Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما انبهر ترومان كابوتي بالمجرم في "بدم بارد"

التلفزيون إذ يدنو من البعد الأكثر إثارة للتساؤل بين الجوانب الذاتية في الأدب

ترومان كابوتي والذات المنبهرة (ويكيميديا)

ملخص

شريط تلفزيون فرنسي جديد بنى فكرته على رواية الكاتب الأميركي بترومان كابوتي "بدم بارد"، لكنه ينطلق من رواية الكاتب الفرنسي إيمانويل كاريير "الخصم"، التي لا تتمتع بشهرة "بدم بارد" ولا بقوتها، إنما بنى علاقة الموضوع كله انطلاقاً من كتاب أميركي للمحققة الصحافية جانيت ملكولم عنوانه "الصحافي والقاتل"

هو من ناحية مبدئية واحد من الكتاب الذين سمعتهم الأساسية ولا سيما تلك التي تكون من نصيبهم بعد موتهم أكثر مما كانت في حياتهم، فلا يغيبون عن الواجهة الإعلامية بصورة عامة وعن الأجواء النخبوية في عالم الإبداع الأدبي بصورة خاصة، إلا ليعودوا لها ودائماً من باب عريض حتى وإن لم يكونوا على علاقة بها. ونحن نتحدث هنا عن الكاتب الأميركي ترومان كابوتي الذي حتى وإن لم يتمحور عنه الشريط التلفزيوني الذي بثته محطة "آرتي" الفرنسية بعنوان "الكاتب والقاتل" قبل أيام، وعن "غرابة" افتتانه بالمجرمين الأكثر قسوة في التاريخ الأميركي تأتي تلك الأسرة من المزارعين بكل "دم بارد" في ستينيات ولاية تكساس الأميركية، فإن "روايته" المعنونة تحديداً "بدم بارد" كانت هي الشبح المحلق من حول ذلك الشريط. والحقيقة أن هذا التحليق لا يجب استغرابه من رواية اخترعت وكاتبها صنفاً كتابياً لن يغيب عن الساحة الأدبية بعد ذلك أبداً، كما أعطت الكاتب نفسه مكانة لا تضاهى في تاريخ الأدب عنوة عن نصوصه الطويلة والقصيرة العديدة الأخرى التي كان من شأنها أن تبقى حبيسة العوالم النخبوية لولا المكانة التي احتلها كتاب "بدم بارد". ونعرف طبعاً أن ترومان كابوتي وحتى من دون هذا الحضور الكبير الذي يظل مشعاً من خلال الكتب والأفلام والبرامج التلفزيونية يعتبر من علامات القرن الـ20 ولا سيما في عالم الأدب الرفيع والتحقيقات الصحافية الجذابة التي تضافرت في سنوات الـ60 من القرن الـ20 لتوصل سمعته إلى الذروة مع اقتباس هوليوود لرواية بديعة له "إفطار عند تيفاني" من تمثيل الرائعة أودري هيبورن في واحد من أجمل أدوارها السينمائية، ويومها لئن حققت هيبوررن مكانة لا تضاهى من خلال ذلك الفيلم لم يكن ترومان كابوتي محظوظاً مثلها، حتى ولو أن جمهوراً عريضاً بات يعرفه ويقرأ نصوصه.

حضور بالمواربة

من ناحية مبدئية بنت المخرجة والكاتب التلفزيونية الفرنسية كاميل جوزا، العمل التلفزيوني الجديد الذي ينطلق منه حديثنا، على رواية للكاتب الفرنسي إيمانويل كاريير وعنوانها "الخصم" يتعلق حكاية شريطها من حول ما لا يمكن القول إنه جديد في عالم الكتابة الإبداعية لكنه جديد بالتأكيد في عالم التحليل الأدبي والعلاقة بين الأدب والحياة من طريق ما يمكن تسميته انبهار المؤلف بشخصية ما في نص له، وهو انبهار أثار حبراً كثيراً وسجالات أكثر قبل عقود، وربما تحديداً من خلال صدور كتاب "بدم بارد" لكابوتي كما أشرنا، الذي إذ كان القصد منه أن يوافي مجلة "نيويوركر" بتفاصيل الجريمة والمحاكمة التي تتناول القائمين بها، تحول إلى كتاب عن علاقة ترومان الذاتية بالحكاية ومن ثم انبهاره بالقائمين بها، ولكن من خلال ما حدث بعد ذلك من انتشار عبارة تفوهت بها الكاتبة الفرنسية مرغريت دورا، ولكن تلك المرة من دون أن يكتمل مشروع تحويله تلك العبارة إلى عمل أدبي كما أمل بعضهم. وكان ذلك حين علقت مرغريت دورا على ما تم تداوله حينها حول قضية الطفل غريغوري الذي وجد مقتولاً غير بعيد من بيته الريفي، فاتت نتائج التحقيق مؤكدة أن أمه هي التي قتلته، كان تعليق دورا يومها نوعاً.

من إعلان الانبهار بما اقترفته الأم قائلة "إنه سمو حقيقي!"، ويومها كان من نتيجة ذلك أيضاً أن عاد كتاب ترومان كابوتي إلى الواجهة وإلى التداول مرة أخرى. ففي النهاية يعرف الجميع أن "بدم بارد" أوصلت ذلك الانبهار الذي يلعبه الأدب بين الكاتب والشخصية - أو الشخصيات - إلى ذروة غير مسبوقة، بل اخترعته أو أعادت اختراعه متواكباً مع بروزه كما أشرنا، كنوع أدبي تراوح توصيفه بين الأدب المفرط في واقعيته و"الصحافة الجديدة". والمهم هنا هو أن الرواية أو الريبورتاج الصحافي الذي توزع على أكثر من 500 صفحة، لم يأت بشيء من عنده بل استقى موضوعه من تلك الجريمة الهائلة ومن انبهار الكاتب الذي قصد موقع الجريمة والسجن الذي كان المحتجزان معتقلين فيه لينبهر بهما انبهاراً جعله يتعلق بواحد منهما، ثم يسعى مع زميلته وجارته هاربر لي، الكاتبة صاحبة "لقتل عصفور ساخر" لعمل شيء ينقذهما من الإعدام بالكرسي الكهربائي.

خيبة شخصية

وإذا كان الجزء المتعلق بترومان كابوتي وكتابه في الشريط التلفزيوني الجديد هو موضوعه، غير أن الشريط الذي انطلق من رواية الكاتب الفرنسي إيمانويل كاريير "الخصم"، التي لا تتمتع بشهرة "بدم بارد" ولا بقوتها، بالطبع حتى وإن كان من الواضح أنها تلامس من ناحية قولة مرغريت دورا الشهيرة ومن ناحية ثانية كتاب كابوتي الأشهر، إنما بنى علاقة الموضوع كله انطلاقاً من كتاب أميركي للمحققة الصحافية جانيت ملكولم عنوانه "الصحافي والقاتل" صدر في عام 1989 أي تقريباً في الفترة التي قالت فيها دورا قولتها المغرقة في القسوة ما أيقظ في فرنسا في الأقل حكاية كابوتي و"علاقته" بأحد مجرمي "بدم بارد"، ومن ثم اكتملت الدائرة بين الحياة الحقيقية والأدب الجديد، ولكن هذه المرة من خلال بعد ذاتي كان هو التجديد الذي أدخله كابوتي على الحكاية برمتها. فمن قبل صاحب "بدم بارد" حتى وإن كان الانبهار بالإجرام غالباً ما اتخذ طابعاً ذاتياً فإن "الأنا" الصريحة كانت غائبة دائماً وفي الأقل في الصياغة اللغوية، ولعل هذا أهم ما يكشف عنه الشريط التلفزيوني الذي نحن هنا في صدده: الحضور الطاغي للأنا لدى كابوتي كما لدى كاريير في "الخصم"، ولكن خصوصاً في "صرخة" مرغريت دورا التي لا تماثلها صرخة في عالم الأدب. ومن هنا أهمية ذلك التحليل الذي تشارك به الناقدة والكاتبة الفرنسية المعاصرة نيج سينو في الربط بين البعدين، حين تقول إنها هي أيضاً تنبهر في مثل تلك الحالات غير أنها سرعان ما تشعر بالخجل الحقيقي لكونها انبهرت، ومن ثم تعتبر خجلها نوعاً من التعبير عن خيبة شخصية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ماذا يقول الكتاب؟

والحال إن تدخل سينو هنا إنما يأتي ضمن إطار استطلاع للرأي تضمنه الشريط استفتى فيه نحو نصف دزينة من كتاب ونقاد من الجيل السابق لمناسبة مرور 25 سنة على صدور "الخصم" ومرور ثلثي قرن تقريباً على حدوث تلك الجريمة الجماعية التي قفز ما ترتب عليها حينها من تدخل ترومان كابوتي، إلى الواجهة، وظهور نوع أدبي جديد. وكان من بين المتدخلين في الاستطلاع كاريير نفسه. ولعل هذا التدخل الجماعي يفتح الطريق الآن لاستعادة السجالات القديمة، ناهيك بكونه قدم المبرر من جديد لعودة ذلك الكاتب الكبير والغريب الأطوار الذي كانه ولا يزاله دائماً ترومان كابوتي الذي كانت الذكرى الـ50 لرحيله قبل سنوات مناسبة لظهور ما لا يقل عن فيلمين روائيين طويلين حققتهما هوليوود عنه وعن حكايته مع الجريمة الشهيرة ولا سيما من خلال انبهاره بواحد من مرتكبيها في الأقل. ومن المهم أن نستطرد هنا لنشير إلى أن ما يمكن استخلاصه حقاً من ذلك الاستطلاع الذي لا يخلو من أهمية هو أن تلك الجولة المعرفية للكاميرا متوقفة عند الأبعاد الأكثر أهمية في إجاباتهم وهو ما أكدوا عليه حتى من دون أدنى تنسيق في ما بينهم، يتعلق بما اعتبر في استخلاص الشريط عودة للجذور ونوع من وضع الضمائر أمام مسؤوليتها، إضافة إلى تأمل معمق في مفهومي العدالة والذنب والصواب. ولعل الجدير بالتنويه أخيراً ما أشارت إليه تعليقات طريفة لكنها لا تخلو من أهمية من "أننا، إذ كنا ننتظر أن تأتي تلك التأملات كنتيجة للرهاب الجماعي الذي خلقته جائحة كوفيد، إذ تكتشف الإنسانية أنها تعيش جهنمها بصورة مشتركة، وبالتالي من المحتم أن تقفز الأبعاد الإنسانية إلى الواجهة وبصورة مشتركة ما أن تعبر الجائحة ها هو كوفيد زال ولم تحدث تلك الاستعادة للوعي. حتى أتى هذا البرنامج، ولو بحجم مصغر ونخبوي ليفعل ذلك".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة