ملخص
تجربة جديدة ومغايرة يخوضها المسرحي التونسي طاهر العجرودي عبر استقدام أربعة أسماء من خارج الوسط الفني لأداء أربعة أدوار مركبة وعميقة، في نحو من التحدي. وراهن على أربع نساء لأداء مهمة فنية بالغة الصعوبة تحمل الأولى دكتوراه في الرياضيات والثانية دكتوراه في علم النفس والثالثة طبيبة أسنان، بينما الرابعة أستاذة في المعهد العالي للفنون التشكيلية. غير أنهن فاجأن الجمهور بمستوى التمكن من التجسيد والأداء بكثير من الانسياب ودون الوقوع في التكلف.
لا تقف المسرحية التونسية "تواتر" لمخرجها طاهر العجرودي عند وضع المرأة في المجتمع الذكوري وهي تيمة أثيرة لدى المسرحيين العرب، بل تتعداها إلى رصد العلاقة بين المرأة والمرأة من جهة وعلاقة المرأة بنفسها من جهة أخرى. ويتأتى ذلك عبر رصد مجموعة من التحولات النفسية على الخشبة لأربع نساء يجمعهن مكان واحد بينما تفرقهن انشغالاتهن ومرجعياتهن الثقافية، إذ يساهم إيقاع الحركة ودرجة الصوت في تصريف مشاعر متداخلة، ما بين انكسار وإحباط وتوهج وإشراق. قامت بأداء الأدوار الأربعة فريال ساسي وسميرة بوقديدة ونادية محمود وريم قريعة، وأشرف على السينوغرافيا والإضاءة رضوان العجرودي وقام بالتوضيب العام عماد بن عمارة.
من عالم صموئيل بيكيت تنطلق المسرحية الجديدة التي تقدمها "جمعية المتوسط للفنون والسياحة الثقافية" بدعم من "المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية" في ولاية بنابل التونسية، والتي عرضت في مدينتي الدار البيضاء والجديدة في المغرب. فهي اقتباس حر عن مسرحية "ماذا أين؟" لرائد العبث في إيرلندا والعالم، التي عرضت للمرة الأولى على خشبة مسرح هارولد كلرمان في نيويورك خلال شتاء 1983.
لا تقف امرأة العجرودي مؤلف ومخرج مسرحية "تواتر" في مواجهة الرجل ولا تعكس بالضرورة هذا الصراع الاجتماعي والفكري التقليدي. بل تحاول أن تسائل الصورة الوجودية للمرأة وتحرضها على الانعتاق ليس من الرجل بل من نفسها أولاً، ومن كل ما يحد رغبتها في أن تكون فاعلة ومؤثرة في هذا الوجود. إنها تعيدنا إلى ما قالته سيمون دو بوفوار خلال وقت سابق "الفكرة ليست أن تأخذ المرأة السلطة من يد الرجل، فهذا لن يغير شيئاً في العالم. الفكرة تحديداً هي تدمير فكرة السلطة".
ضد الخوف والصمت
ثلاث نساء كما لو أنهن ضائعات في محطة سككية ينتظرن قطار العاشرة ليلاً، لكنهن ينتظرن قطاراً آخر يبدو أنه تأخر أكثر من اللازم هو قطار الأحلام والأماني، قطار كل الأشياء المؤجلة التي يغيبها الحاضر بتواطؤ مع ما راكمه الماضي.
تبدو الجملة الأولى في المسرحية حاسمة وصارمة وتفتح في الآن ذاته مساحة هائلة للأسئلة "مازلنا هنا؟" تقول ليلى الهاربة من بيت العائلة بحقيبة على الظهر وحذاء عسكري في قدميها. ثم تضيف "ما مشيناش ما بعدناش ما طلعناش ما هبطناش ما قدمناش ما وخرناش". تحاول ليلى وصديقتاها نرجس وآمال تجاوز الإحساس بالعجز والانعتاق من الركود. وفي عز الانتقالات الحوارية بينهن تقاطعهن ليلى بهذه الجملة المعبرة عن ضرورة القطع مع حال الخوف من الظلام المحدق بهن "لازمني نشعل الضو". تتكرر هذه الجملة في العرض المسرحي بما هي تحريض على النور نكاية بكل صور الجهل والظلم والانحطاط. لكن من حين إلى آخر تتبدى الجملة الأولى "مازلنا هنا" في إشارة إلى حجم العوائق والإكراهات التي تقف في طريق الانعتاق والتحرر.
وتبدو تيمة الخوف مهيمنة على الشخصيات فهي تقريباً العامل المشترك بينهن الأكثر تجذراً، وهو خوف أفقي مقبل من المحيط الراهن الذي يعشن فيه، وخوف عمودي أيضاً راكمه الإرث الثقافي والاجتماعي قادم من الماضي. لذلك تتفقد إحدى الشخصيات الأخرى من حين إلى آخر في سياق من التماسك والمؤازرة من أجل تبديد هذا الخوف المشترك، وحين تطرح نرجس سؤالاً عن هويتهن تجيبها آمال بسخرية "احنا النائمات الجميلات" في إحالة على رواية الياباني ياسوناري كاواباتا وفي إشارة إلى الحضور السلبي للمرأة في المجتمع على هيئة جسد مخدر.
كيف تهرب امرأة من الدفء العائلي؟ تتساءل نرجس وهي ترصد حال ليلى. لكن المسرحية لا تقدم إجابات بل تترك هذه المهمة للمتلقي، الذي عليه أن ينقل الأسئلة من الخشبة إلى المجتمع باحثاً عن العوامل والضغوط التي تجعل المرأة تهرب من بيتها ومن نفسها أيضاً.
تطرح المسرحية أيضاً تيمة الصمت القسري الذي تفرضه رقابة مزدوجة خارجية وداخلية إزاء الموضوعات التي يتماس فيها الفرد مع الجماعة. وهذا الصمت الإجباري تسميه المسرحية "خياطة الفم". وتقول نرجس "نخيط فمي أي وفمك وفمها هي زادة"، تتحدث عن ثلاث نساء لأن الرابعة أصلاً صامتة. وبعد هذه الجملة يعم الصمت على الخشبة وتقف ليلى محاولة أن تنطق بكلمة ما فتمنعها نرجس، كما لو أن الرقابة لم يعد يمارسها المتسلط في المنظومة السياسية والثقافية، بل يمارسها أفراد المجتمع على بعضهم.
بين الرمزية والشعر
عبر مونولوغات متداخلة على هيئة تداعيات تقطع في الغالب مع الحوارات المباشرة والخطية، ترصد شخصيات "تواتر" تقلبات المرأة وشعورها المضاعف بالضياع ورغبتها في تجاوز منطقة الأسلاك الشائكة لتصبح "حرة في بلاد نص حرة".
وتنهل مسرحية "تواتر" من الرمزية بصورة كبيرة، فهي تومئ إلى الدلالة أكثر مما تقولها بصورة صريحة وتعتمد في كثير من لحظاتها الخطاب الشعري الذي يتناغم بمجازاته واستعاراته مع هذا الجنوح الرمزي. ويمكن التوقف من باب التمثيل على مونولوغ آمال الذي يوزع عوامل عدة نفسية واجتماعية إلى حروف ليصل في نهاية البناء الدرامي إلى هذه العبارة "في بالك كل ليلة نصور حرف/ نكبرو ونعاودو في سري/ يكبر أكا الحرف/ يعمل ظل طويل/ صمت صغير/ ما عادش حرف/ يولي وحش".
سيدفع الميل إلى الشعر الطاهر العجرودي إلى إدخال نص مطول للشاعر قاسم حداد بصوته في المشهد الختامي، الذي ينتهي عقب نهاية القصيدة بحال من الابتهاج لدى شخصيات المسرحية ترجمتها الموسيقى المرحة التي صاحبت حركتهن الخفيفة على المسرح وهن يتقارعن الأنخاب احتفاء بنصر ما، لعله النصر الذي صاغه الشاعر البحريني في قصيدته "صباح كثيف يحرر أحلامنا/ صباح أكثر حرية من الشمس".
المسرح السحري
تحضر السوريالية في العرض عبر تحول المرأة العجوز التي كانت تحرس ليل محطة القطار، إلى طفلة. لكن هذا الحضور لا يتخذ طابعاً صورياً فقط ولا يؤدي وظيفة جمالية فحسب، بل يحس المتلقي أن العمل المسرحي يريد أن يعيد الشخصية التي هدها الزمن إلى نضارتها الأولى، بالتالي ثمة نداء إلى عودة الإنسان إلى براءته ودهشته الأولى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تخرج المرأة العجوز من شحوبها وحضورها الصامت في خلفية الأداء المسرحي، وانهماكها العبثي في جمع عبوات البلاستيك، لتتجلى في صورة أخرى متوهجة ومشرقة. وثمة ما يشبه الانبعاث الفجائي الذي لم يكن يتوقعه المتلقي والذي كان يتساءل في الغالب عن وظيفة هذه المرأة على الخشبة، وربما كان ينتظر أن يسمع صوتها في آخر العرض، غير أن خروجها المباغت من الشيخوخة ومن التواري وحضورها في هيئة مختلفة بفستان ملائكي أبيض كان أبلغ من كل كلمة يتوقعها الجمهور. ومن ثم كانت هذه اللحظة المكثفة ترجمة للوظيفة التي خطها لها مؤلف النص المسرحي ومخرجه.
لقد مرر العجرودي هذه الرسالة وغيرها في قالب سحري، وجعل من هذا المشهد العجائبي لحظة حاسمة مهدت لنهاية المسرحية على نحو جعل المتلقي يدرك أن الانطلاقة العبثية للأداء لم تكن إلا تمهيداً لما يقف في مواجهة هذه العبثية. بمعنى أنه انطلق من مسرح العبث لا ليصل إليه بل ليتوجه بالجمهور تدريجاً إلى عالم المعقول. فهذه الفوضى النفسية والاجتماعية التي نعيشها اليوم هي في حاجة إلى عوامل فكرية وثقافية تعيد ترتيبها. وهذه الإشارات هي واحدة من وظائف الفنان الذي يراهن على الانتماء إلى عصره.