شهد قطاع غزة منذ تصاعد الهجوم الإسرائيلي في العام الماضي انهيار نظام الرعاية الصحية، وارتفاع معدلات سوء التغذية بين الأطفال، وسقوط عدد لا يُحصى من الضحايا المدنيين الفلسطينيين. إلا أنه وسط هذه المآسي تكر فصول أزمة أخرى مضمرة أكثر، مع كفاح الفلسطينيين في القطاع لتلبية احتياجاتهم الأساسية من المياه.
وكانت غزة قد عانت من أزمة حادة في المياه حتى قبل أحداث أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، بعدما عدت نسبة كبيرة من مياهها الجوفية، تفوق 96 في المئة، غير صالحة للاستهلاك بموجب معايير السلامة الصادرة عن "منظمة الصحة العالمية" World Health Organization. ويعود ذلك في المقام الأول إلى الاعتماد المفرط من جانب سكانها على استخراج المياه الجوفية، مما يجعل المياه المستخرجة غير صالحة للشرب من دون عمليات تحلية.
وتظهر أيضاً نتائج من بحث أجريناه في هذا الإطار، أنه مع قدوم عام 2022، واجه أكثر من ثلث الأسر في قطاع غزة انعداماً في الأمن المائي في العام السابق، بينما أفاد ما يقرب من ربع عدد البالغين الذين شملهم الاستطلاع في الضفة الغربية وغزة، عن مواجهة مستويات متوسطة إلى مرتفعة من غياب الأمن المائي [شح مياه الشفة]. ولا تزال التوقعات قاتمة وتشير إلى أن الوضع مرشح للتفاقم.
فقد سبق أن تعرضت البنية التحتية الهشة للمياه في غزة للتدمير، إما نتيجة هجمات مباشرة، أو بسبب التأثيرات غير المباشرة للحرب. ولم يحل الحصار الذي فرضته إسرائيل على الإمدادات الإنسانية إلى القطاع دون وصول المياه النظيفة والوقود اللازم لتحلية المياه وتوزيعها، إلى من يحتاجون إليها فحسب، بل إن جهود "جيش الدفاع الإسرائيلي" فاقمت المشكلة من طريق إغراق أنفاق حركة "حماس" بمياه البحر، مما يؤدي على الأرجح إلى زيادة ملوحة المياه الجوفية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، صنف الكلور، وهو وسيلة أساسية لمعالجة المياه في غزة، على أنه مادة "مزدوجة الاستخدام" (بمعنى أنه يمكن استعماله لأغراض مدنية وعسكرية على حد سواء)، وقد منع إدخاله إلى القطاع منذ يناير (كانون الثاني) 2024. وتمكنت "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (أونروا) United Nations Relief and Works Agency (UNRWA) من توزيع إمدادات محدودة من الكلورين في سبتمبر (أيلول) الفائت.
وطوال النزاع الحالي، أخفقت إسرائيل مراراً وتكراراً في الوفاء بالتزاماتها القانونية لجهة ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين في غزة. والقيود المفروضة على نقل المياه بين الحدود عبر أنابيب تديرها شركة تملكها الحكومة الإنسانية، "ميكوروت" Mekorot تظهر الواقع المرير ومفاده أن تدفق المياه من إسرائيل إلى القطاع، سياسية بامتياز. ونتيجة لذلك، يجد كثير من المدنيين أنفسهم محرومين من الحصول على مياه آمنة [مياه صالحة للشرب]، مما يفاقم أزمة الصحة العامة القائمة هناك في الأساس.
لا شك في أنكم شاهدتم الصور المؤلمة لفلسطينيين في غزة، وهم يشقون طريقهم بحذر بين الأنقاض، محاولين تجنب برك مياه الصرف الصحي غير المكررة، وهو النتيجة المباشرة من أزمة المياه. من بين هؤلاء، أب لستة أطفال هو عادل أبوعبيدة الذي قال لصحيفة "واشنطن بوست"، إنه وعائلته "يعيشون حرفياً في مستنقع كبير من مياه الصرف الصحي".
قد يعصى الأمر على التصور، ولكن بالنسبة إلى كثيرين من سكان غزة، تقتضي الحركة اليومية [التنقل اليومي] بالنسبة إلى كثيرين من سكان غزة، فإن التنقل اليومي يتطلب إيجاد طرق لتجنب السير في برك مياه الصرف الصحي الراكدة التي تغمر شوارع المدينة، في ظل غياب نظام صرف صحي فعال.
ولم يقتصر الأمر على ضخ مياه الصرف الصحي في الشوارع فحسب، بل وفي الهواء الطلق [العراء] أيضاً، وخصوصاً في البحر الأبيض المتوسط، بكميات مثيرة للقلق، ما يقدر بنحو 60 ألف متر مكعب (نحو 24 مساحة بركة سباحة أوليمبية) يومياً في مارس (آذار) 2024. وتشير تقارير إلى أن جميع مرافق الصرف الصحي في قطاع غزة لا تعمل.
في المقابل، عرض نقص تكرار معالجة مياه الصرف الصحي، وما يترتب عليه لا مفر من تلوث واسع النطاق لمصادر مياه الشرب، سكان غزة لمسببات المرض [أمراض خطرة]، وتسبب في أخطار صحية شديدة على الفلسطينيين، ووقوع عدد من الوفيات كان يمكن تفاديها.
تجدر الإشارة إلى أن "التهاب الكبد الفيروسي أ" Hepatitis A، وهو عدوى فيروسية تصيب الكبد، قد يتفشى على غاربه في البيئات التي تلوث فيها مياه الصرف الصحي أماكن المعيشة. ويمكن أن تؤدي العدوى التي يمكن الوقاية منها عبر اللقاحات، إلى إسهال شديد والتهاب في الكبد، مما يسبب في كثير من الأحيان اليرقان (اصفراراً في العينين والجلد).
ووفقاً لتقديرات "منظمة الصحة العالمية"، فإن عدد الحالات المشتبه فيها من "التهاب الكبد الفيروسي أ" الحاد منذ أكتوبر عام 2023، قد تجاوز على الأرجح 100 ألف إصابة، وهو رقم هائل مقارنة بأقل من 100 حالة تم الإبلاغ عنها في غزة في العام السابق.
إلى ذلك، يعزى تفشي حالات "التهاب السحايا" في مخيمات النازحين إلى انتشار مياه الصرف الصحي.
وخلال فصل الصيف هذه السنة، أعلن مسؤولون دوليون عن رصد فيروس "شلل الأطفال" في مياه الصرف الصحي في غزة، تلاه تسجيل أول حالة شلل في أغسطس (آب) 2024. وعودة ظهور "شلل الأطفال" الذي ينتقل عبر مياه الصرف الصحي ويكثر في أماكن الحرب والنزوح، ملفتة تحديداً لأن هذا الداء جرى القضاء عليه في غزة قبل نحو 25 عاماً. وفي النطاق نفسه، قد يكون تفشي الكوليرا، إن حدث أكثر فتكاً.
وعلى رغم أن التالي حل موقت، فإن الحاجة لوصول المساعدات الإنسانية من دون قيود يبقى ضرورياً لتوفير المياه النظيفة، إلى جانب الوقود ومادة الكلور، وغير ذلك من مستلزمات المياه والصرف الصحي ومساحيق النظافة الصحية (الغسيل). كما يجب توزيع أدوات معالجة المياه المنزلية، وأنظمة تحلية المياه الصغيرة التي تعمل بالطاقة الشمسية، لدعم الفئات التي هي في أمس الحاجة للحصول على مياه نظيفة.
ومن المهم أيضاً تزويد المهندسين المحليين وعمال الصرف الصحي بالموارد [الوسائل] اللازمة لإجراء الإصلاحات الضرورية للبنية التحتية المتضررة، وضمان سلامتهم أثناء القيام بمهماتهم.
لكن على المدى البعيد، ستتطلب البنية التحتية إعادة بناء شاملة، ولا شك في أن التساؤلات عن الجهة التي ستتولى قيادة هذه العملية وتمويلها ستؤدي إلى تأخير تحقيق ذلك.
وعلى رغم أن استخدام المياه سلاحاً ليس ظاهرة جديدة (بحيث تم اللجوء إلى تكتيكات من هذا النوع في كل من أوكرانيا وسوريا وإثيوبيا ومناطق أخرى)، فإن المسألة لا تزال تشكل انتهاكاً خطراً للقانون الإنساني الدولي، وهو أمر يجب التصدي له على الفور. فالمياه حق أساسي من حقوق الإنسان، ومن دون أن يحدث تدخل سريع، قد تقع أضرار جسيمة لا يمكن حصرها.
*برايان بيرلمان هو طالب دراسات عليا في "جامعة جونز هوبكنز" الأميركية، وخريج "كلية الدراسات العليا للصحافة" في "جامعة كاليفورنيا بيركلي" و"مركز حقوق الإنسان في كلية الحقوق بيركلي". وقد أسهم في إعداد هذا المقال كل من الدكتورة شالين كولينز والدكتورة زينة جمال الدين والدكتورة جوليان شيلينغر، الخبيرات في مجالي المياه والصحة العامة من "جامعة تولاين" و"كلية لندن للصحة والطب الاستوائي" و"جامعة توينتي" الهولندية على التوالي، إضافة إلى الدكتور أمير محارب المتخصص في الأمراض المعدية في كلية الطب التابعة لـ"جامعة هارفرد" الأميركية.
© The Independent