ملخص
"زحفت مئات الجمعيات الأوروبية والأميركية بعد 2010 لتعويض الدولة في مجال تعديل الإعلام وخدمة الديمقراطية الناشئة، واليوم يتردد أن البرنامج الأوروبي لدعم الإعلام التونسي غير راض عما حققه، وقد يكون قد قرر وقف كل برامجه وتمويلاته في حركة تشبه وقفة لتقييم ما أنجزه منذ استفراده من دون الرجوع إلى الدولة بسياسة تكوين الصحافيين وتدريبهم".
تعتزم جمعيات ومنظمات حقوقية عدة مغادرة تونس بعد تضييقات عليها خلال الفترة الأخيرة حول نشاطها ومصادر تمويلها، بعدما فتحت السلطات التحقيق في شبهات تبييض أموال وتلقيها من جهات أجنبية للتأثير في الشأن الداخلي التونسي.
وفيما يرى البعض أنها جهات مشبوهة تستغل صفتها الحقوقية لغايات استخباراتية. يذهب آخرون إلى أن هذه المساءلة نوع من أنواع التضييق على الحريات بالبلاد.
جمعيات تعوض الدولة
يقول أستاذ الإعلام في الجامعة التونسية الدكتور صلاح الدين الدريدي إن "عديداً من هذه المنظمات قد يكون بالفعل شرع في المغادرة، لأن المرحلة السابقة ساعدتها على الانتشار في غياب الدولة ومن دون متابعة، وهو ما يفسر انحسارها".
يضيف الدريدي في تصريح خاص "أتابع نشاط هذه الجمعيات في مجال الإعلام، ففي 2010 زحفت مئات الجمعيات الأوروبية والأميركية لتعويض الدولة في مجال تعديل الإعلام وخدمة الديمقراطية الناشئة، واليوم يتردد أن البرنامج الأوروبي لدعم الإعلام التونسي غير راض عما حققه، وقد يكون قرر وقف كل برامجه وتمويلاته في حركة تشبه وقفة لتقييم ما أنجزه منذ استفراده من دون الرجوع إلى الدولة بسياسة تكوين الصحافيين وتدريبهم"، يواصل "في الحقيقة يصعب أن يكون تقييمنا لهذا البرنامج إيجابياً ما دام المشهد الإعلامي لم يتطور بل يزداد سوءاً، وما دامت الممارسات الإعلامية والاتصالية لم ترتق إلى مستوى تطلعات الجمهور إلى إعلام محترف يراعي الرأي والرأي الآخر".
يتابع أستاذ الإعلام "الهيئة العليا لتعديل الإعلام السمعي البصري، ولم تكن الدولة طرفاً فيها ولا مشاركاً في برامجها، تمثل إحدى باكورات البرنامج الأوروبي لدعم الإعلام التونسي وقد جمدتها منذ مدة"، وأشار إلى أن "هذه الهيئة كان لها مسؤولية كبيرة في ما آلت إليه المنظومة الإعلامية بخاصة خلال العشرية السياسية الماضية"، يتابع "حتى معهد الصحافة الحكومي الذي كان الأمل معقوداً عليه للمساهمة في الارتقاء بالمشهد الإعلامي أصبح دكاناً خلفياً لمنظمات وجمعيات عدة ممولة أجنبياً، إلى حد أن مواد تعليمية عدة أصبحت تعتمد أدبيات هذه المنظمة، من ذلك مثلاً الصحافة الاستقصائية ومساهمة الدولة في صنع السياسات العامة في مجال الإعلام".
ووفق الدريدي "أيضاً الجمعيات التي تم بعثها في سياق الإعلام البديل والإذاعات الجمعياتية، وكلها تمولها شبكة ممتدة من الجمعيات الأجنبية، لا يمكن أن تكون حصيلتها إيجابية بالنظر إلى فساد المنظومة الإعلامية مهنياً وتحريرياً، وبالنظر إلى الانفصام الحاصل بين الدولة والمنظمات الأجنبية وغياب سياسة تشاركية حقيقية تحدد الأهداف السيادية للإعلام وتضبط طريقة تمويلها وتقييم حصيلتها".
أخطار سلب الحرية
في المقابل، كتبت الصحافية خولة بوكريم تدوينة جاء فيها "سنة 2014 منظمات حقوقية غادرت القاهرة واتخذت من تونس مقراً لها، لأن فيها احتراماً لحق التنظيم وممارسة العمل الجمعياتي من دون تضييق أمني ولا عسكري، ولا رقابة لصيقة على مسيريها، والتزمت هذه المنظمات احترام القوانين الجاري بها العمل في بلادنا".
وأضافت في تغريدتها على منصة "إكس"، "نفس المنظمات ستغادر تونس نهائياً وستغلق مقارها، بسبب الأخطار المتمثلة في سلب الحرية لمسيريها وتجميد النشاط، وهي أخطار تتعاظم يوماً بعد يوم لدرجة استحالت معها مزاولة النشاط".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السيادة الوطنية
فيما يقول الصحافي محمد اليوسفي "في تقديري تغير خريطة عمل وأنشطة بعض المنظمات الدولية انطلق بعد الثورة، كانت هناك طفرة على مستوى اهتمام هذه المنظمات بالتجربة التونسية بفعل مناخ الحرية ومسار الانتقال الديمقراطي الذي كان محفزاً"، يضيف "اليوم بعض المنظمات نقلت أنشطتها الإقليمية إلى دول أخرى مثل الأردن والمغرب على وجه الخصوص، وهذا بفعل التطورات السياسية بالبلاد، وأيضاً في ظل ما يعده البعض تنامي التضييقات على المجتمع المدني تحت لافتة الدفاع عن السيادة الوطنية"، يواصل "في كل الحالات الخاسر الأكبر ستكون البلاد، التي هي في أمس الحاجة إلى التعاون الدولي، لأن عمل هذه المنظمات يوفر موارد من العملة الصعبة للدولة، فضلاً عن توفير فرص عمل، لا سيما في صفوف الشباب من أصحاب الشهادات العليا (نحو 40 ألف فرصة عمل وفق دراسة لمركز الكواكبي)، كما أنه يمكن أن يكون لهذا النشاط أدوار تنموية واقتصادية واجتماعية، إذ انتفع عديد من الفئات الهشة والجهات المحرومة من برامج هذه المنظمات خلال السنوات الماضية".
يستدرك اليوسفي "بإمكان الدولة لعب دورها الرقابي في هذا المجال لمكافحة الفساد إن وجد، وأيضاً لكي يتم تجنب أي انحرافات بالعمل المدني، فالمرسوم 88 لسنة 2011 المنظم لعمل الجمعيات في تونس حالياً وغيره من التشريعات يسمحان لـ17 هيكلاً عمومياً بهذا الدور الرقابي حالياً"، ويرى أن "الجدل الحاصل وحملات الشيطنة والتخوين لعبت دوراً غير محفز في عدم مواصلة عمل بعض المنظمات التي تقول إنها تخشى حالة الضبابية التشريعية، في ظل إمكانية وضع قانون جديد يضيق العمل المدني بصورة غير ديمقراطية"، يتابع "البعض الآخر قلص في موازنة دعم البرامج والأنشطة المخصصة للتعاون مع تونس سواء كدولة أو كمجتمع مدني وهذا طبعاً ستكون له تداعيات غير إيجابية".
ويذهب اليوسفي إلى أنه "يجب اتخاذ قرار سياسي واضح في هذا المضمار بطريقة ذكية من جهة تستفيد البلاد كدولة ومجتمع في الآن ذاته، ومن أخرى يكون هناك احترام للقانون بطريقة تمنع أي تجاوزات، لأن حالة الضبابية ستقلص من فرص الحفاظ على تونس كمنصة إقليمية للتعاون والشراكة وفق قاعدة المصلحة الوطنية وحاجة البلاد إلى مصادر تمويل إضافية من الخارج بما ينسجم أيضاً مع المواثيق الدولية".
يذكر أن مشروع قانون قيد المناقشة بالبرلمان لتعديل قانون الجمعيات في تونس، وقد ينهي نسبياً دور هذه المنظمات الأجنبية بالبلاد، بخاصة في مجالات محددة لها علاقة بسيادة الدولة.