Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا يغيب العالم العربي عن خريطة الرواية البوليسية العالمية؟

صحيفة فرنسية تنشر عدداً عالمياً شاملاً لا يرد فيه اسم كاتب عربي

الفن البوليسي (دار غاليمار)

ملخص

يغيب العالم العربي غالباً عن أي موسوعة حول الأدب البوليسي العالمي، بل حتى عن الأعداد الخاصة والملفات التي تعدها مجلات عن هذا الأدب، حتى بات غيابه متوقعاً دائماً. ونشرت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية أخيراً عدداً منفرداً هو بمثابة مجلة شاملة عن الأدب البوليسي، عنوانه في غاية الطرافة "جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية"، وشملت هذه الجولة معظم القارات والبلدان ما خلا العالم العربي: الولايات المتحدة الأميركية (شرق وغرب) وكندا وأميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأدنى وأفريقيا، وبلدان أوروبا كافة الغربية والشرقية والجنوبية... وقدمت المجلة قراءات في أبرز الروايات البوليسية الجديدة وحاوت أسماء عدة بغية تقديم صورة بانورامية عن واقع الأدب البوليسي الراهن والتيارات الجديدة التي تروج الآن والتي بلغت ذروة التحديث والتجديد والتخطي. ولم يرد في المجلة اسم روائي عربي واحد.

لماذا لم تعرف الحركة الروائية العربية الأدب البوليسي كنوع مستقل بذاته؟ وهل تكفي بعض الملامح البوليسية في بضع روايات عربية لتصنع معالم أدب بوليسي عربي؟

قد يكون من السهل طرح الأسئلة عن غياب الأدب البوليسي عربياً، ولكن من الصعب إيجاد أجوبة شافية عن هذا الغياب الذي يمكن وصفه بالفادح. فالأدب البوليسي العالمي استطاع خلال نحو قرن ونصف قرن أن يشكل تراثاً هائلاً مرسخاً هذا اللون ضمن الصنيع الروائي والقصصي، على رغم اعتراض بعض النقاد الدائم على "أدبية" النوع البوليسي.

لم يعش العالم العربي حال التململ التي عرفها الغرب إزاء اندلاع الثورة الصناعية والآثار البينة التي تركتها في ما بعد على حضارة العصر الحديث، ولا شهد العالم العربي أيضاً انتشار الطبقة العمالية في المدن ولا الهلع الذي نجم عن هذا الانتشار. أما المجتمع الآلي الحديث الذي جعل الإنسان مغترباً عن ذاته ماضياً وحاضراً، فلم يتجل عربياً كنموذج ثابت بل ظل المجتمع العربي محافظاً على جذوره التي لم تقتلعها تماماً ثورة العصر الحديث. لكن هذا المجتمع العربي عرف كثيراً من التحولات في المراحل الجديدة التي اجتازها وحملت معها أحوالاً من الاغتراب والاقتلاع والانفصام...

وإذا كانت هذه المعطيات هي التي هيأت لولادة الأدب البوليسي في الغرب، فهي لم تؤد عربياً إلى نشوء ما يماثل هذا الأدب. ولكن لا يمكن في هذا السياق إغفال بعض الألوان البوليسية التي تخللت روايات عدة.

معايير مفتوحة

إلا أن النوع البوليسي لم يحظ عالمياً بمواصفات أو معايير يمكنها أن تحدده تحديداً ثابتاً ونهائياً. معظم محاولات التحديد لم تلق النجاح المفترض، وحتى الآن يمكن وصف روايات عدة بالبوليسية من دون أن يكون فيها بوليس أو جثة. الكاتب الأميركي الشهير ادغار ألان بو (1809 - 1849) أحد آباء هذا النوع يصف الأدب البوليسي بـ"اللغز" الذي على القارئ أن يحله بدقة ومنطق كما لو أنه "يحل معضلة حسابية". أما الناقد الأميركي فان داين فعمد خلال عام 1928 إلى وضع "القواعد الـ20 للرواية البوليسية" معتبراً إياها أشبه بـ"لعبة شطرنج" و"تمرين ذهني"، وأولى قواعده تنص على أن "يملك القارئ والتحري حظوظاً متساوية لحل المشكلات". ومثله أيضاً وضع الناقد رونالد كنوكس خلال عام 1928 "الوصايا العشر" التي تقتضيها كتابة رواية بوليسية. وقبلهما أصدر الناقد شيسترتون كتاباً مثيراً في هذا الحقل عنوانه "كيف تكتب رواية بوليسية" (1925). والروائي الأميركي البوليسي الكبير ريمون تشاندلر (1888 - 1959) اعتمد الواقعية البسيطة والحقيقة البسيكولوجية، ساعياً إلى كشف العالم الداخلي للمجرمين أو القتلة.

ويرى بعض النقاد الغربيين أن الرواية البوليسية ولدت مع الكاتب الإغريقي سوفوكل في مسرحيته "أوديب ملكاً"، ففيها يؤدي أوديب دور المحقق في مقتل والده ملك طيبة ويكتشف أن القاتل ليس إلا هو نفسه. ويجد بعض النقاد الفرنسيين أن رواية فولتير الشهيرة "زاديغ" هي من الأعمال البوليسية الأولى، ويرى نقاد آخرون أن الرواية الأولى في هذا الميدان كانت صينية... لكن القراءة الحقيقية لتاريخ الرواية البوليسية تكشف عن أن الرواية هذه نشأت عقب الثورة الصناعية في أوروبا. ويرجح النقاد أن عبارة "رواية بوليسية" ظهرت في فرنسا عام 1890 بينما كان العالم الأنغلوساكسوني يستخدم عبارة "رواية الجريمة" وكان بعض النقاد الأنغلوساكسونيين يستخدمون في مطلع القرن الـ20 عبارة "رواية بوليسية" بالفرنسية. وحينذاك لم تكن انفصلت الرواية هذه عن الأدب الروائي ويكفي ذكر بلزاك وهيغو وألكسندر دوما وقد خلق هؤلاء شخصيات جديدة هي التحري أو المفتش أو البوليس، والبوليس هنا ينتصر عبر ذكائه وليس عبر القوة. وهكذا يرد اسم المفتش جافير (هيغو) وكورونتان (بلزاك) وسالفاتور (ألكسندر دوما). ولا يمكن البتة تجاهل "أسرار باريس" السلسلة الروائية التي وضعها الفرنسي أوجين سو وكانت فاتحة الأدب الشعبي و"السفلي".

أدب متطور

ألا أن الأدب البوليسي لم يلبث أن شهد مزيداً من التطور مثله مثل الحركة الأدبية الحديثة. وهنا لا بد من التوقف أمام الروائي الاسكتلندي كونان دويل (1859 - 1930) الذي ابتدعت مخيلته شخصية شرلوك هولمز البطل الروائي البارز جداً الذي يمثل ميل صاحبه إلى الانتحال وإلى "تصنيف المعطيات"، مما جعل منه "ابناً" للفيلسوف أوغست كانط والعالم داروين. ولعل نجاح رواية دويل وبروز بطله شارلوك هولمز ساهما في ترويج الأدب البوليسي وترسيخه في آن واحد. والمفتش الذي كان دوماً رجلاً حولته الروائية البريطانية الكبيرة أغاثا كريستي (1891 - 1976) امرأة في بضع روايات، لكن أهمية هذه الروائية تكمن في نسجها عالماً فريداً ليست الجريمة قاعدته فحسب بل العلاقات المحبوكة بدقة، بين الشخصيات المتهمة والتي لا تسقط التهمة عنها إلا عندما تحل المسألة. أما الروائي البلجيكي الشهير جورج سيمنون (1903 - 1989) فابتدع شخصية في غاية الطرافة هي المفتش ميغريه الذي يدخن الغليون ويأكل السندويتش ويشرب الجعة. واستطاع جورج سيمنون أن يجعل الأدب البوليسي قادراً على استيعاب المجرم بعيداً من الرسالة الاجتماعية والأخلاقية.

خلال عام 1905 ظهرت شخصية جديدة كان لها أثر عميق في الأدب البوليسي وحظيت برواج هائل، إنها شخصية أرسين لوبين التي ابتدعها الكاتب الفرنسي موريس لوبلان (1864 - 1941) في رواية "أعرف كل شيء". وأرسين لوبين لم يلبث أن أصبح من أشهر الشخصيات عبر المغامرات التي دفعه الكاتب إلى خوضها. ومثلت روايات موريس لوبلان نموذجاً لرواية "جرائمية" بحيث يزول اللغز أمام تطويق المجرم ومحاولته المستميتة للهرب.

الأميركيان داشيل هاميت (1894 - 1961) وريمون تشاندلر (1888 - 1959) من أبرز الروائيين البوليسيين وحاولا تجديد هذا النوع منقطعين عن الأسلوب الأنغلوساكسوني الكلاسيكي وعن الأبعاد الأخلاقية التي كثيراً ما اعترت هذا الأدب. فالشرطة لديهما لا تمثل معنى الخير، والقتلة والمجرمون لا يمثلون بدورهم معنى الشر. هاميت كان هو نفسه تحرياً وأدرك أسرار هذا العالم وأشخاصه وبطله الشهير سام سبايد من الشخصيات المهمة في الأدب البوليسي العالمي. أما ريمون تشاندلر فاختلق بطلاً يدعى مارلو وزرعه في عالم ليلي، عالم لا يستطيع فيه أحد أن يسير بهدوء داخل أحد شوارعه القاتمة لأن القانون والنظام هما حبر على ورق ولا يطبقان بتاتاً. ويصف تشاندلر الرواية البوليسية بالرواية الحديثة التي ننكب على قراءتها ولو كانت بلا نهاية.

ثمة أسماء كثيرة في الحركة الأدبية البوليسية في العالم، يصعب تعدادها وخصوصاً بعد انتشار ظاهرة "الثريلر" و"النيو بولار" التي رافقت نهوض السينما البوليسية وتطورها السريع. وهنا يبرز اسم الفرنسي ليو ماليه الذي أسس لوناً بوليسيا جديداً خالياً من أية قاعدة أو امتثال، مبقياً على علاقة طفيفة مع ألغاز أغاثا كريستي ومنفتحاً على السياسة والجنس وسواهما...

تشويق ومغامرات

تتقاطع الرواية البوليسية التي نشأت خلال القرن الـ19 مع الرواية السوداء المحفوفة بالأفعال الخارقة والرعب والتشويق، ومع رواية المغامرات والرواية المتسلسلة وسائر الروايات لكونها رواية غير أدبية في المعنى الصرف، أي رواية قائمة على تقنية موضوعية تجعلها تستوعب الأفعال عبر عيني مراقب هو داخل الرواية وخارجها. ويقول الناقد تودوروف إن الرواية البوليسية تتماهى مع أدب الجماهير. لكن الرواية البوليسية تبدو انعكاساً مقلوباً للرواية الواقعية، إنها تبدأ من النهاية (الجريمة) وتنتهي في البداية (سبب الجريمة) والشخصية الواقعية الوحيدة فيها هي الميت.

لماذا لم يعرف الأدب العربي الرواية البوليسية في مفهومها التقني والموضوعي؟ هذا السؤال الذي طرح مرات عدة، لا بد من العودة إليه وإن كان الجواب عنه صعباً ومؤجلاً دوماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في عالمنا العربي لم تقم إذاً حتى الآن قائمة لهذا الأدب الذي يسمى وليسيا، على رغم ما تزخر به المدن وضواحي المدن والحارات والأحياء من وقائع وأحداث هي بوليسية تماماً ولا ينقصها سوى أن توثق وتروى، وبخاصة عقب الثورات الأخيرة وما أحدثت من مآس وتركت من قصص غريبة وعجيبة. وقد تحمل خفايا الديكتاتوريات التي تهاوت ما لا يحصى من السرديات الهائلة والمرعبة التي تؤلف مادة بوليسية مهمة. ولئن عمد بعض الروائيين العرب إلى استيحاء "مخلفات" الديكتاتوريات في العراق أو ليبيا وسوريا، فهم لم يكتبوا روايات بوليسية مقدار ما كتبوا أعمالاً روائية صرفة فيها كثير من الجرائم وأعمال التعذيب والترهيب، لكنها لا يمكن أن تدرج في سياق الأدب البوليسي. وأصلاً هذا النوع من الأدب الذي يضم مجرمين وجرائم حاضر في الرواية العربية في مرحلتيها التأسيسية والحديثة، ولا يمكن إحصاء الروائيين الذين كتبوا في هذا الشأن وفي مقدمتهم نجيب محفوظ. غير أن الرواية البوليسية أمر آخر، وآخر تماماً في أحيان.

إلا أن الرواية البوليسية الحديثة وما بعد الحديثة ابتعدت قليلاً أو كثيراً من معايير الرواية البوليسية الرائجة أو المتفق عليها، حتى قيل إن من الممكن أن تكتب رواية بوليسية بلا جثة ولا بوليس. وهذا ما حصل فعلاً مع روائيين بوليسيين جدد أميركيين وفرنسيين وإسبان وسواهم، ومنهم جيمس إلروي وموريس دانتك ومانويل فازكيز مونتالبان وروس توماس... في أعمال هؤلاء وأمثالهم لم تبق الجريمة هي الأساس، لقد تقدمت عليها أمور أخرى مثل الجنس والسياسة والاضطرابات الاجتماعية والبعد النفسي والتحليل... ولعل هؤلاء هم من ورثة روائيين بوليسيين سباقين من أمثال الأميركيين الكبيرين داشيل هاميت وريمون تشاندلر. وأصبحت الرواية البوليسية الراهنة رواية اختبارية حرة ومفتوحة على مصادفات الكتابة، رواية مشرعة الأفق والرؤية وغير مقصورة داخل حدود ومقاييس. بل تمكنت الرواية هذه من أن تلامس قضايا فلسفية ووجودية وميتافيزيقية من غير أن تقع في شرك النظرية. وفي هذا الصدد يقول الناقد الفرنسي فيليب كوركوف صاحب كتاب "رواية بوليسية، فلسفة ونقد اجتماعي"، "تستطيع الرواية البوليسية أن تساعد القارئ على حل السؤال، هل لحياتنا معنى في خواء العالم الحديث؟".

متى يولد في عالمنا العربي أدب بوليسي؟ هل تكون الثورات وما أعقبها من تحولات جسيمة حافزاً على نشوء هذا الأدب غير المألوف لدينا؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة