Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أيام الرخص" تسترجع الأربعينيات الليبرالية في مصر

حسن الحديدي يرصد الأحوال الاجتماعية والسياسية التي عرفها المجتمع ما قبل "الضباط الاحرار"

مشهد من القاهرة في الأربعينيات (غيتي)

ملخص

تشكلَ بعد حراك 25 يناير (كانون الثاني) 2011 في مصر تيار قوي، أولى اهتماماً خاصاً بعهد الفترة الملكية، وانعكس خصوصا على الرواية. فشهدت الآونة الأخيرة صدور عشرات الروايات التي تسلط الضوء على هذه الحقبة من زوايا مختلفة.

 تنظر غالبية الروايات الجديدة إلى عهد حكم أسرة محمد علي الممتد من 1805 إلى 1952 في صورة إيجابية مفعمة بالنوستالجيا، أو من ناحية سياسية واجتماعية باعتباره عهد الليبرالية والديمقراطية، بينما كانت حركة تنظيم "الضباط الأحرار" انقلاباً على هذا العهد مما كرس للديكتاتورية.

ومن هذه الروايات "أيام الرخص: حكاية قديمة جداً" (دار الشروق - القاهرة) لحسن الحديدي الفائزة بجائزة خيري شلبي للعمل الروائي الأول. تدور أحداث الرواية في النصف الأول من القرن الـ20 في إحدى قرى شمال مصر، تشتهر بزراعة القطن، وتبدأ بعودة "يحيى الطاهر" لها عام 1942 بعد استدعائه لرؤية والده في مرضه الأخير. سرعان ما يموت الأب، فيقرر الابن عدم العودة مرة أخرى للقاهرة لاستكمال السنة الأخيرة في دراسته الجامعية، متعللاً بالاضطرابات السياسية التي كانت تموج بها العاصمة المصرية عقب حصار الإنجليز لمقر الحكم بالدبابات لإرغام الملك فاروق على تكليف زعيم حزب "الوفد" مصطفى النحاس بتشكيل حكومة جديدة. تذرع "يحيى" كذلك بأن له أرضاً زراعية وضع العمدة يده عليها، ومن ثم يتحتم عليه البقاء في القرية لاسترداد ما انتزع من أسرته.

ينشط "يحيى" مع أهل قريته، وبخاصة مع صديقه "نافع"، لتكوين تعاونية زراعية هدفها حماية الفلاحين من الأزمات ومواجهة ظلم كبار الملاك لهم، مما يثير حفيظة العمدة "شاهين" الذي يبدأ في نشر الإشاعات حول يحيى، ويرفع من يومية الأجراء، ويقدم لهم الوجبات السخية رغبة في استمالتهم وإفساد المخطط الذي يهدد إمبراطوريته الاقتصادية التي شيدها من عرق الفلاحين، تنتهي الأحداث بقتل العمدة ليحيى غيلة بإغراقه في النيل واتهام صاحبه نافع بسرقة أموال العمدة، ونزع ملكية الأراضي من الفلاحين الذين شاركوا في التعاونية الزراعية لعدم امتلاكهم لأوراق حيازة تؤكد ملكيتهم لها.

التكثيف السردي

تعتمد الرواية في سرد الأحداث على التكثيف الشديد والبناء المحكم لبنية العمل، الذي يقدم سيرة ثلاثة أجيال في 127 صفحة فقط، معتمداً على فطنة القارئ لاستيعاب ما جرى التعبير عنه في صورة غير مباشرة. تبدأ الأحداث من الوقت الحاضر بشكوى الراوي من تكرر انقطاع الكهرباء، وتغريده على تطبيق "تويتر" بجملة "بانقطاع الكهرباء تتجمد الحياة انتظاراً للحظة عودة التيار". من هذا الواقع الآني المأزوم، ينتقل السارد (في ديسمبر / كانون الأول 1941)، إلى واقع اجتماعي واقتصادي متأزم أيضاً متمثلاً قول القائل «ما أشبه الليلة بالبارحة». يعثر على مذكرات لبطل هذه الرواية "يحيى الطاهر"، صديق جده "نافع"، من دون الإشارة صراحة إلى العلاقة بين الراوي وبين "يحيى"، لكنها تكتشف مما بين السطور، حين يتحدث الوالد إلى ابنه المتأفف من انقطاع الكهرباء وهو يقول «الدنيا من غير كهرباء تغرق في بحر حبر، الله يرحمها ستي راوية كانت تنور عتمة ليلنا بالحكايات، عاشت لما شافت الكهربا واتعودت عليها، وفي آخر أيامها كانت لما تنقطع الكهرباء تخاف وتنادي: شوية نور يا ولاد» ص 8. فـ"راوية" هي أم نافع وجدة والد الراوي، ومن هنا ينكشف موضعه في هذه القصة التي ينقلها إلى القارئ.

هكذا يعتمد مؤلف الرواية على الإشارات والإحالات التي تكثف الأحداث من دون إغراق في التفاصيل، فعندما يعود لقصة جد "يحيى الطاهر" المدعو "الشيخ مصطفى الطاهر" وصراع زوجته معه بسبب تأخرهما في الإنجاب وإصرارها على الذهاب إلى دير القديسة هيلانة كعادة النساء اللاتي يعانين المشكلة ذاتها، يحكي الراوي تفاصيل الرحلة إلى الدير بعد استجابة الجد، ماراً بين القرى والجسور الزراعية الضخمة التي تبنى على مجرى النيل، لترويض النهر. ويقف بالحكي عند لحظة وصولهم إلى الدير، ولا يتلكم بعد ذلك عما دار هناك، ولا يعود لهذه النقطة من الزمن مرة أخرى، لأننا نعلم منذ البداية أن لبطل الرواية عمة تدعى زينب، مما يعني نجاح الرحلة وإنجاب الأم لبنت كانت قرة عين أبيها، الذي أحبها أكثر من حبه ابنه البكري "إبراهيم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتشير الرواية كذلك من طرف خفي في خطابها المضمر إلى الواقع الآني في مصر مع مقارنته بصورة غير مباشرة بالنصف الأول من القرن الـ20، وطبيعة الخطاب الذي كانت تقدمه الصحف والمجالات في ذلك الزمن. فيستعيد بطل الرواية مواضيع نشرت في عدد مجلة "الهلال" الصادر في ديسمبر (كانون الأول) 1941. غلاف العدد المشار إليه كتب عليه: "العرب والديمقراطية" وتضمن مقالات لأساطين الثقافة والسياسة، مثل طه حسين وعباس العقاد. ويظهر أيضاً الإسقاط على الواقع المعاصر من خلال اسم الرواية «أيام الرخص»، الذي يضيف إليه الكاتب عنواناً توضيحياً "حكاية قديمة جداً" في ما يشبه التنويه إلى الزمن المستعاد هنا روائياً، مع ذكر أن العمل "من صنع الخيال وأي تشابه بينه وبين الواقع هو من قبيل الصدفة". وشبه الجملة "أيام الرخص" جاءت في الرواية على لسان حلاق القرية الذي يعلق على الأحداث السياسية التي تجري في القاهرة من تقدم قوات روميل، واستقالة حكومة سري وحصار دبابات الإنجليز لقصر الملك، وتعيين حكومة النحاس باشا على ظهر الدبابة، وانتخابات حكومية جديدة في ظل الأحكام العرفية والرقابة على الصحف.

معتقدات شعبية

ولا يغيب عن الرواية رصد معتقدات أهل الريف خصوصاً في ما يتعلق بإنجاب الذكور والتباهي بكثرة الإنجاب عموماً، ومن هنا تحضر الأمثال الشعبية التي يتردد صداها داخل الرواية، ومنها: «الرجل بلا ولد، عديم الظهر والسند، أم الغلام تستاهل الإكرام، المرأة بلا أولاد خيمة بلا أوتاد». فالمرأة مستعدة للقيام بأفعال خطرة تهدد سلامتها من أجل الإنجاب، مثلما فعلت "عقيلة" زوجة "الشيخ الطاهر": «من شق المدافن، والخطو على عظام الأموات، واستعمال ليفة خالتها المتوفاة وصابونة غسلها بعدما جلست مقرفصة عارية تحت الخشبة ليغمرها ماء الغسل، ولم تنفك حبستها، ولم تنفك الكبسة» ص 42. جربت "الجريدة المشروطة سبع شرط"، و"الفتلة المعقودة سبع عقد"، و"الخرزة الزرقاء"، لكن كل هذه الحيل لم تجد نفعاً مع "عقيلة"، ولم يتبق لها سوى زيارة الدير.

ولا ينسى الحديدي في روايته التعريج على العلاقة الخاصة بين الفلاحين والحيوانات الأليفة، وينقل مشاعر حزنهم وبكائهم على موت جاموسة "عرجاوي". أما "عابد" فكان يعتني ببقرته كما لو كانت أمه، ولا تخلو الرواية من نقل الطرف الريفية، مثل حكايات "سبيل" في مجلس النساء عن علاقتها الجنسية بزوجها الذي تلقبه بالأسد وتحكي عن أفعاله بأسلوب لا يخلو من الطرافة: «ويوماً بعد يوم تسللت إلى المجلس فتيات يستمعن في شوق إلى حكايات سبيل ومغامراتها في عرين الأسد» ص127.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة