ملخص
لماذا يتهافت المطربون والمطربات وأهل الفن عموماً، على تلبية طلبات الرؤساء ولو كانوا ديكتاتوريين، في الغناء لهم، في حضورهم أو تحت صورهم؟ هذه الظاهرة شهدتها سوريا "الاسدين" كثيراً.
قد لا يعرف كثر أن إذاعة دمشق منعت أغنية "يا طير سلملي ع سوريا" لمطربها معن دندشي بأمر من الاستخبارات السورية. الطقطوقة التي كتب كلماتها عيسى أيوب ولحنها سليم سروة تعدد على لسان مؤديها مناطق ومدناً من كل أرجاء البلاد، لكنها لا تأتي على ذكر بلدة القرداحة مسقط رأس الأسد الأب. كذلك لقيت أغنية "تك تك يا أم سليمان" للسيدة فيروز المصير ذاته، فمُنع بثها هي الأخرى لأعوام على أثير الإذاعة السورية. أما أسباب المنع فتعود لأن الاستخبارات أيضاً عدتها سخرية من اللقب الشائع آنذاك لوالدة الرئيس الراحل!
هكذا كرس الأسد الأب ومن بعده وريثه المخلوع بشار الأسد أغنيات ومطربين عملوا على تمجيدهما ومديح حزبهما الحاكم، فمنح لقب "مطرب الإذاعة والتلفزيون" لفنانين أسرفوا في مديح القائد الرمز وحركته التصحيحية، وبالغوا في تقريظ الرئيس المفدى وأطنبوا للأب المناضل، في حين استبعد كل من لم يذعن لهذا المسار.
كان الغرض الأول من أغراض الغناء السوري منذ سبعينيات القرن الماضي هو مديح الرئيس والتغزل بشجاعته وإقدامه وعروبته، مما مهد لسيطرة أسماء بعينها على فقرات إذاعة دمشق ومن بعدها على برامج التلفزيون الرسمي للبلاد. أما أشهر من غنى في مديح الطاغية الأب وابنه المخلوع فكان كل من ميادة الحناوي وفؤاد غازي، وموفق بهجت وأصالة نصري ووالدها مصطفى نصري، ولاحقاً جورج وسوف ورويدة عطية وعلي الديك وشهد برمدا. ومن لبنان غنى للأسدين كل من وديع الصافي وعلي حليحل ونجوى كرم ومروان محفوض وفارس كرم.
ظاهرة شائعة
والغناء للحكام والطغاة لم يكن حكراً على الأسدين، وبالطبع ستطول القائمة في تعداد المطربين الذين غنوا في حب كل من معمر القذافي وصدام حسين وحسني مبارك وزين العابدين بن علي. أرشيف كامل لأناشيد وأهازيج دبجها شعراء قصور الجمهورية واختفت برحيل من أهديت إليهم كعربون لمبايعة أبدية، وكصك للاعتراف بشعرائها وملحنيها ومطربيها واستئثارهم بالحظوة والأعطيات الرئاسية. لكن لماذا يستسهل الفنانون الغناء للرؤساء والطغاة؟ وكيف يمكن لشعراء هذه الأغنيات كتابة الشيء وضده؟
يقول ابن خلدون "إن الغناء أول ما ينهار عندما يصاب المجتمع بالتدهور والتخلف". ويفسر قول صاحب "ديوان المبتدأ والخبر" هذا الواقع الموسيقي العربي المعاصر، إذ تعيش الأغنية العربية المعاصرة موجة من الفوضى وضياع الهوية الموسيقية، إضافة إلى فقدان أسس التقييم الجديد والمبدع منها، وعليه تصبح الموسيقى "مجرد تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة، يوقع على كل صوت منها توقيعاً عند قطعة فيكون نغمه". ويهدينا هذا التعريف للموسيقى عند ابن خلدون أيضاً إلى المشكلة البنيوية في عدم وجود موسيقى عربية مجردة.
إن عدم وجود موسيقى عربية صرفة مشكلة متجذرة منذ العصر الجاهلي، فلقد كان للشعر حضور طاغ على الموسيقى، والشعر كما بات معروفاً -إن كان ملحناً أو مقروءاً- له أغراض لا بد من استثمارها، سواء في المديح أو الغزل أو الهجاء والحماسة والرثاء، وهذا ما سنجد له أثراً في المعلقات عند فحول الشعراء، فإن لم تتخلص الموسيقى العربية من سطوة الشعر عليها وقوة المشافهة فلن ننجح في إبداع موسيقى عربية حية ومجردة.
بات واضحاً أن الموسيقيين العرب يتعاملون مع الموسيقى كمقدمة لموشح أو لأغنية أو دور أو طقطوقة. وهذا يعود إلى حقب قديمة كانت فيها مجالس الخلفاء في العصرين الأموي والعباسي موئلاً لهذه الأغراض، إذ كان الغناء هو الترجمة الفعلية للشعر. فالغناء لا الموسيقى هو رفيق مجالس السمر والخلوة مع الجواري والمغنيات والمطربين من مثل طويس وعزة الميلاء وشارية ودنانير البرمكية وحبابة وبصبص ولذة العيش وسواهم.
الدجل السياسي
ومن هنا يمكن تلمس الانحراف الهائل الذي أصاب الأغنية العربية فتحولت من ملحمة إلى غرض من أغراض الدجل السياسي. وأتى ذلك تحت تسميات عديدة وشعارات من مثل الأغنية الوطنية والأغنية الملتزمة، وأقيمت لها مهرجانات الأغنية السياسية وسواها من الأحابيل. إن اعتماد الموسيقى العربية على الأغنية وحدها هو أوضح مظاهر تأخرها، إذ إن الأغنية بطبيعتها محدودة المجال، تكفي الكلمات فيها في كثير من الأحيان للتأثير في المستمعين كما يقول الباحث الموسيقي الراحل فؤاد زكريا (1927-2010) في كتابه "التعبير الموسيقي".
ولا نلمس هذا في الموسيقى الغربية التي استقلت عن الشعر والغناء منذ زمن بعيد، وتمكنت أن تؤدي وظيفتها التعبيرية كاملة، ومن دون الحاجة إلى معونة فن آخر، وأصبح الشعر أو الرقص لا يضاف إلى الموسيقى من أجل ملء فراغ فيها، بل من أجل إيجاد جديد من الفن الموسيقي الشعري أو الموسيقي الراقص فحسب. أما الموسيقى العربية فسارت في تيار لحني متصل يتصف بالسطحية، ولأن التوافق الصوتي هو مصدر عمق الموسيقى الغربية، وبفضله تتخذ الموسيقى عند المستمع ألواناً متجددة على الدوام ويستطيع المرء أن يكتشف فيها آفاقاً جديدة كلما عاد إليها. بعكس الموسيقى العربية التي لا تؤدي وظيفتها إلا في نطاق الأغنية الضيق، وذلك لكونها تلجأ في ألحانها إلى أساليب تفقد العمل الفني جدته وطرافته المستمرة، وتستخدم الأغنية كأداة تعبوية ولمعاضدة الحاكم وتبييض صورته أمام جماهيره.
هي مشكلة تاريخية إذاً، فالشعر هو الناظم للحن بعيداً من أي مؤلف له تفسيره الموسيقي المجرد، وعليه أصبحت الأغنية ديوان الرؤساء والطغاة العرب وأداتهم الضاربة في نشر الدعاية المضادة، ووسيلتهم السهلة في الترويج لحملاتهم الانتخابية الخلبية، فوظفوا لذلك الإذاعات والتلفزيونات الرسمية لبث بياناتهم وتدبيج خطب انقلاباتهم العسكرية، ومن ثم استخدموا المطربين والمغنين لتلميع صورتهم أمام شعوبهم، وهذا ما يجعل من الأغاني رتلاً موازياً لدبابات الديكتاتور وأجهزة أمنه وعسسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الباحث والموسيقي السوري نبيل اللو يلخص إشكالية الأغنية العربية فيقول "هل يعرف أهل السماع ثقافة الاستماع؟ ويجيب "يحب الغرب صمتاً، ويحب الشرق تهليلاً". وينسحب هذا على كل شيء خصوصاً على الموسيقى، ففي وقت يصغي الأوروبي للموسيقى إصغاء كاملاً يهلل العربي المنتشي طرباً لكل وقفة تقسيم ونهاية مقطع غناء مما اصطلح على تسميته القفلات الحراقة التي تستدعي "آه ويا سلام وكمان ومن الأول وأعد وطيب وعظمة على عظمة واجرحني". عبارات استحسان لا تنتهي تصدر عن الحضور كلما أبدع مغن، وإذا كان الأمر ينطبق على ما اصطلح على تسميته الطرب الغريزي والطرب العقلي والنفسي، فإن ما يحرك الجمهور العربي عموماً هو الطرب الغريزي الملتصق بالقفلات الحراقة، وليس الطرب العقلي الذي يقفل قفلات يستحسنها العازفون في سرهم.
لقد فعلت الأغنيات الموصى عليها فعل الأفيون في الأذن العربية، ولا سيما تلك التي تسير في ركاب تمجيد الأنظمة ومديح حكامها. إن مثل هذه الوصفة للأذن العربية أجادها ملحنون كبار، فسرت أغانيهم على ألسنة مشاهير الطرب العربي لدرجة الإدمان. ولكن هل ننكر أيضاً أن الجوائز الدسمة والمكافآت المجزية د طورت من ظاهرة الغناء للحاكم، وذلك بفضل ارتفاع حدة التنافس والتوق إلى سماع عبارة "اسفحه ألف دينار يا صاحب بيت المال". لقد استفحل الفساد في الساحة السياسية مثله داخل الساحة الفنية، فتبعهما انحدار في كل شيء، وقد حطه سيل التخلف من عل.
ليس للسقوط قاع، ولا يمكن الحد من ظاهرة شراء الأصوات وتجنيد الملحنين واستكتاب الشعراء، وعليه تصبح الأغنية أولى كتائب استطلاع الرأي وأداة ضاربة لغسيل الدماغ الجماعي، فهي سهلة النفاذ إلى قلوب الحشود وخير وسيط للتعبير عن رجاحة عقل الحاكم وحسن طلعته. هذا التسويق كان على الدوام يرافقه فيديوهات تظهر الديكتاتور بمظهر البطل المنتصر صاحب الفتوحات، وتنصبه للأبد على عرشه. إن نشيد من مثل "يا حافظ العهد" الذي كتبه محمد مهدي الجواهري ولحنه صفوان بهلوان منتصف ثمانينيات القرن الماضي خير مثال على أسطرة الديكتاتور لما كان له من أثر وسطوة عند عديد من السوريين، ثم لا ننسى أن مطربة الجيل ميادة الحناوي هي من قامت بأدائه وفق توزيع أوركسترالي محكم. صورة أرادها النظام البائد لتثبيت أركان غطرسته وصلفه الأمني، ومحو أية صورة غير تلك التي يصدرها منشدوه وملحنوه ومغنياته.