Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رجوع أوديسيوس برفقة كفافيس وريتسوس في فيلم "العودة"

رحلة سينمائية على وقع القصيدتين اليونانيتين "إيثاكا" و"يأس بينولوبي"

أوديسيوس بطل "الأوديسة" سينمائياً (نتفليكس)

ملخص

هل كل عودة للوطن بعد غيبة طويلة هي أوديسة؟ هل يمكنها أن تكون مرادفاً لكلمة "العودة" The Return (2024) عنوان فيلم المخرج الإيطالي أوبرتو بازوليني الذي يتخذ من القسم الأخير من أوديسة هوميروس حكايته؟.

تتوارد أسئلة كثيرة قبل مشاهدة فيلم "العودة"، ولعل من قرأ ملحمة هوميروس أو شاهد أفلاماً مقتبسة منها، وما أكثرها، سيكون مدفوعاً إلى مشاهدة الفيلم بأكثر من عدم مشاهدته، فمع كل مقاربة لهذا العمل الخالد ثمة جديد، يتخطى الأحداث إلى كيفية مقاربتها وسرد تلك الأحداث!. وليبدو جلياً ما تتيحه الأعمال الكلاسيكية من فضاءات للاقتباس وإعادة الاقتباس، ونحن نشاهد جوليت بينوش في دور بينلوبي ورالف فيينس مجسداً أوديسيوس، في ثالث ظهور لهما معاً بعد "مرتفعات وذرينغ" (1992) و"المريض الإنجليزي" (1996).

ومن جانب آخر، فإن الفيلم يقتصر على عودة أوديسيوس، أي حين وصوله إلى إيثاكا وليست رحلة عودته التي استغرقت 20 عاماً، كما أن بنية الفيلم تراجيدية حتى إن لم تنتهِ بمقتل البطل، فالتراجيدي في هذا الجزء من "الأوديسة" متعلق بالانتظار، وبينلوبي بوصفها رمز الوفاء الزوجي الذي أجده تراجيدياً بامتياز، وصولاً إلى المقتلة الكبرى التي سيفضي إليها انتظار بينلوبي. أما أوديسيوس فإنه سيعود، لكنه رجل آخر، وقد أصبحت الحرب موطنه كما يقول في الفيلم، بعد أن أمضى 10 أعوام في حرب طروادة.

مقاربة شعرية

في مقاربتي للفيلم، أعتمد على قصيدتين ظلتا مهيمنتين عليّ طوال مشاهدة الفيلم في صالة كبيرة خلت سوى من خمسة مشاهدين كنت سادسهم. الأولى هي قصيدة "إيثاكا" للشاعر اليوناني الإسكندراني قسطنطين كفافيس (1863 – 1933) والثانية هي قصيدة "يأس بينلوبي" لليوناني يانيس ريتسوس (1909 – 1990)، بما يتيح لي مقاربة رحلة أوديسيوس ما قبل وصوله إلى إيثاكا وفقاً لـ"الأوديسة" والشيء اليسير من "الإلياذة"، ومن ثم وصوله إلى إيثاكا كما يقدمه الفيلم، وقراءة نهاية حكايته وحكاية بينلوبي على نحو مغاير، وفقاً لقصيدة ريتسوس.

يقول كفافيس في قصيدته "إيثاكا"، "إذا ما شددت الرحال إلى إيثاكا فلتتمن أن يكون الطريق طويلاً حافلاً بالمغامرات، مليئاً بالمعارف. لا تخش الغيلان والمردة وإله البحر الغاضب"، إنها الرحلة ومجازاتها اللامتناهية، الرحلة وطريقها الطويل والمترامي التي يكون أوديسيوس قد فرغ منها في الفيلم، وعاد وحيداً وقد هلك رجاله، وقتل ما قتل من الغيلان وآكلي لحوم البشر والعمالقة بعين واحدة، وقد فقأ عين يولوفيموس، وعشقته نساء سحريات كثيرات، من بينهن كريكي الساحرة وحورية عاش معها سبع سنوات، ولم يأكل من اللوتس في بلاد يقتات أهلها عليه فقط، فما إن أكل عدد من رجاله منه حتى فقدوا الحنين إلى الأهل والوطن.

عاد أوديسيوس من حرب طروادة التي شارك فيها مكرهاً، هو الذي تظاهر أنه مجنون يحرس أرضه ويرمي الملح بدلاً من البذور، فإذا بمستدعيه إلى الحرب يضع أمام محراثه ابنه تيلمياخوس ليرى ما إذا كان مجنوناً بحق فإذا به يتفاداه مثبتاً بذلك رجاحة عقله، بالتالي يخوض غمار حرب تمتد 10 أعوام والتي ما كان لينتصر فيها الإغريق لولا حنكته ودهائه وحيلة حصان طروادة الخالدة.

ماضي أوديسيوس وأعماقه

في فيلم "العودة"، نحن حيال الشق الثاني من قصيدة كفافيس، ففي إيثاكا سيقابل أوديسيوس غيلاناً ومردة من نوع آخر، إنهم الرجال الذين يحيطون بزوجته بينلوبي، والمتربصين بابنه تيلمياخوس (تشارلي بلامر). فهو الآن لن يقابل الغيلان والمردة وإله البحر الغضوب، "ما لم تكن جلبتها معك في أعماقك، وما لم تكن روحك قد أقامتها أمامك"، وهذا ما سيبدو عليه أوديسيوس المحطّم والممزق والذي من كثرة صراعاته ومعاركه ومغامراته، أصبح مستنفداً تماماً، وفي أعماقه صنوف الغيلان شتى، لا يريد أن يكون غضوباً كما إله البحر لا بل إنه سيظهر في الفيلم كما لو أنه رمي من مكان مجهول واستقر في إيثاكا، أو أنه ولد من جديد، وأيما ولادة عسيرة تلك، وأول من يستقبله كلب يعضه وينهشه.

كل شيء متوقف بغيابه، زوجته محاصرة بالخطّاب الذي ينهبون ممتلكاته وممتلكاتها، وأهل بلدته في فقر وفاقة، ونجحت بينلوبي بمرواغتهم لثلاثة أعوام بحجة أنها تقوم بصنع كفن لوالد أوديسيوس لاريتريس، وهي تقوم ليلاً بحلّ خيوط ما نسجته صباحاً على نولها، ولتعاود الكرة صباحاً، إلى أن توشي بها خادماتها. سيعيش أوديسيوس هدوءاً يسبق العاصفة، سيتعافى ويستجمع نفسه، من دون أن يتعرف عليه سوى كلبه أرغوس الذي يموت فرحاً حين يقابل سيده.

أجمل ما في الفيلم أنه اتخذ من الدراما رهانه، ما من خوارق ولا آلهة ولا شيء مما تحفل به الأوديسة، فيمسي الصراع، هو صراع بينلوبي وابنها تيلمياخوس مع الخطّاب وجشعهم، وحيلة النول. بينما يكون صراع أدويسيوس على مستويين، الأول داخلي ماثل بما ألحقت به الحرب من ندوب وجراح ومآزق، ولا مبالاته بأمجاده وانتصاره الساحق في طروادة، بحيث يهيمن عليه العار بدلاً من ذلك، وأسفه وخجله من عودته وحيداً وقد قضى كل رجاله، وعليه فإنه في البداية سيكون مستسلماً، غير قادر على الفعل ولا رد الفعل، حتى إنه لم يقدم على أي فعل إلا في النهاية، محافظاً على تخفيه كمتسول، وهنا سيكون ذلك آلية للتواري ولئلا يتبينه أحد، وليس من صنيع الإلهة أثينا كما في الأوديسة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سنصل إلى النهاية السعيدة بعد اكتشاف أن هذا المتسول ليس إلا أوديسيوس والدليل على ذلك تمكنه من شد قوسه الشهير بينما عجز جميع الخطّاب عن ذلك، وليباشر المقتلة بمساعدة ابنه تيلمياخوس وخادمه إيومايوس، وصولاً إلى النهاية السعيدة.

رغبات بينلوبي الميتة

في مشهد تلك المقتلة واكتشاف بينلوبي أن أوديسيوس عاد، حاصرتني قصيدة ريتسوس سالفة الذكر التي أجدها بعيداً من شعريتها وجماليتها، معبراً استثنائياً لأعماق بينلوبي، أشد عمقاً وحقيقة من التئام شملها مع زوجها الغائب عنها لأكثر من 30 عاماً، وانتصار الحب واعتبارها "رمزاً للوفاء الزوجي"، شاهدوا مشاهد الفيلم الأخيرة واقرأوا هذه القصيدة:

"لا ليس صحيحاً، أنها لم تتبينه مع وهج الموقد:/ ليس لأنه اكتسى بأسمال متسول، على أنه متنكّر. فكل ما هو عليه جلي: / ندبة ركبته، بأسه، مكر عينيه. / ظهرها إلى الحائط، مذعورة، تبحث عن مسوّغ،/ عن وقتٍ ما، لئلا تجيب، / لئلا تبوح بما يجول في رأسها./ هل لأجل هذا الرجل، بددت عشرين سنة،/ عشرون سنة من الانتظار والحلم،/ لأجل هذا الرجل البائس الملطخ بالدم بلحية بيضاء؟ / وها هي تتهالك على الكرسي واجمةً، / تملّي ناظريها بخطّابها المقتّلين، يتوسدون الأرض/ كما لو أنهم رغباتها وقد هوت ميتة. ثم قالت "أهلاً"/ وبدا لها صوتها غريباً، آت من بعيد/  كأنه ليس بصوتها./ نولها في الركن القصي / يعكس على السقف، ظلالاً كأنها قفص/ والطيور التي نسجتها بخيطان حمر / في ثنايا أوراق خضر/ استحالت فجأة، رمادية، سوداء، ليلة عودته/ وطارت واطئة في سماء الصبر الرتيبة".

اقرأ المزيد

المزيد من سينما