ملخص
في مناسبات عدة أكدت منظمة "يونيسكو" التابعة للأمم المتحدة في دراسات حول مكافحة المنشطات والمخدرات في سوريا عن وجود تلك المواد فعلياً في حوزة طلبة المدارس الثانوية أكثر من طلاب المرحلتين الإعدادية والابتدائية، هناك حيث ينتشر الدخان أكثر.
انتشرت ظاهرة تعاطي المخدرات خلال الأعوام الأخيرة بين طلبة المدارس السورية، تحديداً الثانوية منها، خصوصاً بين الفتيان، كإحدى الظواهر المقيتة التي أفرزتها الحرب، وهي عملية تتم من دون معرفة الأهل، وحين اكتشافها لا تكون الأمور بأفضل حال، ومن المؤكد أن المراهقين يدفعون ثمن ذلك التعاطي، فضلاً عن آفات مستقبلية تنحو في نهايتها لتصب في إطار صناعة أشخاص غير أسوياء نفسياً وأكثر ميلاً إلى التطرف في مزاجهم وتصرفاتهم.
في مناسبات عدة، أكدت منظمة "يونيسكو" التابعة للأمم المتحدة في دراسات حول مكافحة المنشطات والمخدرات في سوريا وجود تلك المواد فعلياً في حوزة طلبة المدارس الثانوية أكثر من طلاب المرحلتين الإعدادية والابتدائية، هناك حيث ينتشر الدخان أكثر.
تاريخياً، لم يكُن من السهل الحصول على مخدرات في سوريا، لكن طفرة حصلت خلال الأعوام الماضية جعلتها تجتاح البلاد، وإن كان الحديث عن فئات محددة للغاية أكثر من غيرها، خصوصاً "الكبتاغون" و"الترامادول" والحشيش.
مواد متوافرة
يراوح سعر حبّة "الكبتاغون" بين ربع دولار ودولار واحد تبعاً لنوعها ومادتها الأولية وجدوى تأثيرها وفاعليتها وديمومتها، ويعتبر نوع "ذات الهلالين" الأفضل، ومن المعلوم أن هذه المادة باتت تصنع في الداخل السوري ضمن معامل مصغرة قد يتمكن أي شخص من امتلاكها، إذ تكون عبارة عن "مكبس" صغير يسهل إخفاؤه وإبعاده من العين، كما يسهل الحصول على موادها الأولية.
بحسب مواقع متخصصة، فإن "تصنيع هذه الحبوب (الكبتاغون) لا يحتاج إلى معدات ضخمة، بل إلى ماكينة للشوكولاتة يُخرط لها قالب خاص بالحبوب بدلاً من القالب المخصص للشوكولاتة، وتصبح صالحة للصناعة فتنتج نحو 700 حبة في الدقيقة، ومن السهل تهريبها من بلد إلى آخر"، فيما ترتكز عملية التصنيع على إضافة مادة كيماوية منبهة مركبة من مادتي "التيوفيلين" و"الأمفيتامين"، وهما مادتان مستعملتان في صناعة الأدوية.
ووفقاً للهيئة العامة للغذاء والدواء، فإن "الكبتاغون" يؤدي إلى أعراض اضطرابات في المخ مثل التشنج وتلف خلاياه، ونقص كريات الدم البيضاء والأنيميا وفقدان الاتزان والإصابة بالهلوسة السمعية والبصرية، وكذلك الإدمان إضافة إلى أعراض أخرى كثيرة.
أما "الترامادول"، فيعتبر مادة طبية علاجية تباع بنحو ثلث دولار في الصيدليات، لكن بموجب وصفة طبية ممهورة من الطبيب المتخصص وضمن كميات محددة مسبقاً، على أن يحتفظ الصيدلاني بورقة الطبيب ليسلمها إلى لجان الصحة ونقابة الصيدلة، فيبرر بيعه للمادة.
و"الترامادول" يُعدّ واحداً من أشد أنواع المخدرات خطراً، ونظراً إلى رخص ثمنه تحجم كثير من الصيدليات عن استقباله من المعامل تلافياً للمشكلات المفترضة مع زبائن يريدونه بالقوة أو يجيئون وهم في حالة سكر باحثين عنه.
وهناك أدوية أخرى مثل "كيوتيابين" و"كلونازيبام" اللذين يمتلكان تأثيراً مهدئاً ويوصفان في حالات الصرع، وينطبق عليهما ما ينطبق على "الترامادول" من ناحية السعر وتعامل الصيادلة.
الطبيب المتورط
يروي ضابط في الأمن الجنائي لـ"اندبندنت عربية" اعتقال العام الماضي طبيب كان يمنح وصفات طبية مزورة تحوي أدوية مخدرة مقابل مبالغ مالية مرتفعة أحياناً لأولئك الأشخاص الذين لا يعانون أمراضاً تستدعي ذلك.
يقول "وصلتنا شكاوى عدة عن صيدليات تبيع كميات كبيرة من الأدوية المخدرة مثل ’زولوفت‘ و’سبيرتكس‘ و’ترامادول‘ و’كيوتابين دومو كويل‘ وغيرها لمصلحة الطبيب نفسه الذي ينوه في وصفته إلى أن مريضه يحتاج إلى علبتين أو ثلاث مثلاً، مما استدعى انتباهنا إلى أن أمراً غريباً يحصل ولا يطابق الواقع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف أنه "خلال التحقيق، اعترف الطبيب بفعله ذلك لقاء المنفعة المادية وبأن مدمنين كانوا يزورون عيادته ليصف لهم تلك الأدوية، متقاضياً مبالغ متفاوتة بحسب الحالة وما يريده المدمن، ومن ثم حولناه إلى القضاء لينظر في أمره، وقد ينتهي الموضوع بسحب شهادته الطبية، بخاصة أن معظم زائريه كانوا طلبة في المرحلة الثانوية، أي قاصرين".
بعد رحلة شاقة استغرقت ثمانية أشهر وانتهت في أغسطس (آب) الماضي، تمكن الطالب الثانوي جوان عبدالكريم من التخلص من إدمانه "الكابتاغون" وإخراج كل سمومه من جسده بعدما اتخذ بداية قرار علاج الإدمان مكرهاً إثر اكتشاف والديه حبوباً بيضاء صغيرة في أحد أدراجه الخاصة.
تشرح الوالدة أنها منذ الوهلة الأولى علمت أن تلك الحبوب ليست طبية وطبيعية، خصوصاً أن ولدها لا يعاني أي مرض، فساورها شك رهيب بأن تكون مخدرات، اتصلت بوالده ليحضر إلى المنزل فوراً، مستغلة وجود ولدهما في المدرسة.
حين حضر الوالد أخذ تلك الحبوب إلى جارهم الطبيب الذي أبلغه بأنها من أدوية "الجدول" أي مخدرات، وكان تحديد ذلك سهلاً من شكل الهلالين عليها، وربما لولا الهلالين لظن الجميع أنها مسكنات في النهاية.
واجه الوالدان ولدهما الذي انهار بالبكاء وباح بكل ما في نفسه معترفاً دفعةً واحدة بكل شيء، كيف يحصل عليها ومتى يتعاطاها ومنذ متى ولماذا، ومن حسن حظه أن والديه المتعلمين قررا إيجاد حل لذلك بهدوء شديد عبر معالجة الإدمان فوراً، خصوصاً أنه كان يتعاطاها لمدة ستة أشهر في الأقل، فاصطحباه إلى طبيب نفسي، وبدأت الرحلة.
يقول جوان لـ"اندبندنت عربية"، "عاملني الطبيب بإنسانية شديدة ومحبة ولطف، لم يشعرني بأنني مدمن أو عالة على المجتمع، ووضعنا خطة العلاج المقسمة على شقين، شق دوائي وآخر مع معالج سلوكي، لنصل في نهاية المطاف بعد ثمانية أشهر إلى ما كنت عليه قبل عام ونصف العام، أي قبل التعاطي، ولأعود إنساناً طبيعياً بعد أن تيقنت علمياً أن ذلك السم كان يمكنه قتلي بعد إتلاف خلايا دماغي".
هكذا تبدأ القصص
لم يكُن صعباً على "اندبندنت عربية" لقاء كثير من الشباب المراهقين الذين يتعاطون تلك المادة، هم لا يخفون أنفسهم، فيتصدرون نواصي الطرق ومفارق المدارس، ويكفي الوصول إلى أحدهم للاستدلال على زملاء كثر آخرين له يتعاطون تلك المواد.
عزت أ، شاب يبلغ من العمر 17 سنة، يتحضر هذا العام للشهادة الثانوية في دمشق، ويبدو الفتى من السواد تحت عينيه وجمله غير المترابطة أنه يتعاطى منذ مدة مواد مخدرة، وهو نفسه يعترف بذلك خلال الحديث معه مزهوّاً كمن يفعل إنجازاً، مؤكداً أن تلك الحبوب هي طريقه لمواجهة ضغط أهله ليستحصل المجموع الذي يريدونه هم في الثانوية لا هو.
كذلك يؤكد أن تلك المواد، تحديداً "الكابتاغون" تباع داخل مدرسته، وإن لم يكُن كذلك فباتصال واحد يستطيع الحصول على مئة حبة من المادة وبسعر مخفض، بادئاً بتعداد أسماء رفاقه المتعاطين، وطالبنا بمقابلة بعضهم، فاصطحبنا إلى حيث يجتمعون كل مساء في صالة ألعاب يتعاطون فيها على راحتهم.
هناك بدت أسباب تعاطي معظمهم متشابهة، الجميع غير خائف من الحديث إلا في حالين، وجود الشرطة أو وجود الأهل، مع اشتراط عدم تصويرهم وذكر أسمائهم، وهناك عرضوا كثيراً مما يملكونه من الحبوب وأشرطة الأدوية، وسمحوا بتصويرها شرط سرية أسمائهم.
أولئك الشباب يريدون السهر أكثر للدراسة والمذاكرة، هكذا بدأت القصة، ثم صار الاعتياد إدماناً، والإدمان هلاوس سمعية بصرية واضطراب مزاج وأمراً لا يمكن التخلص منه في ظل غياب ثقافة الدعم والطبابة النفسية بصورة عامة في سوريا، والخوف من الأهل أولاً وأخيراً.
على رغم هذا الانتشار المهول للمخدرات بين أيدي الشباب، فإنه لا يزال مادة محظورة قانوناً ويستدعي التوقيف والسجن، وأوضح مدير إحدى مدارس ريف دمشق لـ"اندبندنت عربية" حقيقة وجود طلبة يتمادون في تعاطي هذه المواد، مشيراً إلى وصول تعليمات قبل مدة من مديريات التربية لكثير من المدارس بالتشديد وتفتيش الطلبة ومراعاة الانتباه لوجود هذه المواد بين أيديهم أو في جيوبهم أو حقائبهم، خصوصاً بعد العثور على عبوة "ترامادول" مع أحد الطلبة، فجاء والده بتقرير طبي مزور يفيد بأن ولده يتعاطى المادة نتيجة آلام عصبية، لكن التحقيقات بيّنت زيف الرواية، مما استدعى فصل الشاب من المدرسة.
"جرّبتها لأفهمها"
خلال بحث "اندبندنت عربية" في موضوع تعاطي المخدرات والفئات الأكثر اهتماماً بها، اتضح أن الأمر يتخطى طلاب المدارس ليجتاح الجامعات وطلابها، خصوصاً في الكليات التطبيقية والطبية التي تتطلب مجهوداً مضاعفاً وساعات سهر وعمل ودراسة طويلة.
الباحث في الشؤون الاجتماعية معتز عمران يؤكد لـ"اندبندنت عربية" أن "تلك المادة قد تباع قريباً على البسطات في الشوارع لكثرة انتشارها وسهولة الحصول عليها، وبات يطلق عليها أسماء على شاكلة ’الكابتن ماجد‘ و’يا مسهرني الليل‘".
ويضيف أن "انتشار هذه المادة يعزز الجرائم التي تتصاعد أساساً في المجتمع، ويمكن ملاحظة أعين كثير من الناس ساهمةً وهم جالسين، فموضوع التعاطي مخيف على الفرد والمجتمع والأسرة، أنا آسف، ولكن أنا نفسي جربتها وظللت ثلاثة أيام مستيقظاً، جربتها لأعرف ما هي في إطار إنجاز بحث كنت أعمل عليه".
خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، تولت المتخصصة النفسية ريمي أحمد علاج نحو 13 حالة إدمان "الكابتاغون"، فشلت في علاج خمس منها لأنها لم تتجاوب ونجحت مع ثمانية، مؤكدة أن القصة أولاً وأخيراً ترتبط بإرادة المريض وتصميمه وقوّته.
تقول "هناك مراحل عدة للعلاج، أولها إفهام المريض أو المدمن أخطار ما هو فيه وكمية السموم في دمه ودماغه وجسده والضرر الواقع على أعصابه وإمكان تلف خلايا مخه، فضلاً عن التقلبات المزاجية والهلاوس وإمكان وصوله إلى الانتحار".
وتتابع "أما المرحلة الثانية، فهي المتابعة مع طبيب، إذ يُعدّ العلاج بالأدوية (MAT) أحد أكثر العلاجات فاعلية لتقليل شدة أعراض الانسحاب والرغبة الشديدة في تناول المادة، ويمكن للمعالج أن يساعد الأفراد على تجنب الانتكاس، في حين أن المرحلة الأخيرة هي الحفاظ على ما وصلنا إليه من تعافٍ وإقناع المريض بالإيجابيات الحاصلة والحفاظ عليه من الانتكاسة، واستمرار التواصل معه بصورة دائمة".
ينص القانون السوري بوضوح على مراسيم جمهورية تتعلق بالعقوبات الواقعة على مستخدمي وزارعي ومهربي المخدرات وغيرهم من المتورطين، وجاءت العقوبات كما يلي:
عقوبة زراعة وتهريب وصناعة النباتات المخدرة هي الإعدام، أما عقوبة حيازة ونقل وشراء وبيع المواد والنباتات المخدرة بقصد الاتجار بها فهي الاعتقال المؤبد وغرامة من 500 ألف إلى مليون ليرة (30 إلى 70 دولاراً). ومن يقدم المواد والنباتات المخدرة للغير أو يسهل تعاطيها من دون قصد الاتجار يعاقب بالاعتقال لمدة لا تقل عن 10 سنوات إلى 15 سنة والغرامة من 500 ألف إلى مليون ليرة.
أما عقوبة من حاز أو نقل أو اشترى أو سلم أو تسلم مواد مخدرة، سواء كان بقصد التعاطي أو الاتجار فهي الاعتقال من ثلاث إلى 15 سنة، إضافة إلى الغرامة من مئة ألف إلى 500 ألف ليرة سورية، في حين تكون العقوبة مخففة جداً للمتعاطين فقط من دون قصد الترويج، وتُضاف إلى هذه العقوبات الجنائية عقوبة التجريد من الحقوق المدنية.