاء دائمين لليهود ومهندسين دائمين لمستقبلهم".
ومع حلول عام 1947 كانت الأرض مهيأة في المؤسسة الدولية التي قامت بهدف الحفاظ على السلام العالمي، للحديث عن سيناريو التقسيم، لا سيما أن التقسيم هنا كان يتجاوز فلسطين التاريخية إلى واحدة من أكبر المستعمرات الإنجليزية وأهمها في تاريخها.
1947 الطريق إلى قرارات التقسيم
وكان عام 1947 حافلاً بالتقسيم، فقد قسم الهند إلى دولتين، وفي ما بعد إلى ثلاث دول، وذلك في منتصف ليل الـ15 من أغسطس (آب)، وتم تحديد الحدود بين الهند وباكستان بواسطة لجنة إمبراطورية بريطانية يترأسها محام إنجليزي لم يسبق له قط أن زار شبه القارة الهندية.
وفي الـ31 من أغسطس، رفعت اللجنة الخاصة للأمم المتحدة في شأن فلسطين أو ما يعرف باسم "اليونيسكوب"، تقريرها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ دعت بالإجماع إلى إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وأوصت بغالبية أعضائها بتقسيم فلسطين إلى دولتين منفصلتين، يهودية وعربية، وتدويل القدس. وأصبحت خطة الغالبية الأساس لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بعد ثلاثة أشهر، ولم يقم أي من الأعضاء الـ11 في لجنة الأمم المتحدة بزيارة فلسطين أو حتى معرفة كثير عنها، قبل تعيينهم.
وكان تقسيم فلسطين أول قرار رئيس تتخذه الأمم المتحدة الوليدة، وأول أزمة كبرى تواجهها، وربما كان أول خطأ كبير ترتكبه. وفي مذكراته قال بريان أوركهارت، الدبلوماسي البريطاني الذي ساعد في إطلاق الأمم المتحدة وأشرف لاحقاً على كل بعثات حفظ السلام التابعة لها، إن "مشكلة فلسطين ظلت تطارد تطور الأمم المتحدة منذ عام 1948". وأعرب عن أسفه لأن تورط الأمم المتحدة في فلسطين "أدى إلى تشويه صورة المنظمة وتفتيت سمعتها وهيبتها على نحو لم يحدث من قبل لأي قضية أخرى".
وفي أوائل عام 1947، أعلنت الحكومة البريطانية التي خرجت منهكة من الحرب العالمية الثانية، أنها ستحيل مشكلة فلسطين إلى الأمم المتحدة. ورداً على ذلك أنشأت الجمعية العامة، لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين للتحقيق في الوضع بفلسطين والتوصية بمسار دائم لمستقبلها.
وكان معظم أعضاء اللجنة الـ11 من رجال القانون أو الدبلوماسيين القادمين من أوروبا ودول الكومنولث البريطاني وأميركا اللاتينية. وأمضت اللجنة ستة أسابيع في فلسطين خلال شهري يونيو (حزيران) ويوليو (تموز)، إذ عقدت اجتماعات عامة وخاصة، فيما قاطعت اللجنة العربية العليا التي تمثل قيادات المنظمات الفلسطينية المختلفة، اللجنة لأنها ترى أن واجب الأمم المتحدة يتلخص في إعلان نهاية الانتداب البريطاني واستقلال فلسطين الفوري.
في عام 1947 كان العرب الفلسطينيون لا يزالون يشكلون الغالبية الساحقة من السكان بنسبة 66 في المئة، وكانت المشاعر الشعبية ترغب في إقامة دولة مستقلة واحدة.
وعارض الفلسطينيون بشدة التوجه نحو التقسيم، في حين دفعت الوكالة اليهودية بقوة من أجله، وعندما سافر أعضاء اللجنة إلى جنيف في أغسطس لكتابة تقريرهم، ظهرت ستة خيارات، فرفضت اللجنة مفاهيم الدولة اليهودية الموحدة، والدولة الفلسطينية الموحدة، والدولة الثنائية القومية، وفلسطين المقسمة إلى كانتونات.
في نهاية المطاف أيد ثلاثة من أعضاء اللجنة دولة فيدرالية تتمتع بسلطات سياسية مستقلة لليهود والعرب الفلسطينيين، وهيئة تشريعية فيدرالية، والقدس عاصمة لها، وفي نظرهم كان التقسيم حلاً مصطنعاً لا يمكن أن يوفر دولتين قابلتين للحياة بصورة معقولة.
غير أن سبعة أعضاء أيدوا تقسيم فلسطين إلى دولتين منفصلتين، يهودية وعربية، مع وجود اتحاد اقتصادي، بما في ذلك عملة مشتركة واتحاد جمركي وأنظمة نقل واتصالات، ما من شأنه أن يربط بين الدولتين ومدينة القدس الدولية، وتبريراً لذلك صرحوا بأن "القوميتين الشديدتين المتميزتين"، تجعلان التقسيم الحل الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق، وهو ما ستصير الأمور إليه لاحقاً، على رغم رفض القيادة الفلسطينية على الفور لهذا التوجه.
صدور قرار التقسيم الأممي لفلسطين
في الـ29 من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1947، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وعربية، مع وجود منطقة دولية تشمل القدس وبيت لحم، واقترحت الخطة، بصورة خاصة الدولة اليهودية على أكثر من نصف فلسطين الواقعة تحت الانتداب، في وقت كان اليهود يشكلون أقل من ثلث عدد السكان ويمتلكون أقل من سبعة في المئة من مساحة الأرض.
وبمزيد من التفصيل، فقد صوت 33 من أعضاء الجمعية العمومية لمصلحة القرار، بينما صوت 13 ضده، فيما امتنع 10 عن التصويت.
أما النتيجة فكانت كالتالي، توصية إلى المملكة المتحدة كقوة انتداب على فلسطين، وسائر أعضاء الأمم المتحدة اعتماد وتنفيذ في ما يتعلق بحكومة فلسطين المقبلة، خطة التقسيم مع الاتحاد الاقتصادي المنصوص عليها في القرار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما هي ملامح الدولة اليهودية التي أوجدها قرار التقسيم الأممي؟
تبلغ مساحتها 5.700 ميل مربع (15 ألف كيلومتر مربع) ما يمثل 57.7 في المئة من فلسطين التاريخية، وتقع على السهل الساحلي من حيفا وحتى جنوب تل أبيب والجليل الشرقي بما في ذلك بحيرة طبرية وإصبع الجليل، والنقب بما في ذلك أم الرشراش أو ما يعرف بإيلات حالياً.
أما القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة، فتخضع للوصاية الدولية.
ما هي ملامح الدولة العربية الفلسطينية؟
مساحتها 4.300 ميل مربع (11 ألف كيلومتر مربع) أي ما يمثل 42.3 في المئة من المساحة الإجمالية لفلسطين التاريخية، وتمتد على الجليل الغربي، ومدينة عكا، والضفة الغربية، والساحل الجنوبي من شمال مدينة أشدود وجنوباً حتى رفح، مع جزء من الصحراء على طول الشريط الحدودي مع مصر.
وفي مساء 29 نوفمبر جرى التصويت، فكان 33 صوتاً إلى جانب التقسيم، و13 صوتاً ضده، وامتنعت كما أسلفنا 10 دول عن التصويت وغابت دولة واحدة.
الدول الـ33 التي وافقت على القرار هي: أستراليا والنرويج وايسلندا وفرنسا وفنلندا وبلجيكا والولايات المتحدة وكندا والاتحاد السوفياتي والجمهورية الأوكرانية السوفياتية الاشتراكية وجمهورية بيلاروس السوفياتية الاشتراكية والدنمارك والسويد ونيوزيلندا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وليبيريا والفيليبين وجنوب أفريقيا وباراغواي وفنزويلا والأوروغواي والبيرو وبنما وكوستاريكا وجمهورية الدومنيكان والإكوادور وغواتيمالا وهايتي ونيكارغوا وهولندا ولوكسمبورغ والبرازيل.
والدول الـ13 التي صوتت ضد القرار هي: أفغانستان وإيران وتركيا وباكستان والسعودية وسوريا والعراق وكوبا، ولبنان ومصر والهند واليمن واليونان.
أما الدول الـ10 التي امتنعت عن التصويت فهي: الأرجنتين وتشيلي وكولومبيا والسلفادور وهندوراس والمكسيك وجمهورية الصين وإثيوبيا والمملكة المتحدة ويوغسلافيا.
والدولة الغائبة هي تايلاند.
ردود الفعل على قرار التقسيم
عندما أعلنت النتيجة انسحب المندوبون العرب من الاجتماع، وأعلنوا في بيان جماعي رفضهم الخطة واستنكارهم لها.
لاحقاً قال وزير الدفاع الأميركي وقتها جيمس فورستال تعليقاً على هذا الاقتراع، إن "الطرق المستخدمة للضغط والإكراه على الأمم الأخرى في نطاق الأمم المتحدة كان فضيحة".
ولعله من منطلق القوانين العالمية وقوانين الاحتلال وقوانين الأمم المتحدة، كان لقرار تقسيم دولة فلسطين معارضة استمرت حتى هذه اللحظة، لأن فلسطين هي دولة عربية تحت الانتداب البريطاني منذ عام 1923، وحتى عام 1948، وبعد انتهاء الانتداب البريطاني قرر الانتداب تسليم فلسطين لمن لا يملك.
والمعروف بحسب القوانين العالمية للاحتلال "اتفاقيات جنيف" لا يجوز للأشخاص المحتلين أنفسهم التنازل عن حقوقهم (المادة 8 من الاتفاقية الرابعة). وبحسب القوانين والتشريعات المتعارف عليها عالمياً أنه وبعد انتهاء الانتداب يجب إعادة تسليم البلاد إلى أصحابها الحقيقيين.
فهل كانت الولايات المتحدة برئاسة هاري ترومان هي القوة المرجحة لقرار التقسيم، وعلى رغم كافة ردود الفعل الدولية الرافضة للمشهد؟ من الواضح أن الولايات المتحدة كانت قد بدأت رحلة صعودها كوريث للإمبراطورية البريطانية، ولأن الثقل اليهودي وكما أشرنا في المقدمة ذو حضور تاريخي في الداخل الأميركي، لذا فإن قرار التقسيم، يقع عبئه الأكبر على عاتق واشنطن.
ولعل ما يؤكد ما ننحو إليه، هو أن الرئيس الأميركي ترومان، كان أول زعيم عالمي يعترف رسمياً بإسرائيل كدولة يهودية شرعية في 14 مايو (أيار)، بعد 11 دقيقة فقط من إنشائها، وقد جاء قراره بعد كثير من المناقشات والمشورة من موظفي البيت الأبيض الذين كانت لديهم وجهات نظر مختلفة.
لاحقاً ستروج معلومات عن مشاعر بعض المستشارين الأميركيين، التي تفسر ما حدث على أنه نوع من الرد المناسب على المحرقة التي تعرض لها الشعب اليهودي في ألمانيا، وكيف أن قيام ومساندة تلك الدولة، سيعزز من المصالح في الشرق الأوسط.
انتصر هذا الرأي على مستشارين آخرين تبنوا وجهة نظر معاكسة، أولئك الذين أظهروا قلقهم من أن إنشاء دولة يهودية من شأنه أن ينتج مزيداً من الصراع في منطقة مضطربة بالفعل.
فهل كانت قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة هو السبب الأول في قيام دولة إسرائيل؟
مؤكد أن الرئيس الفرنسي ماكرون كان على صواب.