ملخص
فرانشيسكو ميلزي (1490 ـ 1570) هو الرجل الذي عاش في ظل الفنان ليوناردو دا فنشي وانصرف طوال معظم سنوات حياته إلى جمع تراثه منقحاً أنيقاً مدوناً بلغة قد يكون من شأنها أن تبرز الرسام الكبير ككاتب من طراز رفيع
يثني كثر من المؤرخين والباحثين عادة على كتابات رسام فلورنسا النهضوي الكبير ليوناردو دا فنشي معتبرينه بفضلها جامعاً لآيات الإبداع من شتى جوانبه. فنحن نعرف عادة ونتناقش في الأمر، منذ ما يزيد على نصف ألفية من السنين، إن هذا الفنان الكبير كان عبقرياً وعند الحدود القصوى للإبداع في كل ما دنا منه وليس فقط في عالم الرسم واختراع الآلات والمشاريع العسكرية ولا في العمران وهندسة قنوات جر الماء وما شاكل ذلك، بل كذلك التنظير لكل ذلك في نصوص بديعة اللغة والمنطق، والحال أننا نعرف ما حاول مؤرخ الفن النهضوي جورجيو فازاري أن يقوله لنا منذ زمن مبكر أي حين كان دا فنشي على قيد الحياة. يمكننا اختصار ما سعى مؤرخ الفن الكبير ذلك كي يقوله، منذ زمن بعيد وهو أن صاحب "الموناليزا" كان عبقرية في كل ما يلامسه أو يحاول أن يعبر من خلاله. ولكن يبدو أن انغماسنا في ما كتبه فازاري عن ليوناردو بكل إعجاب كان يمنعنا من التنبه إلى شيء مما يأتي في سياق حديث المؤرخ عن المعلم وهو ما لا بد من الدنو منه هنا.
رجل الظل الواعي
وما يحاول فازاري أن يخبرنا به في كتابه العمدة عن سير وتاريخ فناني النهضة وعمرانييها بسيط ومفهوم وقد يبدو طبيعياً بالنسبة إلى القراء الذين يصعب عليهم إدراك المكانة الحقيقية لدا فنشي في تاريخ الفنون النهضوية. وهو بكل بساطة أن ثمة شخصاً يمكن اعتباره المسؤول الأول عن إيصال نصوص دا فنشي النظرية إلينا إذ لولا ذلك الشخص كان يمكن لتلك النصوص أن تضيع إلى الأبد. والحكاية هنا بسيطة للغاية في نهاية المطاف، لكن مشكلتها تكمن في أننا نعرف دائماً أن من الصعب على أي عبقري على مر التاريخ أن يشتغل وحده من دون أن يكون ثمة من يعاونه جامعاً أوراقه بدلاً من أن تضيع، وذلك ببساطة لأن عبقرياً من طينة ذلك الفنان المعلم الكبير، حين يكون منصرفاً إلى تدوين ما يخطر له من أفكار وتعديلات على أفكار وما إلى ذلك، ما كان من شأنه أبداً أن يهتم بجمع تلك المدونات وتصحيحها، لغوياً خاصة، لحفظها برسم الخلود الذي تستحقه. ولقد كان في حياة ليوناردو، بحسب فازاري وغيره من مؤرخي الفنون النهضوية، ذلك الشخص الذي كان له الفضل في جمع تراثه وحفظه حتى وصل إلينا كجزء لا يتجزأ من تاريخ ذلك الفنان الكبير.
رفقة عمر وأكثر
وذلك الشخص كان بالتحديد فرانشيسكو ميلزي (1490 ـ 1570) الرجل الذي عاش في ظل الفنان الكبير وانصرف طوال معظم سنوات حياته إلى جمع تراث دا فنشي منقحاً أنيقاً مدوناً بلغة قد يكون من شأنها أن تبرز رسامنا الكبير ككاتب من طراز رفيع، بيد أن ذلك لم يكن كل ما فعله ذلك الشاب المجتهد في حياة وإبداع دا فنشي كما سنرى. ففي النهاية كان ميلزي ذلك الشخص الذي يدين تاريخ الفن، وتاريخ دا فنشي له بالكثير. ولم يكن فازاري الوحيد الذي يخبرنا بذلك، تماماً كما أن ميلي لم يكتف بأن يحفظ لنا أوراق الفنان منسقة مرتبة مكتوبة بلغة شديدة الأناقة والرقي. وهو ما سنكتشفه في ما تبقى من سطور هذا النص الذي نحاول فيه البعد من إجحاف طاول ميلزي وسيرته وجعله يعيش في ظل المعلم طوال مئات السنين. وهو أمر كان فازاري أول من استنكره حين أفرد في كتابه عن "تاريخ فناني النهضة وعمرانييها ونحاتيها" صفحات عديدة تحدث فيها عن ميلزي وعن دوره في حياة دا فنشي وإبداعه. وهي بالطبع الصفحات التي استندنا إليها لكتابة هذا النص.
حياة لخدمة معلم كبير
في الحقيقة أن ليس ثمة في صغر ميلزي أو في سيرة عائلته ما يجعلنا نتوقع منذ البداية أن يكون لذلك الفتى ذلك الدور الذي سيلعبه في حياة المعلم وفنه أو في تاريخ الفن بصورة عامة. فهو من أسرة لا يعدو ربها أن يكون نقيباً في جيش ميلانو. لكن ذلك لم يمنع ابنه الفتي من الشعور بميل إلى الفن لم يكن معهوداً لدى أبناء العسكريين. وهكذا انصرف منذ كان في الـ16 من عمره إلى الانخراط في تدرب فني لدى محترف كان ليوناردو قد أقامه في ميلانو. ويصفه فازاري لنا بأنه كان "مراهقاً وسيماً استلطفه المعلم استلطافاً كبيراً". لقد شعر الفنان منذ التقى الفتى، أنه بات قادراً للمرة الأولى على الاتكال على مساعد ذكي مشبع بأفكار إنسانية لا تضاهى. ولقد كان لافتاً لدى الفتى إتقان الإغريقية واللاتينية، كما كان لافتاً جمال كتابته وأناقة حروفه، ومن هنا وجد الفنان نفسه أمام مساعد من نوع نادر فراح يسند إليه مهام شديدة التنوع والصعوبات كان الفتى يؤديها بحماس صادق ولا سيما بعدما جعل منه المعلم نوعاً من سكرتير شخصي له.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مهام صعبة ودقيقة
والحقيقة أن فرانشيسكو لم يعرف التردد أمام أي من المهام التي يكلفه المعلم بها، بل صار هو نفسه يلفت نظر هذا الأخير إلى أمور كان المعلم ينساها أو يهملها، ولا سيما في مجال العلاقة مع "العالم الخارجي" كما يقول لنا فازاري. أما الفتى فإنه بات لا ينتظر أمراً من المعلم حتى ينصرف إلى جمع كل ما كان ليوناردو يخلفه وراءه من أوراق وملاحظات يوزعها على قصاصات ورقية صغيرة يجمعها الفتى ويلائم بينها. ولعلنا لسنا في حاجة هنا إلى التأكيد أن تلك القصاصات ستكون هي الأساس الذي سيبني عليه ميلزي كتابات ليوناردو حول الفن والأساس الذي يضم مئات الرسوم والتخطيطات التي خطها الفنان الكبير والمتصلة بمشاريع ضخمة ولا سيما في مضمار شق قنوات الماء في السهول الإيطالية وبناء القلاع والحصون. والحقيقة أنه على رغم رغبات ميلي الفنية التي لا يمكن التغاضي عنها فإن الفتى اهتم أكثر ما اهتم بأوراق المعلم التي سيحولها، ولا سيما بعد رحيل هذا الأخير إلى تلك النصوص البديعة التي تجعل من ليوناردو باحثاً في شؤون الفن والعمران والاختراعات، منظراً لها بقدر ما هو رسام كبير.
في رحاب الفن
ومع ذلك لم ينس ميلي هيامه الخاص بالرسم وذلك تحت سمع المعلم وبصره. ولقد كان التاريخ منصفاً في حقه على رغم تنقله المتواصل في رفقة معلمه، إذ رافقه إلى روما ثم إلى فرنسا خلال السنوات الأخيرة من حياة ليوناردو حين حل ضيفاً على الملك الفرنسي، في زمن انصرف فيه إلى تجميع كل ما كان قد احتفظ به من أوراق المعلم تمهيداً لتحويلها إلى كتب، ولقد احتفظ التاريخ بعدد لا بأس به من نصوص وتخطيطات ولوحات لم يكن من الصعب أن تنسب إليه ومن بينها تخطيط بالحبر الأحمر لبورتريه لدافنشي رسمه ميلي وهو معلق اليوم في متحف الأرميتاج في سانت بطرسبورغ الروسية. ونعرف هنا بالطبع أن ميلي قد صرف أولى سنوات شبابه بعد رحيل معلمه لحصر إرثه الفني حصراً علمياً، لكن ذلك لم يمنعه من ناحية، من متابعة مساره الفني الخاص ولا سيما في مضمار نسخ عديد من لوحات دا فنشي، ومن ناحية ثانية من الاشتغال على الصياغة النهائية لكتاب "دراسة في الرسم" المعتبر بتوقيع ليوناردو واحداً من أهم الكتب الدراسية في الرسم التي صدرت خلال عصر النهضة وذلك من دون أن ندري ـ لولا فازاري ـ أن تلك اللغة الجميلة التي صيغ بها الكتاب إنما هي لغة... فرانشسكو ميلزي!