ملخص
اعتبرت موسكو أن اغتيال قائد قوات الدفاع الكيماوي في الجيش الروسي الجنرال إيغور كيريلوف عمل إرهابي آخر ترتكبه الاستخبارات الأوكرانية في عقر دارها وعاصمتها، والأدهى أن كييف اعترفت رسمياً بمسؤوليتها عن العملية التي تندرج ضمن سلسلة اغتيالات لصحافيين ونافذين روس مؤيدين للعملية العسكرية الخاصة التي تشنها القوات الروسية ضدها منذ 34 شهراً.
شكّل الانفجار الذي وقع وسط موسكو في الـ 17 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري وأودى بحياة قائد قوات الدفاع الكيماوي في الجيش الروسي الجنرال إيغور كيريلوف محطة خطرة في الصراع الروسي - الأوكراني، وعقبة جديدة أمام الجنوح إلى التفاوض والوصول إلى سلام بين البلدين السلافيين الجارين، على اعتاب انتهاء العام الثالث من الصراع الدموي بينهما، فالجنرال كيريلوف أكبر ضابط روسي تغتاله الاستخارات الأوكرانية لا في ساحة الحرب ولا ميدان القتال، بل عند مدخل المبنى الذي يقطن فيه مع عائلته، ولذلك اعتبرت موسكو هذا الاغتيال عملاً إرهابياً آخر ترتكبه الاستخبارات الأوكرانية في عقر دارها وعاصمتها، والأدهى أن كييف اعترفت رسمياً بمسؤوليتها عن العملية التي تندرج ضمن سلسلة اغتيالات لصحافيين ونافذين روس مؤيدين للعملية العسكرية الخاصة التي تشنها القوات الروسية ضدها منذ 34 شهراً.
والواضح أن حدة حرب الاغتيالات الهجينة التي أطلقتها أوكرانيا وتشنها منذ أعوام عدة بصورة متواصلة قد اشتدت في عمق الأراضي الروسية، ويعتقد الخبراء أن كييف تحاول بذلك تعطيل أو تعقيد أية محاولات يبذلها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بواسطة صديقه رئيس الوزراء المجري أوربان لعقد هدنة، كان من المفترض أن تنطلق مع أعياد الميلاد المجيد ورأس العام.
بوتين
وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقتل إيغور كيريلوف بأنه عمل إرهابي، وقال الخميس الماضي "لقد ارتكبت جريمة القتل هذه بطريقة تشكل خطراً على حياة كثيرين، وقد ارتكب النظام في كييف مثل هذه الجرائم الإرهابية مراراً وتكراراً ضد كثير من مواطني الاتحاد الروسي، وفي منطقة كورسك الآن حيث يطلقون النار على المدنيين، لقد قتلوا الصحافيين في مناطق أخرى من روسيا"، مضيفاً "يجب على وكالات إنفاذ القانون والخدمات الخاصة في الاتحاد الروسي تحسين عملها من أجل منع حالات مثل مقتل رئيس قوات الدفاع الإشعاعية والكيماوية والبيولوجية للقوات المسلحة للاتحاد الروسي".
واعتبر بوتين خلال المؤتمر الصحافي الخميس الماضي أن "مقتل كيريلوف يعني بالطبع أن ضباط إنفاذ القانون والخدمات الخاصة يفتقدون إلى القدرة على منع هذه الهجمات، ونحن بحاجة إلى تحسين هذا العمل وعدم السماح بمثل هذه الأخطاء الجسيمة"، مشيراً إلى أن مقتل كيريلوف "ليس حالاً معزولة"، ومستشهداً بمقتل الصحافية داريا دوجينا، وبحسب بوتين فإن "هذه علامات على الطبيعة الإرهابية للنظام الحالي في كييف".
يذكر أنه في الـ 17 من ديسمبر الجاري قُتل قائد قوات الدفاع الإشعاعي والكيماوي والبيولوجي للقوات المسلحة الروسية الجنرال كيريلوف ومساعده بانفجار عبوة ناسفة كانت مخبأة في دراجة نارية رُكنت أمام مدخل البناية السكنية التي يقطن فيها مع عائلته في شارع ريازانسكي بروسبكت في موسكو، وجرى رفع قضية جنائية بموجب "مواد القانون الجنائي وهي القتل والهجوم الإرهابي والاتجار غير المشروع بالأسلحة والذخائر".
ووقع الانفجار في ساعة ما قبل الفجر حين كان اللفتنانت جنرال كيريلوف يغادر منزله رفقة مساعده الساعة السادسة صباحاً متوجهاً إلى مركز عمله، فتوفي الجنرال كيريلوف ومرؤوسه على الفور، ووفقاً للبيانات الأولية فقد استخدم الإرهابيون نوعاً من الأجهزة المتفجرة القياسية مكملة بعناصر مدمرة، أي بشظايا، وحدث التفجير عن بعد حيث كانت هناك كاميرا ويب في السيارة المقابلة، وجرى إرسال إشارة العبوة الناسفة فور خروج الجنرال من مدخل المبنى.
وبداية نفت كييف لفترة وجيزة تورطها في الهجوم الإرهابي حين لم تكن التأكيدات رسمية، إذ قالت مصادر في جهاز الأمن الأوكراني إن الانفجار جرى تنظيمه من قبل جهاز الأمن الأوكراني، ثم أصدر جهاز الاستخبارات بياناً اعترف فيه مباشرة بتنظيم الهجوم الإرهابي.
وربما لم يكن اختيار ضحية جريمة مخطط لها بعناية عرضياً، فاغتيال الجنرال كيريلوف في موسكو أول عملية اغتيال تطاول أعلى رتبة عسكرية روسية خلف خطوط القتال، وأكدت وسائل إعلام أوكرانية أن مقتل كيريلوف كان عملية نفذها جهاز الأمن الأوكراني، وقبل ذلك بيوم أبلغ جهاز الأمن الأوكراني الجيش الروسي بالاشتباه في انتهاك قوانين وأعراف الحرب.
وبحسب جهاز الاستخبارات الأوكراني فإن كيريلوف هو المسؤول عن استخدام الجيش الروسي الأسلحة الكيماوية المحظورة ضد الجيش الأوكراني، وفي بداية الحرب الروسية واسعة النطاق نشر كيريلوف أخباراً عن وجود مختبرات حرب كيماوية وبيولوجية أميركية على الأراضي الأوكرانية.
ميدفيديف
وقال الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي حالياً دميتري ميدفيديف إن "أعداءنا سارعوا إلى نشر معلومات حول تورطهم، ويجب على وكالات إنفاذ القانون العثور على القتلة في روسيا، ويجب القيام بكل شيء لتدمير العملاء المعروفين في كييف والقيادة السياسية لأوكرانيا"، مضيفاً أن "تجريم مثل هذه الأعمال مفهوم جيداً في كييف نفسها حتى قبل الاعتراف الرسمي لجهاز الأمن الأوكراني، وقد أدلى مستشار رئيس مكتب فلاديمير زيلينسكي، ميخائيل بودولياك، ببيان ادعّى فيه قبل وقت قصير من اعتراف كييف بعملية الاغتيال أن أوكرانيا لا تستخدم الأساليب الإرهابية، ومع ذلك، ولم يكن هذا سراً من قبل، فخلال الأيام القليلة الماضية وحدها جرت محاولات عدة مماثلة في وقت واحد، فقُتل مصمم الصواريخ الروسي ميخائيل شاتسكي، ومُنع مقتل المصمم ديفياتكوف بأعجوبة، ولقد شهدت الأعوام الأخيرة كثيراً من الهجمات الإرهابية البارزة من هذا النوع، ومن أبرزها مقتل القائد العسكري الروسي فلادلين تاتارسكي والصحافية داريا دوغينا، ومحاولة اغتيال الكاتب زاخار بريليبين، ويبلغ عدد جرائم قتل المسؤولين الروس في دونباس عموماً العشرات، ويعتقد الساسة الغربيون أن التكثيف الحالي للنشاط الإرهابي له تفسير بسيط".
الاغتيالات تعطّل الهدنة
وزير الخارجية المجري بيتر سيارتو قال إن الهجوم الإرهابي على رئيس قوات الدفاع الإشعاعي والكيماوي الروسية يمكن أن يشكل عقبة كبيرة أمام التوصل إلى السلام في أوكرانيا، ووفقاً له فإن بودابست تعتبر مثل هذه المواقف مثيرة للقلق لأن الجانب المجري يريد تجنب أي خطر لتصعيد الصراع، وأضاف "حدث هذا التصعيد قبل تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، لذلك فقد يكون له تأثير سلبي للغاية في فرص التوصل إلى السلام في أقرب وقت ممكن".
واعتبر الرئيس السابق للجنة الدفاع البرلمانية بين عامي 2020 و2023 توبياس إلوود أن "أمام كل من أوكرانيا وروسيا شهر قبل تغيير السلطة في البيت الأبيض، ومن غير المرجح أن تُحقق أية تغييرات مهمة في ساحات القتال، في حين أن الهدنة المحتملة أصبحت قاب قوسين أو أدنى، ولذلك تستغل أوكرانيا كل الفرص لتعزيز موقفها التفاوضي، ولهذا الغرض قتلت أوكرانيا الجنرال كيريلوف".
وجرى اعتقال المشتبه فيه وهو مواطن أوزبكي (29 سنة) في الـ 18 من ديسمبر الجاري، وأثناء الاستجواب قال إنه جُند من قبل الاستخبارات الأوكرانية التي وعدته بـ 100 ألف دولار والسفر إلى إحدى الدول الأوروبية لقاء تنفيذ هذا الهجوم الإرهابي.
من هو الجنرال كيريلوف؟
وبعد أربع ساعات من مقتل الجنرال كيريلوف ومساعده ظهرت التعليقات الأولى من المسؤولين الروس، فقالت الممثلة الرسمية لوزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إن هذا الجنرال كان يفضح جرائم الأنغلو-سكسونيين لأعوام عدة، مضيفة أنه "جندي متفان وعمل بلا خوف، ولم يختبئ خلف ظهور الناس، مشى وجفونه مفتوحة من أجل الوطن الأم ومن أجل الحقيقة ".
وقال السفير المتجول لوزارة الخارجية الروسية روديون ميروشنيك إن الأدلة التي قدمها الجنرال كيريلوف تبين أنها "مؤلمة للغاية ومهددة" بالنسبة إلى شخص ما، فيما وصف نائب دوما الدولة يفغيني ريفينكو كيريلوف بأنه محارب وقائد حقيقي، وألقى باللوم على السلطات الأوكرانية في جريمة القتل، وكتب ريفينكو في قناته على "تيليغرام"،" لقد أظهر نظام كييف للجميع مرة أخرى ابتسامته المثيرة للاشمئزاز".
وكشف الجنرال إيغور كيريلوف الذي يترأس قوات الدفاع الكيماوي في الجيش الروسي لأعوام عدة وبصورة منهجية عبر وثائق كانت في متناول يده عن استفزازات الـ "ناتو" بالأسلحة الكيماوية في سوريا، وتلاعب بريطانيا بالمواد الكيماوية المحظورة والاستفزازات في سالزبري و أميسبوري، والأنشطة القاتلة للمختبرات البيولوجية الأميركية في أوكرانيا، وأكثر من ذلك بكثير، كما ينشر كيريلوف بانتظام المواد التي تجمعها أجهزة الاستخبارات، فهي لم تعلن فقط عن وجود شبكة واسعة من المختبرات البيولوجية الأميركية ولكنها أجبرت نائبة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند على الاعتراف بهذه الحقيقة.
ومن بين أمور أخرى أظهر كيريلوف أدلة على أن هذه المختبرات البيولوجية أجرت تجارب على الأشخاص الذين يعانون مسببات الأمراض الخطرة، كما جمعت أيضاً المواد الحيوية اللازمة للبحث في إنشاء أسلحة بيولوجية مستهدفة، وبالتالي فإن الهجوم الإرهابي الذي شنه جهاز الأمن الأوكراني جرى تنفيذه على الأرجح لمصلحة أجهزة الاستخبارات في الدول الغربية الشريكة لأوكرانيا.
كييف: اغتيال جنرال ليس عملاً إرهابياً
وفيما يجري الاتحاد الروسي تحقيقاً في مقتل كيريلوف باعتباره هجوماً إرهابياً بعد اعتقال المشتبه في تنفيذ هذا الاغتيال حتى الـ 17 من فبراير (شباط) 2025، قال الخبير في مركز رازومكوف التحليلي غير الحكومي الأوكراني أليكسي ميلنيك "إن هذا أشبه بالتخريب، فإذا كان هذا من عمل الأجهزة الخاصة فهذا ليس عملاً إرهابياً"، مضيفاً "عندما تكون دولتان في حال حرب ويجري القضاء على أحد أفراد قوات العدو، فيجب أن يجري تصنيف ذلك على أنه عمل تخريبي."
ويدرس ميلنيك احتمالات عدة من تنظيم عملية قتل الجنرال الروسي، مثل اختراق ممثلي الخدمات الخاصة الأوكرانية في أراضي الاتحاد الروسي وتورط عملاء نائمين وتجنيد المواطنين الروس، وأضاف الخبير أنه "يمكن أن تكون الاهتمامات مختلفة، من المواد إلى استخدام التفضيلات الأيديولوجية"، وفي رأيه فإن الاستخبارات الأوكرانية "تمتلك ما يكفي من الخبرة والقدرات" لتنفيذ مثل هذه العملية.
وجهاز أمن الدولة الأوكراني هو الوكالة الحكومية الوحيدة التي تعترف رسمياً بتنظيم مثل هذه الهجمات، وبصورة عامة فإن عدداً قليلاً جداً من التنظيمات تعلن مسؤوليتها عن هكذا اغتيالات، ومن بينها على سبيل المثال "داعش" و"القاعدة."
وبعيد مقتل الجنرال كيريلوف أبلغت مصادر في أجهزة الاستخبارات الأوكرانية على الفور جميع الصحف الأميركية والبريطانية الكبرى أنها نفذت الانفجار باعتباره جريمة قتل مع سبق الإصرار، وجاءت عملية القتل بعد ساعات فقط من قيام جهاز الأمن الأوكراني بتسجيل "مذكرة اشتباه" ضد كيريلوف، زعم فيها أن القوات الخاضعة لقيادته استخدمت أسلحة بيولوجية، وجاء في المذكرة أن كيريلوف "مسؤول عن الاستخدام المكثف للأسلحة الكيماوية المحظورة من قبل الروس ضد قوات الدفاع على الجبهتين الشرقية والجنوبية لأوكرانيا".
وقال مسؤول استخباراتي أوكراني لصحيفة "فايننشال تايمز" الثلاثاء الماضي إن " كيريلوف كان مجرم حرب وهدفاً مشروعاً لأنه أمر باستخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة ضد الجيش الأوكراني، ومثل هذه النهاية المشينة تنتظر كل من يقتل الأوكرانيين، وإن الانتقام من مجرمي جرائم الحرب أمر لا مفر منه".
وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي فرضت بريطانيا عقوبات على كيريلوف، واصفة إياه بأنه "صوت مهم للتضليل الإعلامي للكرملين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان الانفجار هو الأحدث في سلسلة اغتيالات لكبار الشخصيات العسكرية والسياسية الروسية نفذتها قوات الأمن الأوكرانية، ويعد كيريلوف أكبر شخصية عسكرية روسية تقتل حتى الآن بعيدا من ميادين القتال، ورسمياً أعلن جهاز الأمن الأوكراني مسؤوليته عن مقتل الجنرال كيريلوف خلافاً لإنكاره تورط عملائه في مقتل أفراد عسكريين روس آخرين في ظروف مماثلة خلال العام الماضي، ولا يُعرف هذا إلا من مصادر إعلامية في جهاز الاستخبارات الأوكراني، وهكذا ففي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي جرى تفجير سيارة كانت تقل رئيس مقر اللواء (41) من سفن الصواريخ والقوارب التابعة لأسطول البحر الأسود الروسي فاليري ترانكوفسكي في شبه جزيرة القرم التي ضمها الاتحاد الروسي، وسرعان ما أفادت وسائل الإعلام نقلاً عن مصدر في جهاز الأمن الأوكراني أن جريمة القتل هذه كانت من تدبير الاستخبارات الأوكرانية.
وبحسب المصدر فإن ترانكوفسكي أعطى أوامره بإطلاق صواريخ كروز من البحر الأسود ضد أهداف مدنية أوكرانية، وأنه قاد قصف مدينة فينيتسا في يوليو (تموز) 2022 والذي أسفر عن مقتل 29 مدنياً بحسب زعم جهاز الأمن الأوكراني.
وإضافة إلى ذلك فخلال الخريف الماضي جرى تفجير سيارة تقل أربعة موظفين من جهاز الأمن الفيدرالي التابع للاتحاد الروسي في بيرديانسك بمنطقة زابوروجيا الأوكرانية التي تحتلها روسيا، وقالت مديرية الاستخبارات الرئيسة بوزارة الدفاع الأوكرانية إن من بين القتلى "مجرم حرب روسي ارتكب تعذيباً وحشياً بحق مواطنين أوكرانيين محليين".
اغتيال المشتبه في خيانتهم داخل أوكرانيا
والقتل المفاجئ في ظروف غامضة وسرية لا يصيب الروس وحسب بل أيضاً المواطنين الأوكرانيين المشتبه في ارتكابهم جرائم الخيانة وجرائم الحرب، ففي أوائل ديسمبر الجاري حدث تفجير سيارة كانت تقل المدير السابق لسجن يلينوفسكايا سيرغي إيفسيوكوف وزوجته، فمات إيفسيوكوف وفقدت زوجته ساقها في مدينة دونيتسك الواقعة تحت السيطرة الروسية، وفي الصيف أبلغ جهاز الأمن الأوكراني إيفسيوكوف ونائبه الأول السابق دميتري نيولوف بشبهات سوء معاملة أسرى الحرب، وبحسب التحقيق فإنهما متورطان في مقتل أسرى حرب أوكرانيين نتيجة انفجارات على أراضي سجن يلينوفسكايا في يوليو 2022.
وفي أكتوبر الماضي وفي إنيرغودار التي يحتلها الروس، قتل مواطن أوكراني آخر وهو رئيس الأمن المادي في محطة زابوروجيا للطاقة النووية أندريه كوروتكي نتيجة انفجار عبوة ناسفة تحت سيارته، ووفقاً لمديرية الاستخبارات الرئيسة فإن كوروتكي "شارك في قمع العاملين في محطة الطاقة النووية وجرائم حرب ضد المواطنين المدنيين في إنرغودار المحتلة موقتاً".
وفي ديسمبر 2023 قُتل النائب السابق للبرلمان الأوكراني من الحزب السياسي المحظور الآن "منصة المعارضة من أجل الحياة" إيليا كيفا قرب من موسكو، وكان في الماضي مستشاراً لوزير الداخلية السابق أرسين أفاكوف وترأس الحزب الاشتراكي الأوكراني، وكان كيفا قد غادر في بداية الحرب أوكرانيا وبدأ في التحدث علناً دعماً للاتحاد الروسي، وبحسب عدد من التقارير الإعلامية نقلاً عن مصادر في الأجهزة الخاصة، فإن مقتل كيفا هو أيضاً عملية خاصة لجهاز الأمن الأوكراني، وتحسباً لجريمة القتل فقد وجدت محكمة أوكرانية كيفا مذنباً بعدد من الجرائم الجنائية، ولا سيما الخيانة، وحكم عليه غيابياً بالسجن 14 عاماً ووضع على قائمة المطلوبين الدولية.
محاولات اغتيال الدعاة الروس
كما جرت محاولات عدة لاغتيال دعاة روس، ففي ربيع عام 2023 انفجرت سيارة السياسي والكاتب زاخار بريليبين على طريق سريع في منطقة نيجني نوفغورود في روسيا، وقُتل سائق السيارة وأصيب بريليبين الذي شارك في الحربين الروسية الشيشانية الأولى والثانية، ومنذ عام 2014 وهو يدعم المسلحين الموالين لروسيا في دونباس، وفي عام 2017 اتهم جهاز الأمن الأوكراني بريليبين بالاشتباه في مشاركته في أنشطة منظمة إرهابية وتمويل الإرهاب، وفي صيف عام 2022 قُتلت الناشطة في مجال الدعاية والمؤيدة للحرب الروسية ضد أوكرانيا الإعلامية داريا دوغينا، إذ جرى تفجير الفتاة الصحافية في سيارة مملوكة لوالدها ألكسندر دوغين الذي يُطلق عليه المنظر الأيديولوجي الرئيس للكرملين.
وفي وقت لاحق أعلن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي أن الاستخبارات الأوكرانية تقف وراء عملية الاغتيال، معلناً أن الأجهزة الخاصة الأوكرانية خططت ونفذت هذه الجريمة، وجرت تسمية مواطنة أوكرانية كمنفذة سرعان ما غادرت الاتحاد الروسي، وقد رفضت السلطات الأوكرانية هذه الاتهامات.
مواقف غربية غريبة
وقد أشاد مسؤولون أميركيون وبريطانيون، قالوا إنهم لم يكونوا على علم بخطط جهاز الأمن الأوكراني، بعملية قتل الجنرال الروسي، وقال متحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إنه "من الواضح أننا لن نحزن على وفاة الرجل الذي نظم غزواً غير قانوني وتسبب في معاناة وخسائر هائلة للشعب الأوكراني"، بينما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر إن كيريلوف "كان جنرالاً شارك في عدد من الفظائع وكان متورطاً في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد الجيش الأوكراني".
وإذ لم تعلن الحكومتان الأوكرانية والأميركية المسؤولية علناً ورسمياً عن جريمة القتل هذه، فذلك لأن القتل والأعمال الإرهابية تعتبر جرائم حرب، وتنص "اتفاقات جنيف" على أنه "يحظر قتل أو جرح أو أسر عدو بالغدر"، ومن المؤكد أن استخدام الإرهابيين للأجهزة المتفجرة ضد هدف عسكري خارج ميادين القتال يعد جريمة من هذا القبيل، وفيما تمجد وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية الاغتيالات وعمليات القتل الأوكرانية للروس، فقد وصفت صحيفة "تلغراف" اغتيال الجنرال كيريلوف بالرائع، ووصفته صحيفة "وول ستريت جورنال" بأنه "جريء"، أما صحيفة "نيويورك تايمز" فنشرت "مقطع فيديو لجريمة الاغتيال أرسله لها جهاز الأمن الأوكراني وأرفقته بمقالة ذات لهجة حماسية، وكما هو متوقع فلم تدن أية وسيلة إعلامية غربية كبرى عملية القتل.
وقد قامت وسائل الإعلام الأميركية مراراً وتكراراً بتمجيد الأعمال الإرهابية وجرائم القتل التي ترتكبها قوات الأمن الأوكرانية، وقبل أيام قليلة من مقتل الصحافية الروسية داريا دوغينا في أغسطس (آب) 2022، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" خطاب تأبين لفرق الاغتيال الأوكرانية العاملة في روسيا تحت عنوان "خلف خطوط العدو، الأوكرانيون يقولون للروس: أنتم لستم في أي مكان، ولن تكونوا آمنين"، وكتبت صحيفة "وول ستريت جورنال" الثلاثاء الماضي أن "أوكرانيا قامت في بعض الأحيان بتجنيد أشخاص في روسيا أظهروا استعدادهم لمساعدة القضية الأوكرانية، وأعطتهم تعليمات مفصلة حول كيفية شن الهجمات، وهجوم الثلاثاء يحمل بصمات عملية على مستوى أعلى".
ويعتبر مقتل الجنرال الروسي جزءاً من منطق سلوك الولايات المتحدة والقوات الحليفة لها، بما في ذلك إسرائيل وأوكرانيا، والذي ينطوي على استخدام عمليات الاغتيال لتحقيق أهداف عسكرية، ففي الـ 17 والـ 18 من سبتمبر (أيلول) الماضي جرى تفجير آلاف أجهزة الاستدعاء المقدمة لأعضاء "حزب الله" في لبنان، مما أسفر عن مقتل 42 شخصاً وإصابة الآلاف، وفي وقت لاحق من ذلك الشهر قتل الجيش الإسرائيلي زعيم "حزب الله" حسن نصرالله باستخدام 20 قنبلة مخصصة لاختراق التحصينات، ودمر أحياء عدة في بيروت، وعلى رغم سلسلة الدماء هذه فإن مقتل الجنرال الكبير الذي يقود فرعاً كاملاً من الجيش الروسي يمثل تصعيداً كبيراً في الصراع، ومع أن كيريلوف لم يكن يبدو جزءاً من نظام قيادة الأسلحة النووية الروسية، لكنه بصفته رئيساً لقوات الدفاع البيولوجي والكيماوي الروسية كان بإمكانه لعب دور مهم في التخطيط النووي الروسي، ومن خلال قتل مثل هذا الشخص فإن الولايات المتحدة عبر قواتها الوكيلة في أوكرانيا، توضح أنها لن تتوقف عند أي شيء لإخضاع روسيا، ولقد أظهرت مرة أخرى استعدادها لتجاوز كل "الخطوط الحمر" التي أعلنتها حكومة بوتين وإدارة بايدن نفسها في ما يتعلق بمشاركتها في الحرب.
وفي الشهر الماضي سمحت الولايات المتحدة وبريطانيا باستخدام أسلحة بعيدة المدى قدمها حلف شمال الأطلسي لضرب عمق الأراضي الروسية، وبعد بضعة أيام فقط جرى استخدام هذه الأسلحة، إذ تبذل إدارة بايدن كل ما في وسعها لخلق "حقائق على الأرض" لضمان استمرار الحرب في التصعيد بمجرد تغير السلطة في واشنطن.
من جانبه التزم فريق ترمب الانتقالي بدعم تصعيد إدارة بايدن للحرب، وقال مرشح ترمب لمنصب مستشار الأمن القومي، مايك والتز، الشهر الماضي إن "خصومنا الذين يعتقدون أن هذا هو وقت الفرص وأنهم قادرون على تأليب إدارة ضد أخرى مخطئون"، مضيفاً "نحن نعمل يداً بيد ونحن فريق واحد، فريق الولايات المتحدة خلال هذه الفترة الانتقالية."
لكن الجنرال المتقاعد كيث كيلوغ الذي اختاره الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مبعوثاً خاصاً إلى أوكرانيا والاتحاد الروسي، اعتبر أن تصفية الجنرال الروسي إيغور كيريلوف في موسكو لم تكن فكرة جيدة للغاية، وقال كيلوغ خلال مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" التلفزيونية إن "هناك قواعد للحرب وهناك أشياء معينة لا تفعلها ببساطة، فعلى سبيل المثال لا تقتل الجنود الجرحى في ساحة المعركة، ولا ينبغي أن تقتل غير المقاتلين".
وأوضح كيلوغ أن قتل جنرالات مهمين في مسقط رأسهم يغير قواعد الحرب، وهي في رأيه ليست فكرة جيدة، مضيفاً "لا أعتقد أن هذا أمر ذكي حقاً".
وفي الوقت نفسه فإن المبعوث الخاص لترمب الذي يعتزم زيارة كييف وعدد من العواصم الأوروبية خلال يناير (كانون الثاني) المقبل واثق من أن روسيا وأوكرانيا على استعداد للدخول في مفاوضات لإنهاء الحرب.
الاغتيالات لا تحقق انتصاراً
أظهر مقتل كيريلوف اليد الطولى والقوة المفرطة التي يتمتع بها جهاز الأمن الأوكراني في تنفيذ عمليات الاغتيال داخل روسيا، لكن هذا الاغتيال الذي نجح كان نتيجة عمل تحضيري جاد، لكنه لا يقدم ولا يؤخر كثيراً في النتيجة النهائية للحرب الدائرة، ويمكن منع مثل هذه الحوادث من خلال تعزيز العمل الاستخباراتي وطرق منع مثل هذه الحوادث معروفة، فهذا هو العمل التشغيلي والاستخباراتي للخدمات الخاصة لأن أفضل طريقة لمنعه هي الحصول على المعلومات مقدماً، وهذا ممكن فقط من خلال الاعتماد على مصادر تشغيلية خاصة، فمن المستحيل تخصيص الأمن الشخصي لكل مسؤول تنفيذي رفيع المستوى وستكون فعاليته محدودة، وهناك حاجة إلى مصادر بين المعارضين الذين يمكنهم الإبلاغ عن التحضير لعمليات الاغتيال التخريبية.
إن الأهداف الرئيسة للاستخبارات الأوكرانية هي قادة الرأي والجنرالات ومسؤولي وكالات إنفاذ القانون في روسيا، وليس من الضروري أن يكون كيريلوف الأول في القائمة لكنه كان واحداً من أكثر الجنرالات الروس فعالية، وكان أداء القوات التي قادها مثالياً في منطقة العمليات الخاصة، ومن المرجح أن أجهزة استخبارات أجنبية أنشأت خلايا سرية لتنفيذ هجمات مماثلة على قوات الأمن الروسية.
كييف تحاول من خلال قتل شخصيات روسية إرغام الرئيس الروسي فلاديمير بوتن على الموافقة على صفقة معينة، ولكن هذا قد يؤدي إلى إخراج المفاوضات عن مسارها، ويعتقد الخبراء ومسؤولو الاستخبارات الغربية أن روسيا لا تعتمد على التخريب خلف خطوط العدو مثل أوكرانيا لأنها قادرة على ضرب أي نقطة في أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى، كما تفضل موسكو استخدام عناصرها في العمق الأوكراني لجمع المعلومات الاستخبارية وتوجيه الضربات الصاروخية المباشرة، وبدورها تأمل كييف في أن تقبل موسكو الشروط الأوكرانية للسلام في مقابل إنهاء عمليات الاغتيال، لكن روسيا ترفض مطلقاً هذه الصفقات.