ملخص
كان فرويد شغوفاً بكل أدب مكتوب، ولا سيما بالرواية والنقد الأدبي والنصوص المسرحية، وقد أولى تلك الأعمال الإبداعية اهتماما لفت أنظار المعلقين وكاتبي سيرة حياته فخلصوا إلى التأكيد أن جزءاً كبيراً من المتن العلمي لفرويد ما كان ليكون لولا ارتكازه في إنتاجه على التوغل في الأعمال الكبرى التي تنتمي إلى تلك الآداب
مرة أخرى لا بد أن نبدأ حديثنا هنا بالتساؤل الذي يبقى بادي الغرابة حول الأسباب التي تبقى غامضة والمتعلقة بكراهية رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد للسينما، فيما حرصت هي من ناحيتها على إحاطته بأكبر قدر ممكن من الاهتمام، على رغم أن السينما والتحليل النفسي قد ولدا في وقت واحد، وبالتحديد عام واحد تقريباً. ففي عام 1895 حين كان فرويد يصدر أول كتاب من كتبه، وهو دراسته حول الهستيريا، كان الأخوان الفرنسيان أوغست ولويس لومير يضعان اللمسات الأخيرة على اختراعهما الجديد الذي قدم في الصالون الهندي بجادة الكابوسين في الدورات الكبرى وسط باريس، إذ تجمع جمهور مدهوش ليشهد محطة القطار وقد دخلتها عربات هذا الأخير متتابعة مثيرة الرعب قبل أن تثير أي شيء آخر، وتحديداً دون أن تثير حتى فضول ذاك الذي كان في عز شبابه في ذلك الحين يثير فضوله كل ما على وجه البسيطة من جديد... إلا السينما! والحقيقة أن نفور فرويد من السينما قد وصل من ناحية إلى رفض مبلغ 100 ألف دولار عرضها عليه لاحقاً المنتج جاك وارنر في مقابل تعاونهما مع استوديوهات هذا الأخير في فيلم سينمائي، ومن ناحية ثانية إلى طرد كل من معاونيه فيليس وأبراهام من فردوسه العلمي لمجرد أن كلاً منهما رضي بخوض التجربة السينمائية.
حظوة الأدب المكتوب
في المقابل إذا كان فرويد شغوفاً بكل أدب مكتوب، ولا سيما بالرواية والنقد الأدبي والنصوص المسرحية، ولئن كان هذا المفكر الذي يكاد يصنف كواحد من فلاسفة بدايات القرن الـ20 قد أولى تلك الأعمال الإبداعية التي تنتمي إلى تلك الأنواع اهتماماًته الفائقة، لفت ذلك الاهتمام أنظار المعلقين وكاتبي سيرة حياته فغاصوا في تحليل خلفيات في كتابات وكتب لا تعد ولا تحصى وصلوا فيها إلى حد التأكيد أن جزءاً كبيراً من المتن العلمي لفرويد ما كان ليكون لولا ارتكازه في إنتاجه على التوغل من ناحيته في الأعمال الكبرى التي تنتمي إلى تلك الآداب. ومهما يكن من أمر، لا بد لنا من أن نشير أول الأمر هنا إلى أن الكاتب الأفضل والأول لسيرة فرويد، إرنست جونز، كان من أوائل الذين لفتوا إلى تلك الحقيقة، تماماً كما كان من أوائل الذين حرصوا على الربط بين تطور المشروع الفرويدي وارتكازه على الاستفادة في الاشتغال انطلاقاً من النصوص الأدبية والمسرحية بقدر ما أنه، وبصورة عملية في الحالتين، انطلاقاً من تجاربه مع مرضاه بمن فيهم زملائه في المهنة نفسها الذين كان من ممارساتهم الرائعة خضوع كل واحد منهم في مستهل ممارسته المهنة لتجارب في التحليل النفسي يجريها عليه واحد من زملائه الأكثر قدماً.
دراسات متكاملة
إذاً، على خطى إرنست جونز، ولكن بصورة أكثر تركيزاً غالباً، تأثرت الكتب، ولا سيما التي دارت حول علاقة فرويد الأدبية وصدرت خلال النصف الثاني من القرن الـ20، علاقة تبين ولعه بتلك النصوص إلى اشتغاله عليها بفعلها جزءاً أساساً من عمله التحليلي، ولعل من أحدث تلك الكتب، ذلك الكتب المعنون "فرويد في صحبة الكتاب" الذي وضعه مؤلفان من أبرز الفرويديين، وهما إدواردو غوميز مانغو وجان-برنارد بونتاليس، والاثنان عضوان في جمعية المحللين النفسيين في فرنسا. ولقد اهتم هذان العالمان بتحليل العلاقات التي أقامها فرويد طوال حياته مع الكتاب سواء كان ذلك عبر قراءة أعمالهم، ومن بين هؤلاء طبعاً شكسبير وغوته ودوستويفسكي وشيلير من بين كبار الكبار، أو أولئك الذين التقى بهم فعلياً في مناسبات ومدن متعددة أو تبادل الخطابات معهم من أمثال شتيفان تزفايغ الذي أضحى واحداً من أقرب أصدقائه إلى نفسه وقلبه وكان يتبسط في الحوار معه بصورة حميمية وودية، أو آرثر شنيتزلر الذي اكتشف فيه وفي أعماله القصصية والروائية خزاناً مدهشاً يحمل ما يبدو تطبيقات على التحليل النفسي – وبالمناسبة قد يكون مفيداً أن نذكر هنا أن المخرج ستانلي كوبريك قد أعاد شنيتزلر إلى الواجهة عند نهاية القرن الـ20 حين أفلم روايته القائمة كلياً على التحليل النفسي ومن منطلقات فرويدية خاصة ما من شأنه أن يدفعنا إلى التساؤل عما كان من شأن فرويد أن يقوله غاضباً لو أنه كان حياً حين ظهر الفيلم. ويمكننا أن نضيف هنا من بين أصدقاء فرويد المقربين كلاً من الكاتب المسرحي هنري إبسن ورومان رولان وطبعاً توماس مان.
فصل لكل مبدع
كما قبل سطور، لم يكن هذا الكتاب الذي يتناول جانباً من علاقة فرويد بالإبداع في مقابل جانب أساس آخر من جوانب الخلفيات المتعلقة بمهنته العلمية والتي تتسم بقدر كبير من الأبعاد الإبداعية، لم يكن الوحيد الذي وسم إبداعه الخاص، وكذلك لا يمكن القول إنه كان الأهم بالنظر إلى أن إرنست جونز ميز السيرة التي وضعها لفرويد بالتركيز على هذا الجانب بالتحديد، ولكن أيضاً بالنظر إلى أن الباحث المعاصر في التحليل النفسي الفرنسي جان بيار أسون كان قد سبق له أن وضع دراسة بالغة الأهمية حول الموضوع نفسه توغلت عميقاً في هذا الجانب من جوانب الفرويدية وباتت محط اهتمام الدارسين وقدم فيه، ولكن دائماً انطلاقاً من أشغال جونز في هذا المجال، فرويد والأدب.
والحقيقة أن كتاب مانغو-بونتاليس يبدو في نهاية الأمر أطروحة متكاملة مع كتاب أسون حتى وإن كان كتاب هذا الأخير يبدو أكثر فائدة للباحثين لكونه يقدم تحليلاً معمقاً للموضوع، بينما يبدو الكتاب الذي نحن في صدده هنا أكثر موسوعية. وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الموسوعية هي بالتحديد هدف هذا الكتاب، بينما من الواضح أن النزعة التحليلية تغلب على الكتاب الآخر. ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من التأكيد أن ما يوحد الكتابين هو نهلهما معاً من إرنست جونز. وهو ليس بالأمر الجديد في عالم الدراسات الفرويدية. أما الجديد فهو يكمن في تخصيص الكتاب الأجد فصلاً لكل واحد من المبدعين في تلك النزعة الموضوعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حوار مع المعلم
ومن الواضح أن كل واحد من الفصول المعنية يبدو مختصاً بكل مبدع من المبدعين يقدم فيه المؤلفان سيرة المبدع وخلاصة فكره الذي يخضع إلى التحليل الفرويدي، وذلك عبر نوع من حوار بين المبدع والفكر الفرويدي الذي يدور من حول الإبداع بحيث يجد القارئ نفسه جزءاً من اللعبة. وقد آثر المؤلفان إحاطة البعد العلمي للكتاب ببيئات التفاصيل المتشعبة المستقاة من تقابل بين ما لدى فرويد ولدى كل واحد من المبدعين المعنيين، مع إحاطته بقدر كبير من المزج بين المعلومة والتحليل. ومن هنا يضحي كل فصل نوعاً من الاستفادة في الكيفية التي استخدم فرويد بها المبدعين في نوع من الدمج بين الحياة والإبداع في بوتقة واحدة. ولعل هنا وتحديداً في هذا البعد الطريف والجديد الدائر من حول فرويد ذلك الجديد الذي أبدعه المحللان الفرنسيان في كتاب لا يسأل المرء نفسه إزاءه عن أهميته المتوخاة، بل عما جعله يتأخر كل هذا الزمن.