ملخص
يشير السير ريتشارد شيريف إلى أننا نعيش اليوم في مرحلة التهيئة للحرب، منبهاً إلى أن التأخر في الاستعداد الفوري لمواجهة التحركات المستقبلية المحتملة من جانب روسيا قد يؤدي إلى عواقب وخيمة.
خلال الأسبوع الماضي وجه قائد القوات المسلحة في المملكة المتحدة الأدميرال السير طوني راداكين تحذيراً من أن العالم بات على أعتاب العصر النووي الثالث [الأول امتد من عام 1945 إلى تاريخ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 حين بدأ العصر الثاني المستمر إلى يومنا هذا]، لكن قراءته للأحداث تغفل مسألة بالغة الأهمية، فعلى رغم أن التهديد النووي يشكل خطراً كبيراً لكن ضعف المملكة المتحدة في مجال القوة العسكرية التقليدية هو ما قد يعرضها لخطر عدوان روسي، فالصراع الدائر في أوكرانيا لا يقتصر على اعتداء خادع ووحشي على دولة جارة ديمقراطية وحسب، بل يشكل أيضاً انتهاكاً صارخاً للقيم والمبادئ الدولية من دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وموقّعة على ميثاق المنظمة الدولية الذي يحظر استخدام القوة في العلاقات بين الدول.
هذه الحرب التي تمثل هجوماً أوسع نطاقاً على الغرب بمختلف مبادئه، كما على تطلعات أوكرانيا التي تسعى إلى الانضمام إلى الغرب ومنظومته، لم تبدأ بالغزو الروسي واسع النطاق الذي انطلق في فبراير (شباط) عام 2022، بل عندما قامت موسكو بضم شبه جزيرة القرم عام 2014.
وكما أوضح الضابط الكبير السابق في الجيش السوفياتي والمدير السابق لـ"مركز كارنيغي في موسكو" عام 2016، دميتري ترينين، فإن "الكرملين في حال حرب مع 'حلف شمال الأطلسي' منذ عام 2014".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأدلة على ذلك يمكن التحقق منها عبر متابعة النمط المستمر للهجمات الهجينة أو غير التقليدية التي استهدفت دول الغرب بصورة متواصلة، وتشمل الأنشطة التدخل المزعوم في الاستفتاء الذي أجرته اسكتلندا على استقلالها عن بريطانيا العظمى عام 2014، وفي استفتاء البريطانيين على مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016، وكذلك في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.
ومن الأمثلة الأخرى الاعتداء الذي حصل في سالزبوري باستخدام غاز الأعصاب "نوفيتشوك" عام 2018 [استهدفت تسميم الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا]، إضافة إلى أعمال التخريب المتكررة مثل الحرائق الأخيرة في مستودعات شركة البريد السريع "دي إتش أل" DHL وتحطم طائرة الشحن التابعة للشركة نفسها في ليتوانيا الشهر الماضي، وكذلك التقارير التي تحدثت عن نشاط طائرات بلا طيار قرب قواعد لـ "سلاح الجو الملكي البريطاني" و"سلاح الجو الأميركي" شرق إنجلترا، والمحاولات العلنية للتأثير في الانتخابات في كل من رومانيا ومولدوفا وجورجيا خلال الأسابيع الأخيرة.
ويُعد ذلك في العقيدة العسكرية الروسية بمثابة مرحلة "التهيئة" [الأرضية]، إذ تشمل زعزعة استقرار البلد أو البلدان المستهدفة من خلال استغلال الأقليات وشن حرب نفسية والقيام بهجمات إلكترونية واستخدام قوات خاصة وتنفيذ عمليات تخريب أو اغتيالات، وكل ذلك من دون تجاوز عتبة الحرب التقليدية، والسؤال: هل يشير ما تقدم إلى إمكان وقوع حرب وشيكة مع روسيا؟
ليس بالضرورة، فالنتيجة تعتمد إلى حد كبير على رد فعلنا، فإذا ما أظهرنا قوة وصموداً فستتراجع موسكو، وإذا أظهرنا ضعفنا فسيمضي الكرملين قدماً في حملته، ويجب علينا أن ننظر إلى روسيا في عهد رئيسها فلاديمير بوتين كما هي على حقيقتها لا كما نود أن تكون وفقاً للتوقعات المثالية، ومع تقديرنا للإسهامات الروسية في الموسيقى والأدب والباليه والثقافة فلا يمكن تجاهل أن روسيا أيضاً دولة قاسية وانتقامية ولها تاريخ طويل كإمبراطورية.
ويمكن القول إن الإمبريالية متجذرة في هويتها، فقصة روسيا تتلخص في التوسع الإقليمي وفرض السيطرة الاستعمارية على الدول المجاورة، وعندما تمد نفوذها بما يتجاوز قدراتها تجد نفسها في حال من الضمور والانكماش لتعاود الكرّة من جديد، ويتمثل جوهر العقلية الروسية في الاعتقاد بأن جارتها أوكرانيا لا تملك الحق في الوجود كدولة ذات سيادة، وبأن روسيا لن تتمكن من تحقيق مكانتها العالمية طالما ظلت أوكرانيا مستقلة.
إن طموحات روسيا بوتين تمتد إلى ما هو أبعد من أوكرانيا، فإذا ما نجح في تحقيق هدفه المتمثل في الاستيلاء على المناطق الأربع شرق أوكرانيا وتنصيب حكومة تابعة له في كييف تلبي أوامره، فمن المرجح أن يستهدف دولاً أخرى من دول الاتحاد السوفياتي السابق، والواقع أن جهوده واضحة بالفعل في مولدوفا وجورجيا وحتى رومانيا التي لم تكن أبداً جزءاً من الاتحاد السوفياتي، بل كانت جزءاً من نفوذ الأخير عبر "حلف وارسو".
وفي نهاية المطاف فمن المرجح أن تكون دول البلطيق هي التالية على الأجندة الروسية، وهي مستعمرات سابقة قاومت الخضوع لكل من إمبراطوريتي القياصرة والسوفيات، ويشار هنا إلى أن بوتين هو الرجل نفسه الذي كان قد وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه أكبر مأساة جيوسياسية في القرن الـ 20، داعياً إلى عقد "مؤتمر يالطا جديد" باعتباره الإطار المثالي لأمن أوروبا ["مؤتمر يالطا" عام 1945 جمع زعماء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد السوفياتي لمناقشة إعادة تنظيم أوروبا والعالم بعد الحرب العالمية الثانية وترسيم الحدود الإقليمية وتقاسم النفوذ).
وإضافة إلى السعي إلى الهيمنة على دول أوروبا الشرقية، كما فعل الزعيم السوفياتي السابق جوزيف ستالين بفضل "اتفاق يالطا" عام 1945، يسعى فلاديمير بوتين إلى تفكيك حلف شمال الأطلسي الذي يعتبره تهديداً مباشراً لروسيا، وهو يعتزم فصل الولايات المتحدة عن التزاماتها الدفاعية في أوروبا، وقد يكون على الأرجح هذا هو السبب في احتفال الكرملين بعودة دونالد ترمب لرئاسة الولايات المتحدة.
العقبة الرئيسة حتى الآن أمام تحقيق بوتين أهدافه تتمثل في انشغاله بالحرب في أوكرانيا والتركيز عليها، لكن موسكو تحتفظ بالمبادرة الإستراتيجية في هذه الحملة، وعلى رغم الخسائر البشرية الفادحة التي تكبدتها تواصل تحقيق إحراز تقدم ميداني تدريجي في منطقتي دونباس الشرقية وكورسك.
في المقابل تستمر أوكرانيا في خوض المعركة بعزيمة، لكنها اعتمدت بصورة كبيرة على الدعم الذي يقدمه لها حلف شمال الأطلسي وحلفاء آخرون لتجنب الهزيمة، وعلى رغم أن شركاء كييف قدموا الكثير لها لكن لم تكن هناك إستراتيجية واضحة تهدف إلى تحقيق نتيجة نهائية متفق عليها، ووصل كثير منهم إلى أقصى ما يمكنهم تقديمه.
إن أية إستراتيجية يمكن أن يعتمدها حلف شمال الأطلسي لدعم أوكرانيا بصورة فعالة وإلحاق الهزيمة بروسيا كانت لتتطلب تحولاً في العقلية والاستعداد لتقديم تضحيات من جانب ديمقراطيات غربية تعيش في رفاهية ورضا عن وضعها الراهن بصورة عامة، لكن تبين أن هذا التحول في التفكير كان أكثر مما يمكن لقادة حلف شمال الأطلسي وناخبيهم تحمله.
إن عبارة "طالما استغرق الأمر" أصبحت مجرد شعار سهل ومبتذل ولا تمثل إستراتيجية حقيقية، والنتيجة كانت تدفقاً متردداً ومتقطعاً من الدعم لأوكرانيا من جانب دول فردية وعلى أساس ثنائي، وقد ثبت أن هذا الدعم غير كاف وكان يأتي متأخراً مما دفع بكييف إلى حافة الهزيمة.
ومن المرجح أن تؤدي عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض إلى تفاقم الوضع، فقد تعهد بإنهاء الحرب في غضون 24 ساعة، علماً أن أية صفقة يسهم في إبرامها بين الجانبين ستسمح لروسيا بالاحتفاظ بأراض أوكرانية كبيرة من شأنها أن تمكن بوتين من إعلان النصر، وهذا الأمر سيسمح له بإعادة بناء قواته العسكرية والاستعداد للقيام بمحاولة أخرى في غضون الأعوام الخمسة المقبلة لإنهاء ما بدأه في أوكرانيا، وبعد ذلك أعتقد أنه سيحوّل انتباهه نحو أهداف أخرى في أوروبا، مثل دول البلطيق وشرق بولندا.
يُشار هنا إلى أن دونالد ترمب دق المسمار الأخير في نعش ما يُعرف بـ "السلام الأميركي" Pax Americana [فترة من السلام والاستقرار النسبيين في العالم، ولا سيما في نصف الكرة الغربي بحماية من الولايات المتحدة] عندما لوح بتشجيع روسيا على استهداف أية دولة أوروبية "تفشل في تسديد مستحقاتها لحلف الأطلسي".
وفي المستقبل لم يعد في وسع الدول الأوروبية الأعضاء في هذا التحالف الغربي وكندا أن تفترض أن ترمب سيحترم مبدأ الدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي بموجب البند الخامس من "معاهدة واشنطن" Washington Treaty [ينص على أن أي هجوم مسلح على عضو في الحلف أو أكثر يعتبر هجوماً على جميع الدول الأعضاء]. وفي الواقع فإن إحجام أوروبا وكندا على مدى عقود من الزمن عن تقاسم العبء المالي الدفاعي في حلف الـ "ناتو" مع الولايات المتحدة عاد الآن ليرتد سلباً على تلك الدول، وإذا كنا نرغب حقاً في منع اندلاع حرب عالمية ثالثة فيتعين على أوروبا أن تضطلع بدور أكثر فاعلية في هذا الصدد، لكن المؤشرات لا تبدو واعدة، فألمانيا وفرنسا، وهما لاعبان رئيسان في كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، تواجهان حالاً من عدم الاستقرار السياسي والاضطراب الاقتصادي، وفي الخطاب الذي ألقاه الأدميرال راداكين سلط الضوء على عدد من التهديدات التي تواجه الغرب، بما فيها "التهديدات المتهورة" بحسب تعبيره من جانب روسيا باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، وتوسع الصين في مجال الأسلحة النووية، ورفض إيران الامتثال للاتفاق النووي، وسلوكيات كوريا الشمالية غير المتوقعة.
مع ذلك وفي وقت تضع الحكومة البريطانية الدفاع في مقدم أولوياتها، فإن هذه القضية لم تكن ضمن قائمة "الأولويات الست الأهم" التي حددها رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أخيراً، والقول إن المملكة المتحدة تقوم بدور قيادي في حلف شمال الأطلسي بات فارغاً من مضمونه، لأن بريطانيا تنفق نحو 40 في المئة من موازنتها الدفاعية على ردع نووي غير فعال، ولا تخصص سوى 1.6 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع التقليدي، مما يضعها في مرتبة متأخرة للغاية بين باقي أعضاء الـ "ناتو".
في المقابل تبرز بولندا ودول البلطيق ودول الشمال الأوروبي ضمن دور ريادي في أوروبا، وتشكل نموذجاً يحتذى به للدول الخمس الكبرى في حلف شمال الأطلسي (ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا وكندا) التي يمكنها، بل ينبغي عليها، أن تفعل المزيد.
ويجب علينا أن ندرك أن روسيا بوتين ستكرر ما قامت به في أوكرانيا مع دول أوروبية أخرى ما لم تُردع، وإذا لم ينجح حلف شمال الأطلسي في إرساء نظام ردع فعال فلن نتمكن من تحقيق السلام لأنفسنا وأطفالنا وأحفادنا، ولن نتجنب وقوع حرب عالمية ثالثة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا إلا من خلال إقامة حزام ردع قوي يمتد من بحر البلطيق وصولاً إلى البحر الأسود.
ويتعين علينا الآن أن نكون مستعدين للتحرك من دون الاعتماد على زعامة الولايات المتحدة، وهذا يتطلب استعداداً كاملاً على الصعد المختلفة لمواجهة احتمالات اندلاع حرب، ويشمل ذلك توسيع وتعزيز قواتنا المسلحة (ربما إعادة فرض التجنيد الإجباري) وحماية مدننا والبنية الأساس الحيوية من الضربات الجوية المحتملة، وتطوير قدرات الدفاع المدني وتحويل الصناعات الدفاعية إلى حال استنفار لتلبية حاجات المعدات والذخيرة اللازمة، وشراء المعدات الجاهزة بسرعة لمعالجة أي نقص وسد الفجوات، إضافة إلى اتخاذ كثير من التدابير الأخرى.
إن ما نحتاج إليه في المقام الأول هو دعوة تشيرشلية إلى "التحرك اليوم"، وليس إجراء مراجعة دفاعية بطيئة من المرجح أن تؤدي فقط إلى إحداث تغييرات سطحية لن يكون من شأنها سوى إعادة ترتيب الأمور كما لو كانت مقاعد استرخاء على متن سفينة "تيتانيك".
لكن ما هو المطلب الأساس؟
الشجاعة الأخلاقية والزعامة القوية التي تثقف الناس وتتحدث بصراحة ولا تتردد في اتخاذ المواقف اللازمة، إضافة إلى استعداد شعوب دول حلف شمال الأطلسي لتقديم التضحيات اللازمة من أجل الحفاظ على السلام من خلال ردع الحرب، وبتعبير آخر يتعين علينا أن ندخل في حرب باردة ثانية لمنع اندلاع حرب عالمية ثالثة، وإذا ما أهملنا اتخاذ الإجراءات اللازمة فإن الكُلف، سواء في الأرواح أو الموارد، ستكون فادحة للغاية.
كتاب "الحرب مع روسيا" War with Russia للجنرال السير ريتشارد شيريف متوافر الآن في المكتبات.
© The Independent