ملخص
صار الغرغويل المصمم لتصريف المياه فناً متقدماً رويداً رويداً، وانتشر في سائر المدن الأوروبية التي راحت تتنافس على إبداعه، ويقال إن الأشكال المخيفة لوجوه الحيوانات هدفت إلى إبعاد الأرواح الشريرة وحماية المكان الذي تزينه أو تحرسه.
يمكن لزوار كاتدرائية نوتردام القوطية في العاصمة الفرنسية أو كاتدرائية كانتربري في إنجلترا أو كاتدرائية ميلانو في إيطاليا وكولونيا الألمانية، التساؤل عن معنى وسبب وجود هذه التماثيل المرعبة بوجوه حيوانات أسطورية وبأجساد بشرية هجينة.
والتساؤل أيضاً عن سبب نحتها بأدق التفاصيل ورفعها على زوايا الأسوار وأبواب المباني التاريخية والقصور المتبقية من المرحلة الفنية والاجتماعية القوطية التي ولدت وانتشرت خلال القرون الوسطى في أهم المدن الأوروبية.
تسمى هذه التماثيل المخيفة "غرغويل"، وهي ذات مصادر ثقافية وفنية ودينية متمازجة بين فنون النحت والهندسة المعمارية والأدب والفلكلور الأوروبي القديم وأساطيره والمرويات المسيحية، وقد ساعدت ظروف كثيرة في ظهورها وتحول وظائفها، منها سلبية كالحروب الصليبية المديدة والمهلكة والأوبئة الطاعونية التي بدلت أحوال أوروبا والأوروبيين إلى الأبد ودفعت المؤمنين إلى التمسك بالإيمان كرد على الشر المستطير المنتشر في كل مكان، والإيجابية منها تدفق الأموال والمساعدات نحو السلطة الدينية التي استفادت من الأوضاع لتأكيد سلطتها وتثبيت هيبتها.
في البداية تم تصميم تماثيل الغرغويل كمزاريب لتصريف مياه الأمطار في الكاتدرائيات الكبيرة والقصور، لهذا كانت تمثل حيواناً بفتحة دائرية محل فمه تنصرف منها مياه الأمطار بعيداً من الجدران منعاً لتلفها وتضررها.
ثم تطور تصميمها وتنوعت استعمالاتها، لتشمل مخلوقات أسطورية أو مستلة من الكتب الدينية التي كانت أبرز مصادر إلهام فناني ومهندسي وأدباء العصور الوسطى اللاحقة على المرحلة الرومانسية الأوروبية والمتطورة عنها.
صار الغرغويل المصمم لتصريف المياه فناً متقدماً رويداً رويداً، وانتشر في سائر المدن الأوروبية التي راحت تتنافس على إبداعه، ويقال إن الأشكال المخيفة لوجوه الحيوانات هدفت إلى إبعاد الأرواح الشريرة وحماية المكان الذي تزينه أو تحرسه.
وكان الاعتقاد السائد بأن الصور والأشكال والتعاويذ المخيفة يمكنها طرد الأرواح الشريرة والحاسدة وإبعاد المصائب، وتعرف كثير من الثقافات الإنسانية هذه الطريقة في طرد العين الحاسدة بواسطة إشغال العين بقطعة من الحذاء، أو برسم وشم على وجه طفل صغير لكيلا "تصيبه" العين، أو بوضع التعاويذ والأحجار الكريمة في ثيابه.
الغرغويل المخيف في الكاتدرائيات
يشتهر حول العالم تمثال غرغويل كاتدرائية نوتردام المعروف باسم "الشيطان المفكر" (Le Stryge) ويتخذ وضعية التأمل ويضع ذقنه فوق يده، كأنه في حالة تفكير عميق لإغواء البشر. ويرمز إلى الشر الكامن داخل النفس البشرية، والصراع بين الخير والشر في العالم.
ويشتهر أيضاً غرغويل كاتدرائية سانت جاك في بلجيكا المنحوت على شكل كائن يجمع بين إنسان وطائر أسطوري ذي منقار طويل وأجنحة حادة. وكانت الطيور خلال العصور الوسطى تعتبر وسيلة تواصل بين السماء والأرض، وكأنه يشير إلى الطبيعتين الأرضية والسماوية للبشر.
أما تمثال القرد الذي يمسك رأسه ويظهر عليه الذعر الموجود في كاتدرائية شارت الفرنسية فقد تحول إلى رمز فني عام وتم استخدامه في فنون وآداب المراحل اللاحقة للدلالة على الجشع والغرور، وعلى القسم المظلم في الطبيعة البشرية، وكان هذا الغرغويل يهدف إلى تذكير المؤمنين بخطورة الابتعاد عن الدين والانغماس في المسالك الدنيوية.
ويعرف جميع زوار كاتدرائية سالزبوري في إنجلترا منحوتة الغرغويل ذات التصميم الغرائبي التي تمثل كائناً هجيناً يخرج لسانه من فمه بصورة غريبة ولا يبدو إذا ما كان الأمر للتسلية أو للسخرية من الناظر إليه. وهناك الكثير من هذه التماثيل في الكنائس والكاتدرائيات القوطية التي لا تزال موجودة حتى اليوم ومقصداً لعدد كبير من الزوار والسياح والحجاج.
سرعان ما تحول الغرغويل إلى عنصر معماري بارز وأساس في العمارة القوطية ويدل عليها، أما أصل التسمية فيعيدها البعض إلى الأساطير المسيحية الفرنسية القروسطية، وتتناول إحداها تنيناً شريراً يُدعى "غارغوي" كان يهاجم سكان مدينة روان الفرنسية في العصور القديمة، فقام القديس رومانوس بقتل هذا الوحش، وأصبح تمثاله تذكاراً لهذه الأسطورة ورمزاً للحماية من الشر، إلا أن القصة الواقعية لأصل تسمية "الغرغويل" فهي الاشتقاق من الكلمة الفرنسية "gargouille" التي تعني "الحلق" أو "الغرغرة"، في إشارة إلى صوت المياه المتدفقة.
يعتبر بعض المؤرخين أن فرنسا كانت مهد الطراز القوطي، إذ بدأت الحركة هناك مع بناء كاتدرائية "سان دوني" قرب باريس في القرن الـ12، ثم انتقل هذا الطراز إلى كاتدرائيات ريمس وشارتر وأميان، التي لا تزال قائمة كأمثلة على روائع العمارة القوطية، والأكثر شهرة من بينها جميعاً كاتدرائية نوتردام التي بدأ بناؤها في القرن الـ12 واستمر لقرون عدة، وهي مشهورة ببرجيها التوأمين، ونوافذها الزجاجية وبتماثيل الغرغويل المخيفة، وقد أعيد افتتاحها قبل أشهر بعد ترميمها نتيجة الأضرار الجسيمة التي لحقت بها خلال حريق عام 2019.
ثم انتقلت العدوى إلى إنجلترا حيث اتخذ طابعاً محلياً سمي "القوطي الإنجليزي" الذي يتميز بالتفاصيل الدقيقة في النقوش والأبراج المروسة على شكل هرم ويظهر بوضوح في كاتدرائية كانتربري وكاتدرائية يورك، وكاتدرائية وستمنستر.
أما الألمان فقد بدأوا ببناء كاتدرائية كولونيا في القرن الـ13 ولم تكتمل حتى القرن الـ19، وباتت اليوم أحد معالم ألمانيا المعروفة ومن مواقع التراث العالمي على لائحة اليونسكو.
إلا أن مبالغة الإيطاليين لم تكن فقط بمدة البناء بل بالحجم أيضاً، فبقيت كاتدرائية ميلانو من أكبر الكاتدرائيات في العالم منذ بنائها أواخر القرن الـ14.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أسباب تطور الفن القوطي
في أواخر العصور الوسطى قبيل عصر النهضة الأوروبية كانت المرحلة القوطية في طريقها إلى الأفول، استخدمت الكنيسة الخوف كوسيلة لتعزيز الإيمان وإبعاد الناس عن الخطايا، فاستخدمت تماثيل الغرغويل المخيفة كتذكير بالجحيم والعذاب الأبدي.
وكان أيضاً تجسيداً للغرائز الحيوانية والنزعات الشريرة في النفس البشرية، وكانت تماثيل الغرغويل الكبيرة والمتقنة المرفوعة فوق الكاتدرائيات والقلاع بمثابة إعلان هيبة وسلطة الكنيسة المحروسة بالوحوش الأسطورية التي تسيطر عليها أيضاً.
وهذا ما خلق تنافساً بين كاتدرئيات الممالك الأوروبية في نصب أكبر عدد من الوحوش المنحوتة وجعلها أكبر حجماً وأكثر إخافة كدلالة على المكانة والقدرة والقوة والإيمان.
وشيدت مجموعة من أجمل الكاتدرائيات القوطية في المدن الأوروبية المتنافسة، وكان الدافع الرئيس وراء هذه التطورات تزايد تأثير الكنيسة الكاثوليكية في المجتمعات الأوروبية في تلك المرحلة، فصارت الكاتدرائيات مراكز روحية وثقافية، وأدى الازدهار الاقتصادي الذي تسببت به الحروب الصليبية التي كانت تدور في الشرق في الوقت نفسه إلى الإسراف مالياً على بناء هذه المراكز الدينية المركزية وإتقان هندستها بأكبر قدر ممكن كتعبير عن أهميتها هذه.
وسمح الضخ المالي للمهندسين بالتفتق عن إبداعات في مجال العمارة والهندسة وكذلك في تحقيق خيالاتهم الجامحة، فبدأ استخدام الأقواس المدببة والدعامات التي ساعدت في بناء جدران أخف وزناً وزادت في المساحات الداخلية، وأطلقت الأبراج العالية في الكنائس والمباني العامة والقصور الملكية والحدائق العامة.
ويشاع أن مهندسي المرحلة القوطية حاولوا الاقتراب قدر الإمكان من السماء بواسطة هذه الأبراج المرتفعة جداً بمقاييس عمارة ذلك الزمن، ولم تضاهها هندسة القرون اللاحقة في هذا الارتفاع على رغم تطور الأدوات الهندسية والرافعات ومواد البناء.
فاصل بين الرومانسية وعصر النهضة
في المرحلة السابقة على القوطية كان الرومانسيون يميلون إلى التصاميم ذات الطبقات والمبطنة والجدران السميكة والنوافذ الصغيرة خصوصاً في الكنائس، بينما أدخل القوطيون مزيداً من الضوء إلى داخل الأبنية كوسيلة لخلق أجواء روحانية مهيبة تثير الرهبة والإيمان، وقلصوا السماكة والامتداد الأفقي في المباني لمصلحة الارتفاع والعناية بالنقش التفصيلية على سائر الجدران الخارجية تصور قصصاً من الكتاب المقدس ليقرأها المؤمنون الأميون بعيونهم.
ولا بد من الإشارة إلى أن مبنى الكنيسة كان في تلك الفترة محوراً أساساً للحياة اليومية لمجتمعات تلك الحقبة كدار للعبادة أو مركز للقاءات الاجتماعية في المناسبات المختلفة كالمآتم والزواج إلى تنصيب الملك.
لقد كان الهدف المطلوب أن يشعر المؤمنون في الكنيسة بالرهبة والسكينة، فجاءت العمارة القوطية لتخدم هذا الهدف.
وخدمت أيضاً هدف محاربة الجهل والأمية المتفشيين على نطاق واسع بين الفقراء إذ لم يكن بإمكان عامة الناس قراءة الكتاب المقدس أو الاطلاع على النصوص الدينية، فاستخدم الفن في الكاتدرائيات كوسيلة للتعليم الديني فتروي النوافذ الزجاجية الملونة والنقوش الحجرية مشاهد من الكتاب المقدس وقصص القديسين، مما يساعد الناس على فهم العقيدة والإيمان.
ولا بد كذلك من الإشارة إلى أن السلطات الدينية كانت تواجه تيارات فكرية وفلسفية ودينية مثل بعض الحركات الإصلاحية المبكرة.
وإذا أضفنا أهوال الحروب الصليبية التي امتدت على بضعة قرون وشارك فيها ملايين الأوروبيين على مدى أجيال عدة، وكذلك الأوبئة مثل الطاعون الأسود الذي قتل أكثر من ثلثي عدد سكان أوروبا في بدايات تلك المرحلة، كلها كانت أيضاً أسباباً تدفع بالناس للبحث عن العزاء في الإيمان الديني.
انتهى الفن القوطي مع بداية عصر النهضة في القرن الـ16، حيث بدأت أفكار جديدة بالبروز من بين أنقاض المرحلة السابقة، متأثرة في إعادة اكتشاف الفلسفة والفن الإغريقي والروماني القديم، فظهر فكر إنساني جديد، سمي بالمرحلة الكلاسيكية التي أصبحت رمزاً للعقلانية والتوازن والجمال الطبيعي.