Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ليست أثرا"... تبرير منطقي أم بوابة لتشويه تراث مصر؟

أثريون: نحتاج إلى قانون موحد للآثار والتراث وعدم التسجيل يسقط عنها الحماية القانونية وغياب موازنة الصيانة الدورية سبب الإهمال

على مدى الأيام الماضية تصدرت واقعة الصيانة الأخيرة لأسود قصر النيل حديث المصريين على منصات التواصل (أ ب)

ملخص

تفضّل وزارة الآثار المصرية عدم تسجيل المباني والتماثيل التاريخية بحجة "عدم توافر الموازنة اللازمة للصيانة الدورية، إذ يستوجب التسجيل التزام الوزارة بإجراء الصيانة الدورية وتعيين مفتشين للإشراف على تلك المباني

"تماثيل غير مسجلة. ومواقع ليست في عداد الآثار"، بمثل هاتين العبارتين المقتضبتين اعتاد مسؤولو الآثار المصرية الرد على ما يقع من أخطاء في عمليات الصيانة والترميم، أو حتى إزالة وهدم معالم ذات قيمة تاريخية وتراثية مما يثير معها ردود فعل غاضبة من قبل الأثريين، ويفرض تساؤلات ملحة حول الأسباب التي تعوق عمليات التسجيل.

وعلى مدى الأيام الماضية تصدرت واقعة الصيانة الأخيرة لأسود قصر النيل حديث المصريين على منصات التواصل، في أعقاب انتشار صور لها باللون الأسود على رغم أن معدنها الأصلي البرونز. وقبلها أعمال الهدم التي طاولت عدة مقابر وقبب تاريخية في مصر وكان الرد الرسمي بأنها "ليست مسجلة أثراً". وفق ما أكده رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بالمجلس الأعلى للآثار جمال مصطفى.

خوفاً من الالتزامات

وفي شأن الأسود يقول عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس لـ"اندبندنت عربية"، "هذه المعالم قيمة معمارية تتطلب الاهتمام والصيانة حتى وإن كانت تابعة لمحافظة القاهرة، فإنه يجب الحفاظ عليها كمعالم معمارية حتى وإن لم تكن مسجلة".

وبالبحث وجدت "اندبندنت عربية" أن اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية في مصر وافقت على تسجيل كوبري قصر النيل والأسود الأربعة في عداد الآثار خلال مايو (أيار) 2016، مما يضع علامات استفهام أخرى حول الأسباب وراء عدم تطبيق هذا القرار الصادر عن اللجنة على رغم مرور ثمانية أعوام على تلك الموافقة.

ووفقاً لرئيس المجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب محمد الكحلاوي تفضل وزارة الآثار عدم تسجيل المباني والتماثيل التاريخية بحجة "عدم توافر الموازنة اللازمة للصيانة الدورية، إذ يستوجب التسجيل التزام الوزارة بإجراء الصيانة الدورية وتعيين مفتشين للإشراف على تلك المباني". معتبراً أن الامتناع عن التسجيل "لا يتعلق بعدم استيفاء الشروط، بل لتفادي الالتزامات المترتبة عليه".

ولم يكن وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي بمنأى عن الدخول في الجدل الدائر حول واقعة صيانة أسود قصر النيل الأخيرة، مبرراً أعمال الصيانة بأنها "تنظيف باستخدام الهواء وفرش خفيفة وغسل الأسود بصابون متعادل مخصص لذلك النوع، ووضع عازل على التماثيل يبدو لامعاً، لكنه في ظل المتغيرات والظروف الجوية سيعود إلى طبيعته".

وأكد المسؤول المصري أن المجلس الأعلى للآثار أعد صيانة سابقة للتماثيل ذاتها، وظهر نجاحها في الصيانة بعد التأكد من عدم وجود أي نوع من أنواع الصدأ، وهو ما يوضح أن الطريقة والنوعية المستخدمة في الصيانة "كانت صحيحة". معتبراً أن من الدروس المستفادة من الواقعة تحري الدقة.

وتواصلت "اندبندنت عربية" مع المشرف على أعمال الترميم السابقة لأسود قصر النيل، الذي أسند إليه العمل بعد ضجة أثيرت خلال عام 1997 بسبب أعمال الترميم الخاطئة للتمثال من قبل إحدى الشركات الشهيرة، مما اضطر محافظة القاهرة لإسناد المشروع برمته إلى وزارة الآثار المصرية.

 

وتقول مدير عام ترميم الآثار الإسلامية والقبطية خلال ذلك الوقت وخبيرة الترميم الدقيق والمعماري شادية أحمد لـ"اندبندنت عربية"، "أشعر بصدمة من المشاهد التي تتعرض لها تماثيل الميادين والمواقع التراثية في الآونة الأخيرة"، مبدية استياءها من تبرير التعدي عليها بأنها "غير مسجلة". وأوضحت أن مشاهد التماثيل وأعمال الترميم الخاطئة "تمثل ضياعاً لجمال من الممكن ألا يعود مرة أخرى".

وأضافت "توجهت إلى المنطقة لأشاهد على الطبيعة ما جرى لتماثيل ميادين القاهرة الكبرى ووجدت أسود قصر النيل خضعت لمعالجة غير مناسبة، إذ جرت إزالة المعالجة السابقة (تقصد الدهان الأسود) مما خلف وراءه بقعاً سوداء على التمثال. وأوضحت أن المادة اللزجة المستخدمة كانت بتركيز عال جداً مما أدى إلى لمعة غير طبيعية".

ومضت "المسؤولون ينتظرون أن تجف هذه المادة مع مرور الوقت، وما سيحدث أن الطبقات ستجرح المادة الأصلية مما سيؤثر في جمال التراث، ويؤدي إلى تدهور حالته بدلاً من الحفاظ عليه". مشددة على ضرورة الاعتماد على متخصصين يفهمون كيفية التعامل مع كل نوع من التماثيل.

"الأسود عاصرت فترات تاريخية مهمة ولا يمكن تجاهل ذلك. حتى لو لم يتم تسجيلها كآثار فهي تمثل تراثاً قومياً مهماً يجب المحافظة عليه" وفقاً لشادية. وقيمة الأسود الفنية والتاريخية تجعلها فريدة من نوعها، ومن الغريب تبرير أخطاء المعالجة بأنها "غير أثرية" وبخاصة بعد الموافقة عليها في اللجنة الدائمة للآثار.

وأعطت مثالاً آخر على تمثال سعد زغلول، ووفقاً لحديثها فإنه عولج بصورة خاطئة باستخدام دهان باللون الأسود، مؤكدة أنه كان تحت إشرافها وعلى علم بتفاصيله. وانتقلت بصفتها كانت مسؤولة سابقة عن تماثيل الميادين بالقاهرة الكبرى بدفة الحديث إلى تمثال عبدالمنعم رياض الذي قالت إنه جرى تحويل لونه إلى الأخضر على رغم أنه من معدن البرونز. وأكدت أن جميع هذه التماثيل لم تسجل في الوزارة باستثناء تمثال إبراهيم باشا.

وأشارت شادية إلى أن أسود قصر النيل تعرضت خلال التسعينيات لمعالجات خاطئة تمثلت في استعمال الزفت ولحام باستخدام الإيبوكسي، ولم يكن بالإمكان إزالة هذه المواد بسبب الخوف من التأثير في البرونز. وجرحت التماثيل نتيجة لاستخدام فرش سلكية، وقمنا بفحصها وعلاج بعض الأجزاء باستخدام تركيبات صناعية في المعمل قريبة من الأصلية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عدم التسجيل... مسؤولية من؟

ومن جانبه، دعا المتخصص الأثري حجاج إبراهيم إلى محاسبة المسؤولين عن الإهمال في تسجيل الآثار، مشيراً إلى أن هناك عديداً من المباني التاريخية التي أُهملت لأنها "غير مسجلة" مما يثير الاستغراب ويزيد من أخطار تدمير التراث، مؤكداً أن الاهتمام بالمواقع التراثية "ضرورة لا تقبل التهاون ولا يجب استخدام عدم التسجيل ذريعة لتشويهها أو إفسادها".

وأضاف إبراهيم "إهمال التسجيل لا يتوقف عند عدم تسجيل المواقع الجديدة فحسب، بل إن بعض الآثار المسجلة سابقاً أهملت وشطبت من قائمة الآثار". مشدداً على أن عدم التسجيل يسقط عنها الحماية القانونية اللازمة، على رغم قيمتها التاريخية الفريدة.

وأشار إبراهيم الحاصل على دبلومة في ترميم البرونز إلى أن ما حدث لتماثيل أسود كوبري قصر النيل "يمثل كارثة وعبثاً بالتراث"، موضحاً أن استخدام مواد غير مناسبة "أدى إلى تشويه البرونز كما حدث سابقاً في المتحف الإسلامي مع الأبريق المنسوب للخليفة مروان بن محمد"، مشدداً على ضرورة اختيار المسؤولين عن الآثار بعناية فائقة بحيث يكون لديهم خبرة في العمل الأثري وفهم عميق بقيمة التراث، وأن يعملوا بجدية لتسجيل الآثار وحمايتها بدلاً من شطبها أو تجاهلها.

"إهمال توثيق هذه المباني لا يمكن أن يتخذ ذريعة للتشويه أو التعدي عليها"، بحسب ما يؤكد رئيس المجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب، إذ اعتبر غياب المساءلة للمسؤولين عن توثيق الآثار أدى إلى تدمير جزء من التراث الوطني وبخاصة مع هدم بعض المقابر والقباب التاريخية تحت ذريعة التطوير معتبراً ذلك تصرفاً مستفزاً، إذ إن هذه المواقع الأثرية "يجب أن تحاط بالحماية ولا يسمح بالاقتراب منها".

 

وتطرق الكحلاوي إلى التوزيع غير المنظم لمسؤوليات إدارة الآثار بين جهات متعددة مثل الأوقاف والمحافظات ووزارة الآثار وجهاز التنمية الحضرية مما جعل التراث ضحية للمشروعات الاستثمارية، داعياً الحكومة المصرية إلى "محاسبة المقصرين وتوحيد جهة مسؤولة عن حماية وتوثيق التراث المصري، حفاظاً على هذا الإرث للأجيال المقبلة".

وشدد زاهي حواس على أن أي تغيير أو عمل يجري في منطقة أثرية "يجب أن يخضع لمراجعة من لجان علمية متخصصة لتصدر قرارات مدروسة في شأنه. وحتى في الحالات التي تتطلب إزالة جزء منه لإقامة مشروع يعود بالنفع على الناس يجب أن يكون هناك دراسات علمية توضح مبررات الإزالة، وتحدد الوجهة التي سينقل إليها الجزء الأثري إضافة إلى بحث البدائل الممكنة لضمان الحفاظ على التراث".

ويشير عضو اتحاد الأثريين المصريين عماد المهدي إلى أن هناك "أعداداً كبيرة من القطع ذات القيمة التاريخية غير المسجلة ضمن الآثار، وهو تقصير تتحمل مسؤوليته وزارة الآثار. وكان من الضروري التركيز على تسجيل هذه القطع بدلاً من إهمالها وتبرير تشويهها".

وأضاف "حتى إذا لم يتم تسجيل التماثيل والمباني رسمياً فهذا لا يعطي الحق لأية جهة بتشويهها، لأنها إرث ثقافي يخص الشعب المصري ويجب على الحكومة أن تحمي هذا التراث، وعدم تسجيله لا يعني السماح بالتعدي عليه".

وأعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي خلال مؤتمر صحافي الأربعاء الماضي أن التوجه العام لجميع المسؤولين في الحكومة هو "الحفاظ على الآثار سواء كانت مسجلة أو مباني تراثية ذات قيمة"، موضحاً أن ما حدث من هدم بعض المباني بمنطقة مقابر الإمام الشافعي وغيرها جرى التوجيه بالإيقاف الفوري له، وتأكيد احترام المباني ذات القيمة وعدم المساس بأي مبنى ذي قيمة فنية أو معمارية.

ويرى عميد كلية الآثار بجامعة القاهرة السابق الدكتور محمد حمزة الحداد أن عدم تسجيل الآثار "يعد تقصيراً جسيماً من المجلس الأعلى للآثار، والهدف من إنشاء وزارة الآثار هو إجراء مسح شامل لجميع المواقع في مصر وتوثيق المعالم والمباني والعقارات ذات القيمة التاريخية، إضافة إلى صيانتها وترميمها للحفاظ عليها".

هناك حاجة ملحة لاستحداث قانون موحد للآثار والتراث وفقاً للحداد ليجعل جهة واحدة مسؤولة عن إدارة الآثار المصرية بدلاً من تداخل المسؤوليات بين عدة جهات، مشيراً إلى أن مباني "القرافة" على سبيل المثال تقع ضمن نطاق القاهرة التاريخية المسجلة ضمن التراث العالمي لليونيسكو منذ عام 1979، مما يلزم السلطات بحمايتها والحفاظ عليها، مستنكراً ما حدث مع أسود قصر النيل "كيف يمكن اعتبارها غير أثرية وهي تعود إلى عهد الخديوي إسماعيل؟".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات