ملخص
كتاب المؤرخ الإنجليزي آدم توز يحمل عنوان "ثمن الدمار" لكنه يتناول يتناول شأناً ندر أن دنا منه الباحثون، أي الوضع الاقتصادي كاشفا من خلاله الدوافع الحقيقية لخوض النازيين الحرب العالمية الثانية
منذ البداية يمكننا كما فعل الناقد الفرنسي دانيال فينييرون، أن ندرك أن العيب الوحيد الذي تحمله الصفحات التي تربو على 800 صفحة والتي يتألف منها كتاب المؤرخ الإنجليزي آدم توز الصادر حديثاً حول التاريخ الاقتصادي لسنوات الحكم النازي، العيب الوحيد إذاً هو في عنوان الكتاب الذي من الصعب القول إنه يعكس موضوعه بالفعل، أو حتى يدانيه أهمية. فعنوان الكتاب هو "ثمن الدمار" وهو في الحقيقة أبعد ما يكون عن المضمون الحقيقي للكتاب. فالكتاب إنما هو عمل عن النازية لكنه يتناول موضوعاً سيبدو عند قراءة الكتاب مستغرباً إلى حد ما، لأنه يتناول شأناً ندر أن دنا منه الباحثون، إذ يتناول الوضع الاقتصادي كما ساد أيام الحكم النازي في صياغة علمية ستبدو للتاريخ غريبة للوهلة الأولى، وذلك بالتحديد لأنه قادر على الدفع في اتجاه إعادة نظر بالغة الخطورة في الخلفيات الحقيقية للحرب العالمية الثانية، مضفياً قدراً لا بأس به من "عادية" على الدوافع الحقيقية لخوض النازيين تلك الحرب. والحال أننا قبل التوغل في ما يقوله الكتاب في محصلته، قد يكون من المفيد أن نطرح مسألتين تتعلقان بالكتاب لا بد من طرحهما هنا.
خلفيات واستنتاجات
أولى المسألتين هي تلك التي تكمن في ما اعتاد التاريخ أن يؤكده من حول النازية وتوابعها بصورة توضح الدوافع التي كان لا بد لها من أن توصل أوروبا ومن بعدها العالم بأسره إلى أتون تلك الحرب، ودائماً ما عدت مجرد دوافع أيديولوجية لا تمت بصلة إلى الشؤون التي عادة ما تتسبب في الحروب أو في الأقل في ارتباك العلاقات بين الدول. غير أن هذا الكتاب ومنذ منطلقاته جعل للحرب خلفيات أخرى تكاد تشبه إلى حد كبير تلك التي تشن الحرب بسببها بين الدول العادية، أي إنها أولاً وأخيراً دوافع اقتصادية، ليست الأيديولوجيا كلية الحضور فيها. وهو ما كان من شأنه أن يضفي على النازية تلك الخصوصية اللاعقلانية التي تجعل هتلر وتصرفاته العدوانية حالة خاصة في التاريخ تفسر عدوانيته وعدوانية سلوكه بصورة راسخة، ومن هنا يأتي هذا الكتاب ليقول لنا: أبداً! إن الحرب التي شنها هتلر على ما جاوره من أمم وكانت نتيجتها دمار العالم والقضاء على عشرات الملايين وخراب مناطق عديدة، لم تكن مجرد حرب أيديولوجية وحسب، ومهما كان ذلك كله يبدو غريباً ولا إنسانياً فإنه ينتمي إلى أنساق من التصرف والفعل يشبه كل الحروب الجديرة باسمها هذا ولا ينبغي لنا استغرابها. والحقيقة أن هذا الجانب من الاستنتاج في الكتاب أثار استياء كثر من المعلقين متهمينه بأنه إذ يضفي عادية ما على الفعل النازي إنما يحاول تحويله إلى فعل له منطقه المعتاد في سيرورة الحروب مهما بلغ من مستوى عدوانيتها. مما يعني بالطبع أن المسألة النازية لا تعود مرتبطة بتفسير يقف خارج البعد الإنساني ليضحى النازيون مقاتلين عاديين مثل كل أشباههم من المعتدين على مر التاريخ من الذين همهم تحقيق مكاسب اقتصادية تقوم على الغزو الجغرافي للأراضي في بلدان أخرى لأهداف اقتصادية أي تتعلق ببقاء النوع وتوسيع المجال الحيوي. بعدما كانت تعد ناتجة من هم أيديولوجي يخرج عن نطاق العادية البشرية، ما من شأنه أن ينسف الأساطير التي بنيت من حول النازية بوصفها ممارسة تكاد تكون شكلاً من أشكال أكل لحوم البشر.
العادية المقلقة
ومن هنا تلك السجالات الحادة، وفي الأقل في الأوساط التاريخية الفرنسية التي وجدت نفسها تميل إلى اعتبار الكتاب، ولو من طرف خفي، محاولة في "تبرئة" النازية بتحويلها من ممارسة جنونية استثنائية عبرت التاريخ محملة بشتى أنواع اللعنات، إلى ممارسة تنتمي إلى تلك العادية المطلقة فتضحى عابرة كغيرها في مجرى التاريخ، وهو كما يمكننا أن نفترض ما يرفضه كثر من المؤرخين الذين عاشوا وعاشت أيديولوجياتهم، عالة على تلك الاستثنائية منذ ما يقارب القرن من الزمن. فكيف بنيت النظرية الجديدة؟ بكل بساطة بنيت عبر التعامل مع السياسات التي اتبعها النازيون تعاملاً عقلانياً يفترض أن الاقتصاد هو الفعل الذي يكمن في خلفية الممارسات النازية لا الجنون الإجرامي، وذلك في الانطلاق من فرضية تحيل الأمر برمته إلى الحاجات الاقتصادية لدولة انهار اقتصادها بفعل المغامرة الرهيبة التي كانتها الحرب العالمية الأولى، وانهارت معنويات أبنائها بفعل الذل الذي نتج من مؤتمر فرساي، فكان لا بد لها من سلوك منطق الدفاع عن النفس، كما يجدر بأي شعب أصيب بمثل تلك الكارثة أن يفعل. ويكون من البديهي بالتالي لشعب تلك الأمة أن ينطلق لإعادة بناء اقتصادية بعدما انهارت عملته وبات سياسيوه التقليديون عاجزين عن إنقاذ الشعب مما حل به. هو بالتالي يبدو كحق مشروع في الدفاع عن النفس، مستخدماً كل ما يمكنه استخدامه من وسائل بما في ذلك تحشيد الشعب عبر خلق تلك الأساطير الخرافية، وعلى رأسها التوجه القومي الذي نعرف أن الألمان، الجرمانيين بخاصة، قد برعوا في الاستعانة به وغالباً بفضل الفنون المتنوعة، وما إلى ذلك من أبعاد تحلقت من حول خلق الأيديولوجية النازية التي يفترض الكتاب الذي نحن في صدده أنها لم تكن سوى وسيلة لتمرير الحقائق الاقتصادية التي تعجز عادة بمفردها عن ممارسة ذلك التحشيد، وهنا في رأي آدم توز مؤلف هذا الكتاب المفاجئ، تكمن النقطة المركزية التي تجعل الأيديولوجيا النازية وسيلة لغاية أكثر عادية بدلاً من أن تعد غاية في حد ذاتها كما اعتاد الأمر أن يكون. فكيف توصل هذا الكتاب إلى محاولة فرض نظرته الجديدة هذه؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عودة إلى جذور ما
توصل عبر عودته إلى تلك السنوات الأولى التي لعبت الدور الأساس في "المصالحة" بين الشعب الألماني والنازية عند فجر العقد الثلاثيني من القرن الـ20، إذ أنتجت شروط عيش الألمان توقعات جعلت استراتيجية هتلر تبدو وكأنها تحل في الوقت المناسب لترضي الشعب وتوجهه في الطريق التي مكنت ألمانيا من أن تربح الحرب العالمية الثانية في بداية الأمر، ثم في نهاية الأمر وبخاصة تجعل حتى ما سمي بالحل النهائي يصاغ وفقاً للمصالح الاقتصادية الحيوية لألمانيا مختلطة بما اعتبر حينها نوعاً من التوبة من طريق المجزرة: أول الأمر عبر ممارسة ما سمي إبادة اليهود والملايين في أوروبا الشرقية بغية إخلاء المكان للعرق الآري في نقاء مدهش. ثم، وبعد فسحة زمنية قصيرة، التوجه نحو لعبة استثناءات تستجيب للحاجة لليد العاملة في صناعات الأسلحة. وهو أمر استدعى هذه المرة الحفاظ على السلافيين كما على أعداد ولو محدودة من يهود نظر إليهم هذه المرة باعتبارهم قادرين على الإنتاج قبل أن تستعاد من جديد تلك السياسة التي راحت تطاول الفئات العرقية نفسها وعدداً كبيراً من أسرى المعسكرات، لمجرد أن السجانين باتوا غير قادرين على تغذيتهم ولو في الحدود الدنيا كما يقول الكتاب في بعض استنتاجات بالغة الأهمية.
في هذا الإطار يهتم المؤرخ توز أكثر ما يهتم بالبرهنة على أن هتلر إنما سعى بين العامين 1933 و1945 للتصرف تبعاً للظروف التي تفرض نفسها عليه. ولكن، وكما يؤكد توز، من دون أن يغيب عن ناظريه الهدف الأساس والجيواستراتيجي الذي وضعه لحراكه من الأساس، وفحواه دفع حدود بلاده نحو 1000 كيلومتر إلى الشرق - حتى لو تراكمت المجازر في سبيل ذلك - بمعنى أنه قد عمل على دفع الحدود الجرمانية ليوفر لألمانيا الحيز الحيوي في مجالي الطاقة والأراضي الزراعية، ما من شأنه أن يمكنه من تكوين أمة قادرة على التصدي للحضارة الأميركية. مهما يكن فإن اللافت حقاً في الكتاب هو الكيفية التي يختتمه بها مؤلفه بقوله، حسناً... لقد حل السلام بعد تلك الحرب من جديد وها هي ألمانيا موجودة دائماً... فما الذي يمكن أن تكونه السياسة الأوروبية خارج إطار المنازعات الكبرى المتعلقة بالوفرة التي باتت لا ترضي أحداً؟ ويبدو أن الكاتب لا يزال في انتظار من يجيبه عن سؤاله... الغامض!