ملخص
كانت الولاية حتى وقت قريب تعرف عند السودانيين بـ"الجزيرة الخضراء"، بشعارها المسالم "لوزة القطن البيضاء"، وتكنى كذلك بـ"أرض المَحنّة" أي أرض الحنان، بسبب انسجام وتناغم نسيجها الاجتماعي وبعد أهلها عن العصبية والجهوية وتضاؤل النفوذ الأهلي والقبلي فيها.
منذ اجتياح قوات "الدعم السريع" لولاية الجزيرة وسط السودان في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي لم يتوقف نزف الدماء وسلسلة الانتهاكات والنهب المسلح والتهجير القسري والاختطاف والاغتصاب والاستعباد في أكثر الأيام سواداً التي مرت بها الولاية على مدى تاريخها، وتوشك أن تفرغ مدنها وقراها من السكان مع استمرار الهجمات التي تشنها قوات "الدعم".
ضاعف من صدمة أهالي الجزيرة كون الولاية المسالمة التي لم تعرف الحروب طوال تاريخها، لم يسبق لها منذ نشأتها قبل الاستقلال أن اختبرت تجربة مشابهة لمثل الكابوس الحالي من العنف والانتهاكات والتشريد. وكانت الولاية حتى وقت قريب تعرف عند السودانيين بـ"الجزيرة الخضراء"، بشعارها المسالم "لوزة القطن البيضاء"، وتكنى كذلك بـ"أرض المَحنّة" أي أرض الحنان، بسبب انسجام وتناغم نسيجها الاجتماعي وبعد أهلها عن العصبية والجهوية وتضاءل النفوذ الأهلي والقبلي فيها.
في تطور جديد للحملات المتواصلة التي تشنها كشف مرصد "أم القرى"، المعني بمتابعة ورصد الأحداث العسكرية والانتهاكات في ولاية الجزيرة، عن أن قوات "الدعم السريع" عمدت إلى زرع الألغام حول مدينة أم القرى بهدف إبطاء أية محاولات لتقدم للجيش.
أرقام ومآس
يقدر منبر "مؤتمر الجزيرة" أعداد النازحين الذين رصدوا بما يفوق 400 ألف نازح، مع توقعات أن يكون عددهم وصل إلى 600 ألف، في ظل استمرار حركة النزوح اليومية وتعذر تحديث البيانات بسبب انقطاع الاتصالات بالمنطقة.
وفق بيان للمنبر هجر أكثر من 400 قرية من شرق الجزيرة بالكامل من جملة 515 قرية، بينما هجرت 115 قرية المتبقية بصورة جزئية، ويعيش السكان الباقون فيها تحت حصار محكم وانتهاكات متكررة من قوات "الدعم السريع".
وصف البيان أوضاع النازحين بأنها غاية في الصعوبة والخطورة، إذ تفترش أعداد منهم الأرض وتلتحف السماء في سهول البطانة وطرقها الطويلة القاسية التي يقطعها النازحون سيراً على الأقدام، وتوفي بعضهم في الطريق نتيجة الإعياء الشديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تمتد الولاية على مساحة ما يقارب 28 آلاف كيلو متر مربع وسط السودان، بعدد سكان يتجاوز 5 ملايين نسمة يمثلون 13 في المئة من سكان السودان وفق إحصاء 2018، وتحتل المرتبة الثانية بعد ولاية الخرطوم من حيث الكثافة السكانية.
وتتميز الولاية بموقعها الاستراتيجي وسط البلاد، وتحتضن مشروع الجزيرة الزراعي، أكبر المشاريع المروية في أفريقيا بمساحة تفوق مليوني فدان من مجمل الأراضي الصالحة للزراعة بها، والمقدرة بنحو 6 ملايين فدان، مما جعلها أكبر مصدر غذائي واقتصادي في السودان.
في هذا الوقت ما زالت قوات "الدعم السريع" تواصل حصارها على مدينة الهلالية، بينما تتابع هجماتها على أكثر من سبع قرى جديدة في محليتي أم القرى وشرق الولاية المنكوبة، إذ ارتكبت خلال اليومين الماضيين مجزرة جديدة في قرية "البروراب" راح ضحيتها 13 من أبناء المنطقة، بخلاف عشرات الإصابات البليغة، ودهمت كذلك قرى "أم مغد" بمحلية الكاملين و"قنب" و"شرفت الحلاويين" بالحصاحيصا، و"أولاد محمود" بمنطقة ود راوة، وقامت بعمليات قتل وعنف مفرط ونهب وسرقة.
شتات ومفقودون
وكشف بيان "مؤتمر الجزيرة" عن ارتفاع عدد ضحايا الهلالية إلى 23 شخصاً، قتل أكثر من نصفهم رمياً بالرصاص، وقضى البقية بسبب التسمم في ظل انعدام الرعاية الصحية، وفاق عدد المصابين 40 جريحاً، ولا يزال عدد من المواطنين، بمن فيهم من أطفال وشيوخ ومرضى، محاصرين داخل المساجد وتوفي بعضهم لانعدام أبسط مقومات الحياة.
ويشكل مئات المفقودين وجهاً آخر لفاجعة أهل الجزيرة، إذ يعتقد أن بعضهم من الأطفال الذين ضلوا الطريق وانفصلوا عن أسرهم أثناء الفرار الفوضوي، بينما يرجح آخرون أنهم ربما قيد الاحتجاز لدى قوات "الدعم السريع".
يترافق مع استمرار الحملات الانتقامية، التي وصفت على نطاق واسع محلياً وأممياً ودولياً وإقليمياً بالشنيعة والمروعة، نزوح عشرات الآلاف من المدنيين من شرق الجزيرة، ويرجح أكثر من مصدر أنها أودت بحياة أكثر من 450 شخصاً ورصد نحو 27 حالة اغتصاب وعنف جنسي ضد النساء والفتيات.
مع تواصل تدفق موجات النزوح من المنطقة تشتت الفارون من قرى شرق الجزيرة بين مدن وقرى ولايات كسلا والقضارف ونهر النيل والمناطق الشمالية القريبة، وسط نقص في المدارس والمباني الحكومية التي يمكن أن تستوعبهم كدور للإيواء، ولا يزال مئات ينتظرون في الساحات وتحت ظلال الأشجار وفي الأسواق، بجانب النقص في الأدوية والمحاليل المعملية، وفق متطوعين بغرف الطوارئ.
في ولاية نهر النيل أعلنت الحكومة الولائية نفرة كبرى وسط المنظمات الطوعية الوطنية والعالمية لمقابلة الاحتياجات العاجلة لتدفقات النازحين الكبيرة التي فاق عدد سكان الولاية بأكثر من خمسة أضعاف، مما شكل ضغطاً على الخدمات كافة بصورة تستدعي الدعم العاجل.
وفي ولاية القضارف أعلن وزير الصحة الاتحادي هيثم محمد إبراهيم تفعيل دور طوارئ الأزمات، وذرف الدموع وهو يوجه نداء لكل المنظمات الدولية لمساعدة الفارين من شرق الجزيرة الذين خرجوا من قراهم راجلين بلا مؤن ومات بعضهم في الطريق، مشيراً إلى أنهم في حاجة عاجلة إلى أكثر من 20 ألف خيمة لإيوائهم.
الانتقام المضاد
في الأثناء كشفت مصادر محلية عن بدء هجوم مضاد تشنه القوات الخاصة التابعة للجيش مع قوات "درع البطانة" التي يقودها القائد المنشق أبو عاقلة كيكل، على مواقع "الدعم السريع" في محيط مدينة تمبول بمنطقة سهل البطانة شرق الجزيرة، أسفر عن مقتل وأسر عشرات والاستيلاء منها على عدد من المركبات القتالية.
وأكد كيكل لـ"اندبندنت عربية" عزمه على القصاص والأخذ بثأر أهل الجزيرة، معرباً عن ندمه الشديد لانضمامه إلى قوات "الدعم السريع" في السابق، واعتذاره الشديد لإنسان الجزيرة على كل ما حدث له ولحق به.
وعن الاتهامات والمطالبات بمحاكمته في التورط بالانتهاكات قبل انسلاخه من قوات "الدعم"، نفى كيكل أن يكون على المستوى الشخصي متورطاً بالتسبب في أي انتهاكات بولاية الجزيرة، مبيناً "إذا كانت هناك بلاغات ضدي أو من يتهمني على الصعيد الشخصي بارتكاب أي انتهاك في حقه فأنا أتحمل المسؤولية"، ومردفاً "لقد بذلت كل ما في وسعي من أجل حماية مواطن الجزيرة من انتهاكات قادة وجنود تلك القوات، وليس لمصلحة عصابات ومتفلتون كما يدعون".
وكان كيكل، الذي غادر الجيش السوداني في رتبة المقدم وكون "درع البطانة" قبل أن ينضم لقوات "الدعم السريع"، ظهر في مقطع فيديو متداول وهو يستعرض أسرى من قوات "الدعم".
من جانبها تنفي "الدعم السريع" قتلها أياً من مواطني مدينة الهلالية المدنيين أو غيرها أو منعهم من المغادرة، متهمة جهات سياسية، سمت منها "الحركة الإسلامية" علاوة على استخبارات الجيش، بأن لها مصلحة في نشر ما وصفته بالأخبار المضللة في شأن ولاية الجزيرة.
وحول العمليات العسكرية للجيش و"درع البطانة" في شرق الجزيرة أوضح المحلل العسكري إسماعيل يوسف أن فعالية أي تحركات حربية في تلك المناطق ترتبط بمدى التغطية الجوية من سلاح الطيران بحكم أن طبيعة مناطق البطانة السهلية المنبسطة والمفتوحة تلائم أسلوب تحركات قوات "الدعم"، إذ تسهل فيها حركة عربات الدفع الرباعي المقاتلة، بالتالي تزداد خطورتها في الالتفاف والمناورة التي تجيدها.
وأشار يوسف إلى أن أي مساعي من الجيش والمتحالفين معه إلى الانفتاح في تلك المناطق سيواجه بكثافة نيران الثقيلة من المدافع الرباعية والثنائية لقوات "الدعم السريع"، السلاح ذو الفعالية في مثل تلك المناطق المفتوحة.
واعتبر أن العمليات النوعية التي تجري تنطوي على جرأة كبيرة ومغامرة خطرة، كونها ستجتذب الفزع لإسناد قوات "الدعم"، ما لم تكن تلك العمليات بتنسيق مع متحرك المحور الشرقي من منطقة الفاو عبر الشريط المرتبط بمناطق وأرياف محلية رفاعة، لقطع الطريق وتطوير العمليات القتالية من محدودة إلى شاملة في المنطقة.
صدمة وخذلان وألم
في السياق نفسه وصف الناشط الحقوقي مزمل محجوب ما تتعرض له قرى الجزيرة بأنه يتجاوز التهجير القسري إلى المذابح والإبادة الجماعية بفتح النار على المواطنين المدنيين وقتلهم داخل منازلهم وقراهم، على رغم أن معظمهم من المزارعين والفئات القروية الأكثر ضعفاً.
وأوضح محجوب أن الانتهاكات بجانب الرمي بالرصاص في الشوارع وداخل المنازل والطرد منها، استحدثت أسلوباً شنيعاً بالذبح بطريقة بشعة لم يستثن منها حتى الشيوخ والأطفال، إذ وجدت عشرات من الجثث المذبوحة وسط الحقول على طرق الهرب.
تابع أن "الناس يشعرون بالصدمة والحسرة على ترك الجيش لهم في مواجهة هذا المصير البائس والإذلال والتشريد بواسطة تلك القوات الشرسة المدججة بالأسلحة الثقيلة الباطشة وأفرادها الذين لا يعرفون معنى الرحمة ولا قيمة الإنسانية أو القوانين الدولية، في وقت كانوا يعتقدون أن مناطقهم ستؤمن سريعاً بواسطة الجيش عقب انسلاخ القائد كيكل من ’الدعم السريع‘ وانضمامه للجيش، غير أن ثمن ذلك الانضمام الذي دفعه مواطنو شرق الجزيرة بهذا الشكل المروع أفدح مما كان تصوره الجميع".
أممياً حذر بيان صادر عن منتدى المنظمات غير الحكومية السودانية يضم 70 منظمة غير حكومية دولية تعمل في السودان، نشره مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة (أوتشا)، من تصاعد أعمال العنف الأكثر تطرفاً خلال أشهر الحرب الـ18 الماضية في شرق ولاية الجزيرة.
وحض المنتدى على ضرورة التحرك بناء على دعوة الأمين العام للأمم المتحدة إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لحماية المدنيين، وضمان توصيل المساعدات بصورة آمنة وغير مقيدة في جميع أنحاء السودان.
ولفت البيان إلى تقارير مثيرة للقلق عن حوادث عنف جنسي ضد الفتيات الصغيرات والمراهقات، وحرق وتدمير المحاصيل الغذائية، وتخريب أنظمة الطاقة الشمسية التي تعتمد عليها شبكات المياه، إضافة إلى تقارير عن وصول نازحين أطفال مصابين بطلقات نارية، في حين تستمر الاعتقالات واحتجاز الأطفال، فضلاً عن آخرين مفقودين أو منفصلين عن ذويهم بين النازحين.
وبعد ثمانية أشهر من اندلاع الحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منتصف أبريل (نيسان) من العام الماضي سيطرت الأخيرة على مدينة ود مدني عاصمة الولاية في الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وتوغلت بعدها بصورة مخيفة داخل قرى الولاية.
ومنذ الـ20 من أكتوبر الماضي، تشن قوات "الدعم السريع" حملات انتقامية على مدن وقرى شمال وشرق ولاية الجزيرة، في أعقاب انسلاخ قائدها بالجزيرة أبوعاقلة كيكل وانضمامه للجيش.