ملخص
الثقافة في نهاية الأمر هي الكفيلة بتحقيق الاندماج العضوي ما بين الخصوصية الحضارية والعالمية وما بين الخيّر والنفعي وما بين الديني والدنيوي.
بالفعل، نحن لا نملك ثقافة الهدية، وهذا واقعنا الذي لا يمكننا التنكر له، وفي الوقت نفسه يجب القول وبافتخار إننا شعوب كريمة وسخية وشعوب مضيافة.
الضيافة ليست الهدية، والكرم ليس الهدية أيضاً.
إننا نفتقد ثقافة الهدية كممارسة حضارية تختلف في معناها ودلالاتها عن مفهوم الكرم والضيافة، أن تقدم لزوجتك أو أمك أو أبيك أو ابنتك أو ابنك أو أخيك أو جارك أو زميلك أو زميلتك في العمل أو صديقتك أو صديقك، هدية مهما كانت قيمتها المادية، فهذا التصرف له دلالته الحضارية والفكرية والثقافية ويعكس مستوى من الوعي الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والجمالي.
الهدية ليست بقيمتها المادية.
نحن أهل الجنوب، من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا، حين نفكر في الهدية نفكر في الأشياء الثمينة، لا في الأشياء الرمزية الدالة.
الهدية ليست مساعدة وليست مناورة وليست إغناء الفقير أو مساعدة المنكوب، فالهدية لها معنى يختلف عن كل هذه المقاصد.
في بلاد الغرب، مثلاً، تحت شجرة الميلاد التي تنصب بأسبوعين أو أكثر قبل حلول موعد الليلة الكبرى في الصالونات البسيطة، الشجرة التي تزيّن بعناية من قبل الصغار والكبار في جو مليء بالأفراح والأحلام، تحت هذه الشجرة الصغيرة الساحرة توضع الهدايا المغلفة تغليفاً بديعاً التي سيتم تبادلها ليلة الميلاد بين الكبار والكبار وبين الكبار والصغار وبين الرجال والنساء، ومن تحت شجرة الميلاد هذه ومن خلال ما يراكم من هدايا بسيطة ومتنوعة التي استطاعت (الهدايا) أن تخرج الاحتفال من طابعه الديني إلى طابعه الزمني ومن اللاهوتي إلى الناسوتي، يمكننا قراءة الذهنية السوسيولوجية للفرد وتوجهاته في هذه المجتمعات وخصائص علاقته بالعالم في راهنه، بكل ما في هذا الأخير من ارتباك وحروب قاسية وأفراح شحيحة.
في ليلة عيد الميلاد، ينتظر الفرد الموجود على ضفة الشمال هديته من عزيز أو صديق ويختار هو هديته لصديق أو عزيز، وينتظر الأطفال نزول "بابا نويل" من فوهة المدخنة كي يوزع الهدايا على الأطفال المندهشين بشكله ولحيته وطربوشه ونظارته وحذائه وزوادته ولغته، ولكن ما يهمنا في هذا الاحتفال لا طابعه الديني، ولكن ما تحمله ثقافة الهدية هذه، ما يهمنا هنا هو الوقوف عند الدلالات السوسيولوجية والثقافية التي تتضمنها الأشياء المقدمة والمتبادلة كهدايا.
الهدية هي أولاً سلوك حضاري يدل على الإحساس بوجود الآخر وجوداً متحرراً من المنفعة أو الاستثمار أو الاستهلاك أو المراوغة.
الهدية ليست شراء السكوت أو الرضا من قبل المهدى إليه.
ما يلاحظ وعلى رغم هبوب ريح الاستهلاك الشرسة التي يعرفها الغرب على أغصان شجرة الميلاد الهادئة، فإن الكتاب كهدية ثمينة وعريقة لا يزال يقاوم، لا يزال يحتفظ بمكانته بين تلال الهدايا، ويظل الأوروبي، بصورة عامة، يحافظ على ثقافة حضور الكتاب ليلة عيد الميلاد، فروايات الدخول الأدبي التي حصدت الجوائز الشهيرة مثل "غونكور" و"فيمينا" و"رينود" والأكاديمية الفرنسية وغيرها تشكل حصة أساسية في تبادل الهدايا، كما أن دور النشر الفرنسية على سبيل المثال تخصص دخولاً أدبياً ثانياً يسمى "الدخول الأدبي الصغير" أو "الدخول الشتوي"، وتتركز منشورات هذا الدخول على الكتب الجميلةLes beaux livres الخاصة بالفن التشكيلي أو فنون العمارة أو الموروث التراثي المحلي أو العالمي، أو تلك التي تهتم بسير الفنانين من موسيقيين وسينمائيين ومسرحيين، وكذلك نجوم الرياضة، وخلال الأعوام الأخيرة دخلت على الخط الكتب المخصصة لنجوم التكنولوجيا أيضاً، ويتم التركيز على نشر كتب الشريط المرسوم La bande dessinée وتسعى استراتيجية النشر الشتوي هذه إلى أن تكون هذه الكتب حاضرة في ثقافة الهدية لمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة، وبالفعل تعرف مثل هذه الكتب الخاصة مبيعات عالية في الفترة ما بين منتصف ديسمبر (كانون الأول) والأسبوع الأول من السنة الجديدة.
وتظل الثقافة في صورتها العامة حاضرة كهدية تحت شجرة الميلاد، إذ تقدم تذاكر حضور حفلات الغناء والموسيقى العالمية التي يتم التحضير لها طويلاً كهدية لعشاق الموسيقى من أفراد العائلة أو الأصدقاء، وكذلك تذاكر دخول بعض المسرحيات الشهيرة والمميزة، وتذاكر زيارات بعض معارض الفنون التشكيلية التي تقام في أكبر المتاحف، ويهدي أحدهم الآخر من المحظوظين تذاكر سفر إلى بلدان بعينها معروفة بتراثها التاريخي الإنساني العريق وعلى رأسها إسبانيا واليونان ومصر وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن مضمون الهدايا المتبادلة بغض النظر عن قيمتها المادية تعكس المستوى الحضاري للفرد والجماعة في مجتمع معيّن، فلا يهدي الإنسان إلا ما يعبر عن شخصيته، فالهدية هي في نهاية الأمر مرآة عاكسة للشخص الذي يقدمها.
أما في الضفة الجنوبية، في بلداننا من الشرق الأوسط حتى شمال أفريقيا، فلنا نحن أيضاً أعيادنا التي نفتخر بها، وتشكل شخصيتنا الحضارية الكبيرة، ولنا أعياد دينية وأخرى وطنية وشعبية وفلكلورية وتاريخية، فبكثير من السعادة والمحبة نحتفل بالمولد النبوي الشريف، وبكثير من الفخر والاعتزاز نحتفل بمطلع السنة الهجرية الجديدة ومطلع السنة الأمازيغية، ولكن لنتساءل ماذا نقدم لبعضنا بعضاً من هدايا في مثل هذه المناسبات التي نعتبرها فارقة في أيام السنة وننتظرها كباراً وصغاراً بكثير من اللهفة والحب.
مؤكد أن مجتمعاتنا وشعوبنا أكثر كرماً من غيرها وربما هي من أكثر الشعوب التي تحرص على ثقافة الضيافة، لكنها، في الوقت نفسه، تفتقر إلى ثقافة الهدية، وحين تحضر هذه الهدية تكون في غالب الأحيان ذات بعد مادي أو خارجة عن السياق، فإنسان الجنوب، بصورة عامة، يريد أن تكون الهدية ذات محتوى مادي متميز، أن تدل على الثراء، إذ تراوح الهدايا ما بين الذهب والألبسة وحتى الخرفان... والملاحظة الأساسية هي اختفاء الكتاب من سلم الهدايا نهائياً أو يكاد، فلا الكتاب الأدبي ولا الكتب الجميلة ولا كتب الشريط المرسوم ولا الروايات تحضر في أعيادنا الدينية أو الشعبية أو الوطنية، وتختفي الثقافة أيضاً، فلا يفكر الواحد في تقديم هدية متمثلة مثلاً في تذاكر لحضور الحفلات الموسيقية أو العروض المسرحية أو دخول المتاحف.
وكثيراً ما نسمع بتقديم هدايا في غير سياقها، كأن تقدم هدية ممثلة بأداء عمرة لتلاميذ حصلوا على المراتب الأولى في شهادة الباكالوريا شعبة العلوم وبعلامات الامتياز في الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء، فلا أحد ضد أداء العمرة فتلك من عاداتنا الدينية المحمودة، ولكن الأحرى لو كانت هذه الهدية المقدمة إلى مثل هؤلاء التلاميذ عبارة عن رحلة علمية وسياحية إلى بلدان يزورون فيها المخابر الكبرى ومتاحف العلوم ومصانع الطائرات والمحطات الفضائية والنووية والمكتبات الكبرى والجامعات المتخصصة بمخابرها المتميزة...
لا يمكننا مصالحة مجتمعنا مع ثقافة الهدية الثقافية إلا إذا أعدنا للثقافة مكانتها من خلال مؤسسات قوية وحرية تعبير صحيحة وحرية التفكير وتحرير الفرد من سلطة القطيع، فالثقافة في نهاية الأمر هي الكفيلة بتحقيق الاندماج العضوي ما بين الخصوصية الحضارية والعالمية وما بين الخيّر والنفعي وما بين الديني والدنيوي.