Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جون هستون أغوى هوليوود "الشعبية" بتحف الأدب النخبوي

استعان المخرج الأميركي بأعمال جويس ولاوري وهرمان ملفيل وكارسن ماكولرز وآرثر ميلر في خضم انهماكه الاضطراري بالسينما التجارية

مشهد من تحفة هستون "موبي ديك" (موقع الفيلم)

ملخص

فيلم جون هستون "موبي ديك" المأخوذ عن رواية هرمان ملفيل بالعنوان نفسه يتطلق من بعد بصري يفوق في دلالته ما تعبر عنه الرواية، ففي هذا العمل عرف هستون كيف يصور وجود الإنسان وصراعه بحثاً عن ذاته في هذا الكون

لعل السمة الأساس التي تميز فن الأميركي جون هستون السينمائي، كونه واحداً من أكثر المخرجين الهوليووديين اقتباساً في أفلامه، وتحديداً من الأدب الروائي الكبير ولا سيما النخبوي منه، إلى درجة أنه نادراً ما حقق أفلاماً غير مقتبسة من ذلك الأدب. وهو حتى حين أراد في خمسينيات القرن الـ20 تحقيق فيلم عن حياة سيد التحليل النفسي سيغموند فرويد، كلف جان بول سارتر بكتابة السيناريو، كما سنرى بعد سطور. ولئن كان فيلمه الأشهر "كنز سييرا مادري" قد اقتبس عن نص أدبي لا يمكن اعتباره من الشوامخ، فإن توقيعه شمل جملة أفلام مقتبسة من آرثر ميلر، ومالكولم لاوري وكارسون ماكالرز وحتى جيمس جويس، وغيرهم من كبار الكبار، وهو ما أسبغ عليه مشروعية أدبية قد لا يكون ثمة ما يوازيها في هوليوود التي ينتمي إليها هستون بقوة على أية حال. ومع ذلك تظل مأثرته التي لا تضاهى في هذا السياق تحويله إلى السينما رواية هرمان ملفيل الكبرى "موبي ديك"، المعتبرة من شوامخ الأدب الإنساني العالمي، والمتحدثة تحديداً عن صراع من أكثر الصراعات ضراوة بين الإنسان والحوت الأبيض، المعتبر عادة من أكثر الحيوانات وحشية وغدراً، وهو صراع إذا أدركنا أن من عناصره الرئيسة بياض لون الحوت الذي يركز عليه الفيلم، حتى وإن كان واقعاً علمياً، نجده أمام كاميرا هستون، رمزاً واضحاً وميتافيزيقياً لغيبية هذا الوحش الجبار، وإلى عبثية الصراع الذي يخوضه الإنسان معه، لأن النهاية التي تتماشى مع عظمة فصول الرواية، تغرق كل شيء وتفنيه: القاتل والقتيل، المنتقم والمنتقم منه، الإنسان والقوى التي تتجاوزه.

سينما تتفوق على جذورها الأدبية
انطلاقاً من هنا اعتبر "موبي ديك" الفيلم كما الرواية وربما في الفيلم انطلاقاً من بعد بصري يفوق في دلالته ما تعبر عنه الرواية، ففي هذا العمل عرف كيف يصور وجود الإنسان وصراعه بحثاً عن ذاته في هذا الكون. صراعه ضد المجهول، وصراعه ضد نفسه، وكما أن ملفيل لم ينكر هذا في حياته، كذلك كانت حال جون هستون الذي عرف كيف يربط الفيلم باسمه. ولئن كان هرمان ملفيل (1819- 1891) في الـ32 من عمره حين كتب "موبي ديك" التي نشرت عام 1851 في نيويورك للمرة الأولى، فإن جون هستون (1906 - 1987) كان حين أفلمها في الخمسين تماماً، وكان جزء كبير من مجده السينمائي قد أضحى خلفه. ومهما يكن من أمر هنا، وحتى وإن كان فيلم "موبي ديك" التحفة السينمائية الكبرى التي أضافها جون هستون إلى التراث السينمائي العالمي، لا بد من الإشارة إلى أن هذا المبدع وربما سيراً منه على الخطى الناجحة التي كانها اقتباس "موبي ديك" ونجاحه الهائل فنياً وجماهيرياً، بالنسبة إليه راح منذ ذلك الحين يفكر بإعادة الكرة محولاً إلى السينما أعمالاً إنسانية روائية أدبية كبرى من المستوى نفسه، غير أنه لم ينجح في إقناع الاستوديوهات الهوليوودية الكبرى لا في أفلمة "دون كيشوت" تسربانتيس ولا في تلك المتعلقة بـ"البحث عن الزمن الضائع" للفرنسي مارسيل بروست أو حتى باقتباس سينمائي كان يخطط لتحقيقه عن رواية جيمس جويس الكبرى "يوليسيس"، ويمكننا على أية حال أن نضيف ما لا يقل عن نصف دزينة من المشاريع المشابهة التي اعتقد هستون أنه سيغري بها هوليوود فتسير معه في المغامرة مكررة تجربة "موبي ديك". لقد فات هستون أن هوليوود ليست على تلك السذاجة التي اعتقدها من سماتها. وجهل أن ما دفع عاصمة السينما العالمية إلى خوض مغامرة "موبي ديك" كان طابع المغامرات لا الشموخ الأدبي. ومن هنا سرعان ما ابتعدت عن طموحات هستون الأدبية.

لا سينما مع اليأس!

لكننا نعرف على أية حال أن ذلك الفنان الهوليوودي الاستثنائي لم يكن من النوع الذي ييأس. ومن هنا رحنا نراه بين فيلم "شباك تذاكر" وآخر، يقدم على تحقيق بدائل تمثل نوعاً من تسوية بينه وبين هوليوود، وهكذا، على سبيل المثال، نراه يعود إلى جيمس جويس، إن لم يكن عبر التحفة "يوليسيس" فعبر قصة بديعة ولكن بسيطة هي "الموتى" من مجموعة "أهل دبلن" للكاتب الكبير نفسه، ورأيناه يستبدل مشروعاً صعباً مقتبساً عن "زمن بروست الضائع" برواية لا تقل روعة هي "ما تحت البركان" لماكولم لاوري. وكذلك نراه في مرحلة ما من حياته، يستغل المكانة الإعلامية التي باتت للكبير آرثر ميلر، ليس بفعل أدبه المسرحي العظيم، بل بفعل زواج الكاتب من النجمة العالمية مارلين مونرو ليغري هوليوود بإنتاج فيلم مقتبس عن نص لميلر سيقوم ببطولته ثلاثة من عمالقة هوليوود هم مارلين مونرو نفسها ومونتغومري كليفت وكلارك غايبل، سرعان ما سيرحلون عن عالمنا تباعاً، مما حقق للفيلم شهرة إعلامية إضافية لا تضاهى، أغرت هستون بأن يسعى من جديد إلى دفع هوليوود إلى مشاركته أحلامه الكبرى في مجال أفلمة الأدب. لكن هوليوود كانت قد باتت شديدة الحذر تجاهه، وهكذا راحت ترفض له المشروع تلو الآخر، بل إنه عجز حقاً عن إغرائها باستخدام جان بول سارتر الذي كان أواسط سنوات الخمسين في عز شهرته وقوته وليس فقط كمفكر وفيلسوف وداعية لوجودية انتشرت بين الشباب، بل كذلك كبطل شعبي في مجال نضالات التحرر الوطني وبخاصة من خلال مساندته الثورة الجزائرية وتقاربه مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر، غير أن المشروع الذي صممه في ذلك الحين لفيلم عن فرويد يقوم ببطولته مونتغومري كليفت لم يكتمل، ليس هذه المرة بسبب رفض هوليوود التماشي مع "إغراءات" جون هستون، بل بسبب رفضه هو نفسه الخضوع لمنطق سارتر وتصوره المفهومي الصعب للسينما من ناحية ولفرويد من ناحية أخرى! وسيقول هستون لاحقاً إنه لو كان يعلم مسبقاً أن إبعاده سارتر عن العمل في فيلم سيد التحليل النفسي سيريح هوليوود لما كان أراحها إلى ذلك الحد!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في صحبة أهل الفكر

 ومهما يكن الأمر فمن المعروف أن جون هستون (1906 – 1987) الذي بدأ حياته العملية صحافياً كان أصلاً من محبي الأدب ويفضل معشر الأدباء على معشر السينمائيين، إلى درجة أنه كثيراً ما كان يطلب من أدباء قليلي العلاقة بالسينما أن يسهموا معه في أفلامه (راي برادبري الذي كتب معه سيناريو "موبي ديك"، وآرثر ميلر الذي كتب له كما أشرنا "المنحرفون" آخر أفلام مارلين مونرو - وكانت زوجة ميلر - وكلارك غايبل ومونتغومري كليفت) ولا شك أن تلك الصداقة التي جمعته بهؤلاء الكتاب وغيرهم من المفكرين كانت هي ما حفزه طوال مساره السينمائي الكبير على تلك المحاولات التي كثيراً ما شكلت نوعاً من لعبة القط والفأر بينه وبين هوليوود. ولا شك، في السياق نفسه أن واحدة من خيبات هستون الكبرى في مجال العلاقة بالفكر والأدب كانت حكايته مع الفرنسي الكبير سارتر الذي كان هستون يأمل من تعاونه معه في كتابة سيناريو فيلم "فرويد" أن يشكل نقلة كبرى في العلاقة بين الفكر والسينما من ناحية وفي العلاقة بين السينما والتحليل النفسي من ناحية ثانية. لكن الخيبة أتت هنا من سارتر لا من هوليوود كما بتنا نعرف. وإلى هذا كله، كان هستون من كبار المبدعين في مجال إدارة الممثلين، وهو الذي أدار أباه والتر وابنته آنجليكا في أدوار عديدة نالا عليها "أوسكارات"، فيما نال هو ترشيحاً لـ15 "أوسكار" وفاز باثنتين. أما بالنسبة إلى فيلمه عن "موبي ديك"، فإنه عرف كيف يدير فيه وبإبداع استثنائي ثلاثة من عمالقة التمثيل في هوليوود في ذلك الحين: غريغوري بيك في أعظم أدوار مساره المهني، وريتشار بيزهارت، وبالطبع أورسون ويلز الذي عرف بمضاهاته هستون في ولعه بالأدب المؤفلم، وبأنه كان ينوي هو نفسه نقل رواية ملفيل إلى السينما قبل أن تستقر بين يدي هستون.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة