ملخص
السبب الرئيس الذي جعل ولاء فصائل المعارضة السورية المسلحة لتركيا هو الدعم المالي والعسكري الذي قدمته أنقرة لهذه الفصائل منذ اندلاع الصراع في سوريا، لكن لاحقاً وردت تقارير بأن تركيا أرسلت فصائل سورية معارضة للقتال في ليبيا وأذربيجان، وعندما دعت تركيا إلى التطبيع مع دمشق اعترضت الفصائل وهدد بعضها بالتمرد.
بعد أن فاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية، تحدث علناً أكثر من مرة عن رغبته بتطبيع العلاقات مع النظام السوري، وهذه الدعوات أغضبت المعارضة السورية التي اعترضت عليها بشدة، بما فيها فصائل المعارضة المسلحة والتي تسيطر على مناطق واسعة في الشمال السوري على الحدود مع تركيا، وهذه المناطق أيضاً مناطق ذات نفوذ تركي في سوريا.
ولم تكن الاحتجاجات صادرة فقط عن الفصائل المسلحة، بل أيضاً خرجت تظاهرات شعبية في مناطق النفوذ التركي تعترض على دعوات أردوغان إلى التطبيع مع دمشق.
في الجانب الآخر حصلت في يوليو (تموز) الماضي أحداث وصفت بالعنصرية ضد اللاجئين السوريين في ولاية قيصري وسط تركيا، حين اعتدى قوميون على منازل ومحال السوريين، وظهر رد فعل هذا الحدث في الشمال السوري أيضاً، فأثارت موجة غضب وسخط كبيرة تمثلت في تظاهرات ضد تركيا، بل واعتداءات وإطلاق النار على بعض المصالح التركية في الشمال السوري.
ما جرى في قيصري ورد الفعل في الشمال السوري كانا بمثابة اختبار لعلاقة تركيا بالمعارضة السورية، وهذا الحدث لاقى اهتماماً واسعاً لدى الصحافة التركية والعربية، وهنا سأذكر بعض نماذج تغطية الإعلام لتلك الأحداث.
الصحافي التركي المعارض أوميت كيفانج كتب تعليقاً على الأحداث غير السارة التي حصلت في قيصري: "أولئك الذين يحكمون بلادنا لم ينأوا بتركيا عن الحروب بل انغمسوا فيها، فهناك مناطق نفوذ لتركيا خارج حدودها يديرها ضباط وإداريون أرسلوا من تركيا، والجيش التركي موجود في أراضي عدد من الدول الأخرى، وتقوم أنقرة بتدريب وتجهيز ونشر آلاف المقاتلين الأجانب الذين لا يعرف أحد منا عددهم، ينتشرون في الساحات والميادين برعاية تركيا، وأعداء تركيا في خارج حدودها نفذوا اعتداءات على المصالح التركية، وهؤلاء الأشخاص من أعداء تركيا لهم أقارب يعيشون داخل حدود الجمهورية التركية، على رغم أنهم أعداء أبديون لبلادنا، وهذا لا علاقة له بالسلام والاستقرار والازدهار".
مخاوف أمراء الحروب
السوريون في الشمال الذين اعترضوا على ما جرى لأقاربهم في قيصري لم يتلقوا انتقادات فقط من المعارضة التركية، بل أيضاً اتهمتهم الحكومة السورية بمحاولات الوقوف في وجه إصلاح العلاقات مع دمشق، فكتبت صحيفة "الوطن" التابعة للنظام "يخشى أن تتخذ إدارة أنقرة إجراءات انتقامية ضد احتجاجات وتصرفات المعارضة السورية، إذ تضغط تركيا على المعارضين السوريين الرافضين لتطبيع العلاقات بين البلدين".
وهنا أيضاً تعليق الكاتب الرئيس في صحيفة "حرييت" التركية عبدالقادر سيلفي، والمعروف بقربه من دائرة صنع القرار في تركيا، وخصوصاً من حكومة حزب العدالة والتنمية يقول فيه إنه "بعد أحداث قيصري انتشرت أنباء أخرى كاذبة، منها ما يتحدث عن مواطن تركي اعتدى على فتاة سورية، وهذا وغيره تسبب في أعمال فوضى على الجانب السوري، حيث هوجمت الشاحنات التركية وأنزل العلم التركي، وقابله اعتداءات في بعض المدن التركية ضد اللاجئين السوريين، ولا يبدو أن ما جرى عفوي، بل إن الهدف الأساس من كل هذا هو تخريب عملية التطبيع التي بدأتها الحكومة التركية مع سوريا، وهو التطبيع يخشاه كثير من أمراء الحرب وبعض استخبارات الدول الأجنبية، ولهذا السبب اُستخدمت وسائل من شأنها استفزاز المجتمع، وتم المساس بالعلم التركي الذي له احترام خاص لدى المواطنين".
الهجوم الجماعي ضد السوريين في قيصري وما أعقبه من أحداث في الشمال السوري تركا انطباعاً بأن تركيا لا سيطرة كاملة لها على كل الفصائل هناك، وأعلنت رغبتها في تطبيع العلاقات مع دمشق، وطلبت من وزارة الدفاع في الحكومة السورية الموقتة بأن تشارك في اتفاق قد يحصل لاحقاً يقضي بأن تنضم الفصائل المسلحة إلى الجيش النظامي، إلا أن عدداً غير قليل من الفصائل المعارضة السورية المسلحة اعترضت على ذلك، رافضة أي اتفاق من هذا النوع، بل وهددت بالتمرد إن لزم الأمر.
سبب ولاء المعارضة السورية لتركيا
بموضوعية فإن السبب الرئيس الذي جعل ولاء فصائل المعارضة السورية المسلحة لتركيا هو الدعم المالي والعسكري الذي قدمته أنقرة لها منذ اندلاع الصراع في سوريا، لكن لاحقاً وردت تقارير تفيد بأن تركيا أرسلت فصائل سورية معارضة للقتال في ليبيا وأذربيجان.
وبالنسبة إلى أردوغان فهو لا يريد التطبيع وإهمال المعارضة السورية، بل يريد بطريقة ما إسكات الرافضين لهذا التطبيع من الفصائل السورية، وقد كلّف الاستخبارات التركية بهذه المهمة، وفي اجتماع خاص عقده وزير الخارجية هاكان فيدان مع قادة الفصائل السورية قال لهم مباشرة وبوضوح إن "تركيا آوت المعارضة السورية على أراضيها وتحملت كل أعباء السوريين في تركيا، وتحملت كل الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية، واليوم لدينا مصلحة في التطبيع مع دمشق ولا نريد أن نسمع أصواتاً متناقضة".
لكن على رغم كل الضغوط لم تسلّم كامل فصائل المعارضة بالخطوات التركية تجاه دمشق، والدليل على ذلك أن تركيا قامت بمحاولة فتح معبر أبو الزندين التجاري بريف حلب الواصل بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام، إلا أن احتجاجات واسعة واعتصاماً نفذ عند المعبر، ورفضت فصائل مسلحة افتتاحه على رغم أنه مهم وقد يدر عوائد مالية كثيرة عليهم، وما جرى دفع روسيا إلى التفكير بأن تركيا بدأت تفقد توازنها ونفوذها في الشمال السوري.
أما بالنسبة إلى تركيا، التي هي أيضاً تدرك ذلك، فإذا كانت تريد استعادة النفوذ القوي والسيطرة الكاملة على الشمال السوري فعليها إرضاء المعارضة السورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ديناميكيات فصائل المعارضة
وبالنسبة إلى بعض منظمات المعارضة السورية التي تحالفت مع الغرب فليست لها مشكلات مع حلفائها، لكن العلاقة بين الحكومة التركية والفصائل الموالية لها في سوريا ليست على ما يرام، والسؤال الأهم هو ماذا فعلت تركيا مع الفصائل التي عارضت خطواتها خلال الأشهر الماضية؟
في تقرير سابق نشرته صحيفة "اندبندنت عربية" ورد فيه أنه "خلال الفترة الأخيرة برزت خلافات حادة بين الفصائل السورية المسلحة مع تركيا وبحدة أقل مع فصائل منضوية في الجيش ذاته والأطر المعارضة، على خلفية أحداث متوالية في الشمال السوري، منها ما كان رد فعل على تعامل الداخل التركي مع اللاجئين من خلال موجات الكراهية والاعتداء عليهم وممتلكاتهم وأعمالهم في تركيا وإعادتهم إلى داخل الأراضي، إضافة إلى محاولات تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق برعاية روسية، ولعل أبرزها اعتراض عدد من الجهات والفصائل السورية على فتح معبر أبو الزندين الواقع قرب مدينة الباب بريف حلب الشرقي".
وكان تقرير "اندبندنت عربية" يشير إلى اعتراض فصائل على فتح معبر أبو الزندين، وافتتاح هذا المعبر كان برعاية تركية - روسية على أساس تجريبي، لكن الفصائل اعترضت وبعض الأهالي نصب خيماً أمام المعبر لمنع الحركة التجارية، وفي البداية لم تتخذ تركيا إجراءات ضد المعارضين للتطبيع مع دمشق أو لفتح المعبر، لكنها لاحقاً تحدثت مع روسيا حول إمكان التوصل إلى حل وسط بين حكومة دمشق والمعارضة.
تهديدات غير مباشرة
مسألة التقارب التركي مع دمشق تمثل السبب الرئيس للخلاف بين تركيا وفصائل المعارضة السورية، وقد هددهم أردوغان بصورة غير مباشرة عندما قال في خطابه عقب أحداث قيصري "سوف تكسر الأيدي التي تُرفع ضد بلدنا"، ولاحقاً قام المنسق التركي، الذي يعد في منصب الوالي في الشمال السوري، بجمع زعماء وقادة المعارضة في بلدة كلس القريبة من أعزاز بريف حلب الشمالي، وأبلغهم أن تركيا تريد تحقيق وقف دائم لإطلاق النار بين النظام والمعارضة، وتريد فتح المعابر التجارية بين مناطق سيطرة الطرفين، لكن إلى الآن لم تنصت جميع فصائل المعارضة للدعوة التركية.
وبالعودة لتقرير صحيفة "اندبندنت عربية" فإنه ينقل عن مصدر محلي مطلع في الشمال السوري قوله إن "المنسق التركي أبلغ قادة فصيل 'ثوار الشمال السوري' المدعوم من تركيا في اجتماع ببلدة حوار كلس أن قرار فتح المعبر أبلغ شفهياً، لكن قائد الفصيل حسن خيرية رفض القرار مما أدى إلى توتر المنطقة وخروج تظاهرات محدودة وبيانات تنديد ورفض، بخاصة من قبل عدد من القبائل والعشائر التي ينضوي أفراد منها في صفوف الفصيل، لكن المصدر أكد أن الثقل العشائري الوازن لا يعترض على القرار التركي القاضي بتفكيك الفصيل".
ويضيف التقرير أن "المصدر كشف أيضاً عن احتمال كبير بقرب صدور قرار مماثل من الجانب التركي بحق فصيل الجبهة الشامية الذي رفض بدوره عملية التطبيع مع النظام السوري وفتح معبر أبو الزندين خلال الفترة الماضية، في ظل احتدام الخلاف مع رئيس الحكومة السورية الموقتة وإصدار الفصيل بياناً بمقاطعته التعامل مع حكومة الأخير إلى حين استبدال أخرى بها، ومقاضاته على التهم التي وجهها لقادة الفصيل الأسبوع الماضي".
كذلك عارض فصيل "صقور الشمال" القرارات التركية، وكان يعترض على سياسة الحكومة السورية الموقتة التي يترأسها عبدالرحمن مصطفى، وهو سوري تركماني، وقد بدأت هذه التوترات تنذر بإمكان اقتتال فصائلي جديد في الشمال السوري، مما دفع الجيش التركي إلى رفع حال التأهب في مناطق نفوذه لمنع الاقتتال بين الفصائل، وانتهت الأمور بحل فصيل "صقور الشمال" بالكامل، وهذا أيضاً يتوافق مع المشروع التركي بأن يكون للمعارضة جيش واحد ينضوي تحت اسم "الجيش الوطني" التابع لوزارة الدفاع في الحكومة الموقتة.
مبررات التطبيع
بطبيعة الحال تركيا لا تنفذ عمليات عسكرية ضد الفصائل التي لا توافق على سياساتها في سوريا، ومن جانب آخر يقدّم الأتراك مبررات لدعوتهم إلى تطبيع العلاقات مع الأسد، وهذه المبررات يمكن حصرها في ثلاثة عوامل رئيسة، الأول أن لدى تركيا مخاوف جدية في شأن الجهود التي تبذلها "قوات سوريا الديمقراطية" لإنشاء حكومة اتحادية شمال شرقي سوريا، والثاني ديناميكيات الصراع الإقليمي الذي يشمل إيران و"حزب الله" وإسرائيل، والمخاوف من توسعه إلى سوريا وخروج الأمور عن السيطرة، أما الثالث فهو قضية ملايين اللاجئين السوريين في تركيا والتي أصبحت قضية حساسة وتريد تركيا حلها، ولذلك يعتقد الأتراك أن الحوار مع دمشق قد يساعد في عودة ولو جزء من اللاجئين، ولذلك تسعى أنقرة إلى الحصول على ضمانات أمنية بعدم التعرض للاجئين إذا عادوا.
تركيا أيضاً تحفظ لفصائل المعارضة السورية حمايتها للشريط الحدودي الذي تسيطر عليه، فهذه المنطقة تعد آمنة بالنسبة إلى تركيا، والفصائل السورية لا تسمح بمرور مزيد من اللاجئين إلى تركيا، وهذا لم يكن سراً وإنما كشفه علناً وزير الخارجية هاكان فيدان في الـ 14 من يوليو (تموز) الماضي حين قال إن "موقفنا تجاه المعارضة السورية لم يتغير، وهؤلاء الإخوة يمنعون حالياً قدوم مزيد من اللاجئين إلى تركيا من المناطق التي يسيطرون عليها".
وفي السياق ذاته فإن لدى أردوغان مخاوف من قيام إسرائيل بشن عمل عسكري في سوريا، كما فعلت في غزة ولبنان، وأردوغان لا يريد أن يكون هناك اتصال مباشر بين إسرائيل والجماعات الكردية المسلحة في شمال شرقي سوريا، وهذا الأمر يبدو بعيداً، لكن أردوغان تحدث عنه وقال "إن إسرائيل إذا غزت دمشق فستصل إلى الشمال السوري"، ومن جانب آخر فسياسة تركيا الجديدة تدعو إلى إصلاح العلاقات مع دول المنطقة في أسرع وقت ممكن، والتطبيع مع سوريا يأتي ضمن هذا المشروع.
عوائق التطبيع
علاقة تركيا بفصائل المعارضة السورية المعتدلة والمتطرفة أحد أكبر العوائق أمام أي تطبيع سوري - تركي، فلا يمكن لتركيا أن تدمج فصائل المعارضة في جيش النظام وتشكيل جبهة ضد أي تحرك إسرائيلي محتمل داخل الأراضي السورية، أو تشكيل جبهة للقضاء على التنظيمات الكردية المسلحة شمال شرقي سوريا، أما التنظيمات المتطرفة في إدلب، وخصوصاً "هيئة تحرير الشام"، فعلاقتها مع تركيا معقدة للغاية، فهي لا توافق على السياسة التركية في سوريا، وفي المقابل تحاول ألا تخرق الاتفاقات الموقعة بين تركيا وروسيا بخصوص خفض التصعيد، لأن الجيش التركي هو الذي منع قوات النظام السوري من السيطرة على إدلب عام 2020، ويمكننا القول إنه تقاطع مصالح، أما المستقبل اليوم فهو غامض.
روسيا تحالفت مع الأسد منذ البداية وقدمت له دعماً عسكرياً وجوياً حتى استعاد السيطرة على مناطق واسعة، وفي المقابل دعمت تركيا المعارضة لأعوام، واليوم تمد يدها للأسد واليد الأخرى للمعارضة، وفي الداخل التركي يظهر زعيم "حزب الحركة القومية" ماداً يده للأكراد داعياً إلى "الإخوة الوطنية"، وما يجب أن ندركه هو أن القرار السوري غير مستقل على الإطلاق، ولا يمكن لحكومة دمشق اتخاذ قرار بالتطبيع مع تركيا بمنأى عن الروس والإيرانيين، ولا يمكن لأنقرة أن تتخذ قرار التطبيع بمنأى عن حلفائها الأميركيين والأوروبيين الذين يفرضون عقوبات صارمة على كبار مسؤولي الحكومة السورية.
الآراء الواردة في هذه المقالة تخص المؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لصحيفة "اندبندنت تركية".