ملخص
أكثر الحكام عبر التاريخ من غرس حدائق وبساتين وأشجار النخيل والزيتون التي أثثت جمالية المدينة وجعلت المقيم فيها والزائر لها يندمجان في هذا الفضاء المفعم بالهدوء والاسترخاء وعالم الانشراح والمتعة.
إذا كان أهل سوس الأمازيغ في المغرب معروفين بالبراعة في التجارة، وأهل مدينة فاس مشهورين بالسياسة والأعمال، فإن أهالي مدينة مراكش التي تقع جنوب المملكة، موسومون أكثر من غيرهم من المغاربة بروح الدعابة والمرح والنكتة وإشاعة البهجة.
وتلتصق صفة "البهجة" بأبناء مراكش المغربية التي تلقب أيضاً بـ"العاصمة الحمراء"، لما يحظون به من روح مرحة تترجم بـ"اللسان الحلو" والعبارات المنتقاة وخفة الدم وتأليف النكت، حتى بات الإنسان المراكشي معروفاً أينما حل بلقب "البهجة" أو "البهجاوي".
ويعزو باحثون مهتمون التصاق روح البهجة بأهالي مدينة مراكش إلى أن هوية المراكشيين معجونة في أصلهم بالطرائف والنكت، وأيضاً إلى الطبيعة الجغرافية السهلة التي حبا الله بها هذه المدينة الوديعة، بينما يرى بعضهم أن للبهجة المراكشية سنداً يعود لغابر التاريخ.
سند تاريخي
يقول المؤرخ إبراهيم القادري بوتشيش إن إسم مراكش يقترن بالفكاهة والمرح والضحك، حتى إنها سميت "مدينة البهجة"، ويعرف أهلها بالبهجة والمرح لتمرسهم في فن الطرائف والنكت التي غدت جزءاً من هويتهم وأسلوباً في تعاملاتهم ونمط عيشهم اليومي.
وأفاد بوتشيش بأن لهذه الظاهرة "البهجاوية" سنداً تاريخياً لهذه الصفة التي تميز بها أهل مراكش عبر تاريخهم من دعابة وخفة روح، فقد جعل مؤلف كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" الذي عاش في القرن الـ12 ميلادي، صفة البهجة ملتصقة بمدينة مراكش، فقال عنها "ومدينة مراكش اليوم من أعظم مدن الدنيا بهجة وجمالاً".
وأكمل أستاذ التاريخ في جامعة مكناس "إذا وضعنا في الاعتبار المصطلحات اللغوية التي تحيل على معنى البهجة من قبيل السرور والغبطة والحبور وغيرها من المرادفات، وربطنا النكتة والضحك بجوّ الغبطة والسرور وسعادة النفس، نجد اسم مراكش يأتي مقروناً كذلك بصفة الغبطة في سرديات لحظة تأسيسها.
ويسرد مؤرخ مراكش الموسوعي ابن المؤقت صاحب كتاب "الرحلة المراكشية" فقرة أطلق عليها عنواناً له دلالة، وهو "الحكمة في أن مدينة مراكش وأهلها في سرور"، وفيها يذكر أن يوسف بن تاشفين، وهو يتحرى مع أعوانه الموضع الذي تبنى فيه قاعدة ملكه، اختار أن تبنى على ناحية برج العقرب الذي يرمز في حسابات علماء الفلك إلى الحبور والبهجة.
ومما زاد من منسوب هذا الجو الباعث على السرور، يردف المتحدث، "إكثار الحكام المرابطين والموحدين بعدهم من غرس حدائق وبساتين وأشجار النخيل والزيتون التي أثثت جمالية المدينة، وجعلت المقيم فيها والزائر لها يندمجان في هذا الفضاء المفعم بالهدوء والاسترخاء وعالم الانشراح والمتعة".
وعلى رغم بعض المراحل العصيبة التي مرت بها مراكش، وما عرفته من أزمات ومحن وخراب، فإنها بقيت محافظة على هذا الجو من المرح والحبور لدى سكانها المعروفين بطرائفهم وابتساماتهم على ثغورهم وحرصهم على تقاسم الانشراح والفكاهة في ما بينهم.
حلقات هزلية
ويرى بوتشيش في هذا السياق أنه "ليس من الغرابة أن تكون مراكش أول مدينة مغربية عرفت فن الحلقات الهزلية المبنية على الحكي الفكاهي والمزاح والتمثيليات البسيطة التي تثير غريزة الضحك عند المتفرج"، فيما تشير بعض الدراسات إلى أن الحلقات الحكواتية الخاصة بالفرجة والضحك والتنكيت، المصحوبة أحياناً باستعمال بعض الآلات الموسيقية التقليدية، بدأت في القرن الـ19 بمراكش قبل انتقالها إلى مختلف المدن المغربية.
وأردف أن "بعض الملوك المغاربة كانوا بدورهم يعتنون بفن الحكي والترفيه، مثل السلطان الحسن الأول الذي كان يعقد في قصر أكدال بمراكش مجالس ترفيهية، يستدعى لها أمهر الرواة ومن بينهم نساء".
وذهب بوتشيش إلى أن "هذه الحلقات الترفيهية تطورت في القرن الـ20 لتصبح من مكونات الهوية المراكشية، إذ تنتشر في طول وعرض الساحات التي تتميز بسحر جمال التراث اللامادي المبني على روح المتعة وفن القول، وإثارة مشاعر الفكاهة والضحك في نفوس الزائرين لهذا الفضاء المرح"، مردفاً أن "هذا ما يفسر أن أشهر الممثلين الكوميديين المغاربة اليوم ينحدرون من هذه المدينة الضاربة في التاريخ".
للأماكن أنفاس
ويرى الباحث والكاتب محمد آيت العميم من جانبه أنه من المعاني التي أعطيت لمراكش أنها "حمى الله"، في إشارة إلى "أصل البقعة التي شيد عليها المرابطون المدينة بعدما ضاقت عليهم مدينتهم أغمات، فاختاروا بسيطاً من الأرض معتدل الهواء، قريباً من الجبل كي يضمنوا الماء الكافي للمدينة، وكان هذا البسيط من الأرض مرعى للغزلان والنعام، وكان أيضاً منطقة حرم يتم فيها الصلح بين القبائل المتنازعة".
ويشرح أن "هذه الحُرمة بقيت لصيقة بالمدينة التي عرفت تعاقب دول عظمى، بحيث شكلت المدينة عبر تاريخها عاصمة للدول التي اتخذت مراكش قاعدة لها، وكانت أفئدة الناس تهوي إليها من كل صوب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزاد آيت العميم، وهو ابن مدينة مراكش، بأن "الأماكن هي الأخرى لديها أنفاسها كأنها كائنات حية، فالبهجة والحبور وراحة البال والشعور بسعة النفس في الصدر، شعور عام لأن الداخل إلى المدينة يستشعر عند مشارفها أن شيئاً ما يتغير بداخله، وحين يدلف إلى المدينة ويغوص في فضاءاتها وأحيائها وأزقتها يحس بألفة غريبة، فهي من المدن الحاضنة".
وأكمل آيت العميم سارداً ميزات مراكش التي تجعل منها مدينة حبور وبهجة، "الغريب فيها لا يحس بالغربة، كأنه يعرف المدينة في سابق العهود، كما أن سحرها يتجلى في أشياء كثيرة، من بينها مناخها المعتدل، فضلاً عن تنوع المجال البيئي في المدينة والمناطق المحيطة بها مثل النخيل والجبال والثلج والسهل والغطاء النباتي".
وهذه العناصر المتنوعة، وفق الباحث نفسه، جمعت في مكان واحد، مما يعطي المدينة مقومات ضد الرتابة، فأيام مراكش لا تتشابه، مما ينسحب أيضاً على ساحتها المشهورة "جامع الفنا" التي كانت تضم جوهر الثقافة الشفوية في المغرب.
ملاذ الغرباء
وعدا ما سبق من مميزات وعوامل تضافرت لتجعل المراكشيين أهل بهجة، زاد آيت العميم دافعاً آخر هو ضوء المدينة، "فهي مدينة ضوء، لا سيما في فصل الخريف، وبهذه الميزة كان الفنانون يتسابقون لالتقاط الضوء في لوحاتهم الفنية، أو من خلال فن التصوير الفوتوغرافي"، واعتبر أن "هذه الأضواء وتلويناتها تعطي للمدينة مظهراً فاتناً، يتمتع به الإنسان العادي الذي قد لا يدرك هذه الخصوصية ويفتتن به الفنان".
ووفق الباحث ذاته، طبيعة مراكش تلائم الاسترخاء والتنزه وكانت ملاذاً للغرباء وتحفز على ظهور المواهب، لا سيما في ميدان "القول والكلام"، وبيّن أن الثقافة الشعبية في مراكش تضرب بجذورها في الأعماق، فهي مدينة ترعرع فيها الملحنون، وخرج منها شعراء ظرفاء، على رأسهم "شاعر الحمراء" الذي اشتهر بخفة دمه وسرعة بديهته، وقد حاك حوله المراكشيون حكايات من صنع خيالهم.
ولفت آيت العميم إلى أن هناك فنوناً عدة في مراكش تقتضي الاجتماعات الحاشدة، وفي مثل هذه اللقاءات كان "فن القول هو سيد المقام"، موضحاً أن "هذا ما يفسر أن موهبة المراكشي تعتمد بالأساس على سرعة البديهة وإبداع الكلام واختراع النكتة، مما يعكس ذهنية الساكن في هذه المدينة".
وتابع أن "ساكن مراكش يجد في هذه الإبداعات والابتكارات ملاذاً له لتجاوز كل الصعاب وإكراهات الزمن"، مبرزاً أن "الذي يضحك كثيراً هو شخص يحارب في العمق مآسيه الداخلية، وأن الشخص الذي يستطيع أن يبدع في ميدان الضحك والفكاهة والسخرية هو شخص ذكي دائم التيقظ".