ملخص
ظهرت نظرية الانفصال الجزئي الاختياري عن المجتمع المصري قبل عقود يرجعها بعض إلى عصر الانفتاح الاقتصادي منتصف السبعينيات، وتحولت النظرية إلى مفهوم وطريقة حياة وخاضت تحولات عدة ومرت بتغيرات كثيرة متأثرة ومؤثرة في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فأصبحت في مصر طبقة متغيرة القوام متحولة تصنع لنفسها فقاعات مرنة تعيش فيها دون الاضطرار للانصياع للتغيرات الثقافية والمعيشية
الإجابة الطبيعية أو المنطقية أو المتوقعة لسؤال أين تعيش؟ غالباً تكون "في حي كذا" أو "في المنطقة الفلانية" أو العنوان بالتفصيل. لكن أن تأتي الإجابة "أعيش في Bubble (فقاعة)"، فهذا غريب بالمقاييس العامة لكن متوقع لدى فئات محدودة من المصريين.
ظهرت نظرية الانفصال الجزئي الاختياري عن المجتمع قبل عقود طويلة، ويرجعها بعض إلى عصر الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات، وتحولت النظرية إلى مفهوم وطريقة حياة وخاضت تحولات عدة، ومرت بتغيرات كثيرة متأثرة ومؤثرة في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع المصري.
وأصبح في مصر طبقة متغيرة القوام متحولة تصنع لنفسها فقاعات مرنة تعيش فيها، دون الاضطرار إلى الانصياع للتغيرات الثقافية والمعيشية التي ضربت المجتمع وأصابت خصوصية فئات بعينها في مقتل، وأدخلت الجميع قسراً في عجلة التقييم والقبول والرفض بناء على درجة مطابقتهم لمقاييس الشعبوية الدينية والعشوائية الاشتراكية، التي أتت مرتدية لباس الرأسمالية.
العيش في فقاعة... أسلوب حياة
بعيداً من التغيرات الاقتصادية التي جرى عرف الرصد على حصرها في تحولات من الاشتراكية الناصرية إلى الانفتاح الاقتصادي والتقلبات الاجتماعية في عصر السادات، ودغدغة مشاعر قاعدة عريضة من الطبقات القريبة من قاعدة الهرم بإمكانات ارتقائها سلم الترقي الاقتصادي، ومنها إلى نمو اقتصادي حقق نسبة غير مسبوقة هي سبعة في المئة، لكنها كانت مصحوبة باقتصار إمكانية جني الثمار على طبقات محدودة وفئات بعينها، فإن هذه التغيرات نفسها وثيقة الصلة بنمو وتوسع منظومة أو مهرب الفقاعات، لمن استطاع إليها سبيلاً.
"العيش في فقاعة" أسلوب حياة يشغل علماء نفس واجتماع كثراً. وحصيلة التعريفات تشير إلى أن العيش في فقاعة يعني أن يعيش الشخص أو أشخاص في عالم خاص معزول يختلف عن العالم المحيط بهم، وغالباً لا يستطيع أو بالأحرى لا يرغب سكان الفقاعة في رؤية أو إدراك الأحداث التي تجري خارج فقاعتهم، لأنهم منغمسون في عالمهم الصغير المختار.
هذا العالم الصغير المختار ضيق، لكنه يأتي كاملاً متكاملاً من حيث القيم والفرص والأذواق، إضافة إلى الآراء السياسية المتشابهة لسكانه والأيديولوجيا الثقافية وأحياناً العقائدية المتطابقة التي تخلق شعوراً "زائفاً" بينهم بتناغم الفقاعة، وكأنها المجتمع الحقيقي. إنه العيش في عالم خاص مختار وغالباً لا يريد سكان الفقاعة أن يدركوا ما يجري حولهم، أو في الأقل يختارون عدم الخوض والغوص في ما يدور حولهم من مجريات في المجتمع الذي هربوا منه اختيارياً، لينغمسوا في عالمهم المختار.
عائلات مصرية بأكملها تعيش في فقاعات، وهو الاختيار الذي ظهرت بوادره خلال منتصف عصر الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك، وذلك مع تشكل ملامح طبقة مختلفة داخل الطبقة العليا، لكن بمقاييس التسعينيات.
أبرز ملامح هذه الفئة في الطبقة العليا حصول كل من الأب والأم على تعليم جيد ومتميز، غالباً خاص أو أجنبي أو في دولة غربية، من ثم عمل يحقق دخلاً مرتفعاً، وأبناء يُجرى إلحاقهم بمدارس دولية ذات مناهج وسبل تدريس وإمكانات رياضة وترفيه، يصفها بعض بالانفصال أو الانفصام عن المجتمع وقوانينه الشعبية وقيوده الشعبوية. وبين هذه الفئة بقايا عائلات ثرية كانت تسمى أرستقراطية، ورثت قدراً من المال أو الأملاك أو كليهما، مكنتها من الاحتفاظ بأسلوب حياة يختلف عن بقية المصريين.
وتختلف سمات المكون المادي أو الاقتصادي لهذه الفئة في الطبقة العليا عن غيرها من فئات الطبقة نفسها، لا سيما التي كونت ثرواتها سواء نتاج العمل عقوداً طويلة في دول أخرى، أو ممن صعدت السلم الطبقي بفعل سياسة الانفتاح الاقتصادي الاستهلاكي خلال السبعينيات. وهذه الاختلافات تتضح في أسلوب الحياة وأولويات الإنفاق ومفهوم المكانة الاجتماعية، وماهية الترفيه وأماكنه وغيرها من تفاصيل المعيشة.
بمعنى آخر، قد تتساوى أسرتان من حيث الدخل المرتفع والإمكانات المادية... إلخ، لكن تتناقض اختياراتهما الخاصة بنوعية المدرسة الخاصة أو الدولية التي يلتحق بها الصغار، وماهية وذوق الملابس الباهظة الثمن ونوع الترفيه البالغ الكلفة وكيفية الحصول عليه، وكلا الاتجاهين يقف على طرف نقيض.
تنامي الفقاعات
هذا النقيض، مضاف إليه التغيرات الاجتماعية والثقافية والدينية التي طرأت على القاعدة العريضة في المجتمع المصري، نشأ عنها تنامي "الفقاعات". أسرة طبيب تجميل معروف انتقلت إلى إحدى هذه الفقاعات قبل نحو عقدين. ومسببات النزوح وعوامل الإبقاء عليه كأسلوب حياة اختلفت باختلاف ما جرى في مصر على مدار عقدين.
يقول الطبيب "في البداية، كانت الأسباب تقتصر على ضياع معالم حي مصر الجديدة الراقي الذي نشأ فيه الطبيب وزوجته في طفولتهما، وتحوله من شوارع عامرة بالفيلات يقطنها ناس شيك (يتميزون بالأناقة) ومقاه تاريخية ومطاعم راقية، وحتى محال بقالة وأسواق مهندمة مرتبة إلى عمارات قبيحة لا حس جمالياً في بنائها، أو سمة معمارية تربط بينها، ومقاه ومطاعم شعبية يملكها تجار خردة ويرتادها كل من هب ودب ولا تتبع قواعد أو تحترم جيرة، وباعة أرصفة في كل مكان لدرجة أن الملابس المستعملة عرفت طريقها إلى أرقى شوارع الحي".
نزحت أسرة الطبيب إلى منطقة "التجمع الخامس" قبل أعوام، وهنا بدأت رحلة الدخول في الفقاعة. من نوعية مدارس الأبناء إلى الخلفية الاجتماعية للجيران إلى الانتماءات الثقافية لسكان المنطقة إلى تصنيف المقاهي والمطاعم وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية، التي "سودت حياة" الأسرة في مصر الجديدة على حد وصف الطبيب. ووجدت الأسرة في فقاعتها السكنية والاجتماعية والترفيهية ما حقق لأفرادها قدراً من التوازن النفسي، إضافة إلى خلق أجواء افتراضية لنوعية الحياة التي يفضلونها والأفراد الذين يختلطون بهم.
فقاعة السكن تحققت عبر "كومباوند" مغلق على ملاكه وخدماته ومساحاته الخضراء وهدوئه وسكينته بلا جار مزعج مؤذ، أو صاحب محل خارج على القانون برعاية القانون، أو باعة جائلين امتلكوا الأرصفة بلا ضابط أو رابط. أما فقاعة التعليم فأصبحت متاحة عبر مدرسة دولية، معلموها أجانب ومناهجها أميركية ورحلاتها لا تتوجه إلى القناطر الخيرية أو حديقة الحيوان بل إلى نيس وباريس وكان، أو برشلونة ولشبونة وبيلينزونا.
وتحققت فقاعة الترفيه عبر منتجع سكني آخر لكن في الساحل الشمالي، وهو أحد المنتجعات التي تستوعب أعداداً كبيرة من سكان الفقاعات. حتى الترفيه في أثناء الأسبوع، فتجري وقائعه في فقاعة الترفيه حيث أماكن الخروج التي تتمثل في "بوينت 90" و"ديستريكت 5" و"نورث 12" وغيرها من الأماكن التي يصعب وجود سكان قاعدة الهرم الطبقي فيها، نظراً إلى أسعارها الجنونية، أو أبناء الطبقة نفسها من أصحاب التوجهات المحافظة أو المنغلقة، نظراً إلى طبيعة الأماكن المنفتحة والمتحررة بمقاييس المجتمع المصري المتحول صوب المحافظة.
عديد من الأسر المصرية من أبناء الطبقات المقتدرة اقتصادياً، التي نجت أو نأت بنفسها من موجة تديين السبعينيات انتهجت نهج الفقاعات الحياتية على مدار نحو عقدين. وبدت حياة الفقاعات معقولة ومقبولة باعتبارها واقعاً افتراضياً مرضياً لسكانها، وفي الوقت نفسه حاجباً يحول بينهم وغيرهم.
وباستثناء احتكاكات موسمية وبضع انتقادات دورية مع قليل من الاحتقانات الطبقية، أثبت مهرب الفقاعات جدواه وكفاءته. وطالما لا يرى هؤلاء أولئك ولا يضطر أولئك للتعامل مع هؤلاء، مضت المنظومة قدماً محققة نجاحاً مدوياً، إلى أن وقع المحظور.
مع تعويم الجنيه المصري عام 2016 وارتطامه، بعدما سقط أمام الدولار الأميركي من 8.88 جنيه إلى 15.77 جنيه، ثم توالي الارتطامات خلال الأعوام التالية مع تعويمات متتالية كان أحدثها خلال مارس (آذار) الماضي حين وصل سعر الدولار الواحد 48.65 جنيهاً مصرياً، ارتطم كثر من سكان الفقاعات أيضاً.
ولأن الارتطام أيضاً يخضع للفروق الطبقية، إذ الأكثر فقراً يرتطمون بصخب أعلى ويحظون باهتمام رسمي أكبر وتركيز إعلامي أوفر، يخفت الصخب المثار بفعل الارتطام في اتجاه قمة الهرم.
الأزمة الاقتصادية... اتركوا فقاعاتكم
وبعد أعوام من اتهامات اعتاد مثقفون وكتاب جنباً إلى جنب مع أبناء الطبقات غير الميسورة توجيهها لسكان الفقاعات، باعتبارهم منسلخين عن المجتمع أو متبرئين من الأصول أو متحللين من القواعد أو منعزلين عن مشكلات المواطنين ومتجاهلين لحاجات الوطن، بدأت ملامح الأزمة تلقي بظلالها داخل الفقاعات.
استمرار الأزمة الاقتصادية، وارتفاع مصروفات المدارس والجامعات الخاصة بصورة غير مسبوقة، والزيادات المتلاحقة في أسعار السلع والمنتجات، وتضاؤل قيمة الرواتب وضعف القدرة الشرائية، وارتفاع قيمة الضرائب والفواتير والخدمات ألقت بظلالها على الفقاعات ومن فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد أعوام من الشد والجذب بين مؤيد للفقاعات معتبراً إياها وسيلة بقاء على قيد الحياة المرجوة، ومندد باعتبارها أداة من أدوات الانفصال الطبقي والانسلاخ بعيداً من المجتمع، يجد بعض سكان الفقاعات أنفسهم أمام أحد خيارين، إما هجر الفقاعة والعودة إلى الواقع، أو الانتقال من الفقاعات القديمة برفاهيتها ورونقها واختياراتها الواسعة إلى فقاعات أصغر وأقل كلفة.
استدامة العيش في فقاعة أحد انعكاسات الأزمة الاقتصادية على أبناء وبنات فئة من الطبقة العليا في مصر. إنها الطبقة الوحيدة التي لا تتطرق إليها مبادرة لانتشالها من فقر مدقع وعوز مفرط، أو يتناولها باحث بالرصد والتحليل مثلما يفعل مع الطبقة المتوسطة، وتد المجتمعات وعمود الأوطان.
جرى العرف ألا تجتمع كلمات "مشكلات" و"الطبقة العليا" في جملة مفيدة. وما جرى خلال الأعوام القليلة الماضية، هو أن جانباً من المصنفين "طبقات عليا" ممن نزحوا اختيارياً إلى الفقاعات وجدوا أنفسهم مهددين بالطرد منها. وحدث ما حذر منه مؤلف كتاب "معضلة الفيل" جون بوستوك وهو عدم وجود ما يضمن سلامة الفقاعة، لأن العالم يتغير باستمرار.
ويشير بوستوك إلى أن "كثراً يعيشون في فقاعات جسدية وعقلية. نعيش داخل أحياء مع أشخاص يحصلون على دخل يقارب ما نحصل عليه. ويشبهوننا في طريقة التعامل وحتى في الشكل. وفي العمل نمضي وقتنا مع أشخاص ينتمون إلى مستويات تعليمية تشبه مستوياتنا. وعلى الإنترنت نحيط أنفسنا بأشخاص يؤمنون بالأشياء نفسها التي نؤمن بها. إنها الفقاعات التي يختار بعض أن يعيش فيها، ويعتاد التوافق الذي يعتريها والتشابه الذي يملأ أرجاءها. وتتحول أنظار سكانها إلى الداخل، داخل جدران الفقاعة فقط". وعلى رغم أنه يصفها بـ"الفقاعات اللطيفة والمريحة والآمنة"، فإنه يراها معزولة وتقلل من ارتباط الناس بالمجتمع الحقيقي.
المؤلف جون بوستوك يوجه نصيحة في نهاية كتابه لسكان الفقاعات بأن يبدأوا فوراً في النظر خارج فقاعاتهم، ويقودوا سياراتهم ويتوجهوا إلى أحياء مختلفة عن تلك التي يعيشون فيها، ويبحثوا عن أفراد يؤمنون بآراء تختلف عن آرائهم، ويبدأوا في إقامة وتعزيز صداقات مع أشخاص نشأوا في بيئات مختلفة وعاشوا في ظروف مغايرة، ليلتحموا معهم ويشاركوهم حياتهم حتى لو كانت أقل من حياتهم التي اعتادوها في الفقاعة، وذلك من أجل مجتمع أفضل.الطريف أن ما اعتبره بوستوك نصيحة لأهل الفقاعات بأن يهجروا فقاعاتهم اختيارياً، قد يتحول إلى هجرة جماعية لسكان الفقاعات في مصر، لكن لأسباب قسرية.