ملخص
تكاد مسرحية "فريدريك أمير هومبورغ" تكون صورة للصراع الذي كان يعتمل في داخل الكاتب والشاعر الألماني الكبير هاينريش فون كلايستنفسه، بين النزعة الفردية ومفهوم الواجب الذي يحتم على المرء أن ينصاع إلى رغبة الدولة باعتبارها الصاهر لكل الفرديات
في الـ21 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1811 شهدت ضفة نهر فانسي في برلين حادثة غريبة من نوعها، وكان رجل لا يزال في ربيع عمره تقريباً وسيدة رائعة الحسن كانت في رفقة الرجل بطلي الحادثة. والذي حدث هو أن الرجل والمرأة ما إن وصلا إلى مكان تكسوه الأشجار عند الضفة حتى وقفا قبالة بعضهما بعضاً يتبادلان النظر بكل حزن، ولكن مع شيء من التصميم، ثم بعدما تبادلا قبلة عميقة أخرج الرجل من جيبه مسدساً ومن فوره أطلق منه رصاصة على المرأة فخرت صريعة. وإثر ذلك وجه المسدس نفسه إلى رأسه وأطلق رصاصة أخرى ليخر صريعاً هو الآخر إلى جانبها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يكن هذا مشهداً في مسرحية للكاتب والشاعر الألماني الكبير هاينريش فون كلايست (1777-1811)، بل كان الطريقة التي اختار بها فون كلايست نفسه أن ينهي حياته بالفعل. فالرجل كان الشاعر والكاتب ذا الـ33 عاماً. أما المرأة فكانت هنرييت فوغل عشيقة آخر أيامه وهي امرأة متزوجة. وهنا لا بد من أن نسارع إلى القول إن العشيقين لم ينتحراً ليأسهما من الحب، بل ليأسهما معاً من الحياة. هي لأنها كانت مصابة بسرطان قاتل لا براء منه، وهو لأنه كان وصل إلى ذروة الفشل في حياته المادية، ولم يتمكن من إنجاح أي مشروع حاول القيام به، بل إن مسرحياته التي كتبها، والتي ستحقق نجاحاً كبيراً في القرن الـ20، لم تكن تلقى ذلك الإقبال المتوقع حين كانت تقدم في أيامه، وذلك لصعوبتها وصعوبة مواضيعها بخاصة. وهي كانت، في صورة عامة، أعمالاً تسير عكس التيار. ومن أبرزها "فريدريك أمير هومبورغ"، المسرحية التي كانت آخر عمل مكتمل تركه فون كلايست قبل موته، وتعد اليوم عمله الأكبر، وواحدة من أبرز الأعمال الرومانسية الألمانية.
صراع ذاتي
بالنسبة إلى الباحثين، تكاد مسرحية "فريدريك أمير هومبورغ" تكون صورة للصراع الذي كان يعتمل في داخل فون كلايست نفسه، بين النزعة الفردية ومفهوم الواجب الذي يحتم على المرء أن ينصاع إلى رغبة الدولة باعتبارها الصاهر لكل الفرديات. من هنا لا شك في أن جوهر هذه المسرحية يعبر إلى حد كبير عن ذلك الجوهر الذي حملته واحدة من أفضل القطع الحوارية التي كتبها أفلاطون "محاورة كريتون"، التي يأتي فيها الثري الذي يحمل الاسم نفسه ليزور سقراط في سجنه قبل إعدامه بيوم محاولاً أن يقنعه بالفرار، لكن سقراط يرفض لمجرد أنه لا يريد أن يخرق القوانين، وأن يسيء إلى نظام الدولة حتى ولو كان الثمن حياته.
من المؤكد أن فون كلايست، حين صاغ "فريدريك أمير هومبورغ" كان يضع ذلك الموقف في ذهنه، إذ حتى لو كانت أحداث المسرحية أكثر تشعباً بكثير من حوارية أفلاطون، فإن الجوهر واحد. والفارق يكمن في النهاية: سقراط دفع حياته ثمناً لموقفه وإيمانه بالواجب، أما بالنسبة إلى أمير هومبورغ فالخلاص كان من نصيبه على رغم تمسكه هو الآخر بالواجب.
تتحدث مسرحية "فريدريك أمير هومبورغ" التي كتبها فون كلايست خلال العامين الأخيرين من حياته، وقدمت للمرة الأولى عام 1810، عن الضابط البروسي الشاب الأمير فريدريك الذي اعتاد أن يسير خلال نومه من دون أن يعي ذلك. وذات ليلة في ما كان يسير على ذلك النحو، يحاول عمه الناخب الأكبر لبراندبورغ، أن يمازحه فيرسل إليه ابنته ناتالي مع آخرين. وهذه تسقط في ما كانت تراقبه قفازها فيلتقطه فريدريك من دون وعي منه ليجده في يده صباح اليوم التالي حين يفيق، يقلقه الأمر ويحيره شاغلاً منه الفكر في وقت كان عليه أن يتوجه إلى خوض معركة ضد السويديين. وخلال المعركة يحدث أن يعصي الأمير تعليمات عمه الناخب في شكل لافت للنظر، صحيح أن ذلك العصيان لم يمنعه من الانتصار في المعركة، ولكن كان لا بد من أن يعاقب لأن العصيان عصيان مهما كانت نتائجه، ولأن منطق الدولة يتناقض مع أهواء الأفراد. وهكذا يحكم عليه عمه الناخب بالإعدام.
حكم على النفس
ولكن هنا تتدخل ناتالي، ويتدخل عدد من الأعيان والضباط الشبان، راغبين من العم أن ينقض الحكم. فيقبل هذا بعد تردد، لكنه يقرر في الوقت نفسه أن على فريدريك أن يحكم على نفسه بنفسه. وأن أي حكم يصدره هذا الأخير سيكون مقبولاً. فكيف سيكون حكم فريدريك على نفسه؟ ببساطة يصادق على حكم عمه الناخب، ويقرر أن عقابه، على خرقه الأوامر، يجب أن يكون الموت. فمنطق الدولة هو منطق الدولة. وفي عملية بناء الدولة جامعة المواطنين لا مكان للعواطف الشخصية، لأن أي خرق لقوانين الدولة هو تدمير للدولة. لا بد له إذا أن يموت.
وهنا من المؤكد أن سقراط وموقفه من الواجب ومن منطق الدولة، هو الذي يطل برأسه هنا، وفي لحظات، عبر عبارات متشابهة تماماً. وواضح أن فون كلايست، إذ ينصر منطق الدولة هنا على منطق الفرد، ينساق وراء المثل الأعلى البروسي الذي استعار في ذلك الحين من المثل الأعلى الأثيني ذلك الموقف المؤسس. ومع هذا فإن حظ فريدريك أمير هومبورغ، يتبدى هنا أفضل من حظ سقراط، فيلسوف أثينا، فإذا كان هذا تجرع الكأس ومات رافضاً خرق القوانين والأعراف. فإن الأمير، إذ تعصب عيناه ويساق إلى نهايته، ما إن تزال العصبة عن العينين، حتى يكتشف أنه نقل إلى قاعة العرش، حيث يحتفل بزواجه من محبوبته. وكانت تلك مكافأته على قراره الشجاع الذي لن ينفذ على أية حال.
عصيان سابق
من الواضح أن فون كلايست، إذ كتب هذه المسرحية في أواخر أيامه، إنما كان يريد أن يجعل منها ما يشبه فعل الندامة على مواقف عصيان سبق له أن عبر عنها، ولا سيما حين ترك الجيش البروسي بعدما وصل إلى رتبة ملازم، انطلاقاً من مواقفه الفردية التي بدت متناقضة تماماً مع امتثالية الجيش الصارمة، لا سيما في بروسيا تلك الأحايين. ومع هذا من المؤكد أن ذلك الموقف العقلاني لم يشفع له، ولم يمكنه من نيل الحظوة لدى الحكام. وهكذا كانت نهايته انتحاراً تعبيراً عن يأسه المطبق. ولربما كان ذلك الانتحار في حد ذاته موقفاً معارضاً للموقف الذي عبر عنه في "فريدريك أمير هومبورغ".
مهما يكن فإن حياة فون كلايست كلها كانت مملوءة بالتناقضات على قصرها، إذ إن ذاك الذي اعتبر دائماً "أصعب كتاب الشمال الألماني" أسلوباً ومواضيع ولد في أسرة غنية من نبلاء مدينة فرانكفورت/ أودر، وعاش حياته في فقر مدقع، ولم يكف خلال سنواته الأخيرة عن التوجه إلى السلطات طالباً العون لمقاومة الجوع. وهو وقف ضد نابليون بونابرت في وقت وقف فيه رومانسيو ألمانيا وعقلانيوها جميعاً مع البطل الفرنسي "الآتي لإنقاذ الإنسانية" بعدما انضم إلى الجيش في وقت كانت نزعته الرومانسية والفردية طاغية.
عاش فون كلايست شبابه كله حائراً متنقلاً في رحلات قادته إلى فرنسا وسويسرا، غارقاً في أزمات نفسية عميقة. وهو عند بداية القرن الـ19 لجأ إلى البلاط الملكي في كونبسبرغ مما مكنه من الانصراف إلى كتابة أعماله التي قوبلت أولاً بتجاهل تام، ثم حققت قسطاً عظيماً من النجاح. ومن تلك الأعمال مسرحية "الكأس المحطمة" و"الفيترون" ثم "المركيزة أو" و"بينتزليا" و"ميخائيل كولماس". وخلال الأعوام الأخيرة من حياته اتجه فون كلايست إلى الصحافة، إذ أسس صحافية "فوبوس" في "درسدن"، وأتبعها بـ"برلينرا بندبلاتر" في برلين. والحال أن فشل الصحيفة الأخيرة في المعارك التي خاضها من خلالها، هو الذي أوصل فون كلايست إلى الإفلاس، ثم إلى الانتحار على الطريقة التي روينا.