ملخص
"هذه المرأة لم تكن أسطورة. كانت أسطورة بالنسبة إلى الآخرين فقط ولكن ليس بالنسبة إليّ فالحقيقة أنني كنت أنا الأسطورة الحقيقية وراء الكاميرا أشتغل على ما رحتم تسمونه أسطورة مارلين" هذا ما قاله المخرج النمسوي جوزيف فون سترنبرغ عن النجمة مارلين ديتريش التي روجت هوليوود لأسطورة العلاقة الغرامية بينهما
انطلقت هوليوود لا سيما في عصورها الذهبية بعد أعوام قليلة من بدايات السينما وبدايات القرن الـ20، وتواصلت حتى نهايات ذلك القرن، وخلالها آفاق الجمهور العريض المستهدف أصلاً بكل الحكايات الهوليوودية، على واقع مر وحقائق غيبتها السينما عنه، إذا كانت قد استحقت عن جدارة لقب "مصنع الأحلام"، فإنها وبصورة أكثر اتساعاً بكثير استحقت أكثر أن تعرف بمصنع الحكايات والإشاعات وليس فقط الحكايات التي تصاغ على شاشاتها بل تلك التي تصاغ كجزء من الحياة الحقيقية. وبالتأكيد لم يكن المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران الذي احتفل منذ أشهر قليلة بالذكرى الخامسة بعد المئة لميلاده وهو لا يزال في قمة نشاطه العملي والفكري، لم يكن مبالغاً حين أشار في كتابه العمدة "النجوم" (الذي نقله كاتب هذه السطور إلى العربية وصدر في عدة طبعات حتى اليوم)، إلى أن الحكايات المختلقة، لا سيما الغرامية منها، كانت ركناً أساسياً من حياة نجوم السينما وجزءاً أساسياً من انبناء تلك العلاقة السحرية الفاتنة التي قامت بينهم وبين جمهورهم في أنحاء العالم كافة. ولقد ربطت تلك الحكايات بين نجم ونجمة غالباً، أو العكس بالعكس، لتجعل المعجبين يعيشون بالتماهي حياة يعدونها خاصة بهم تعوض عليهم بؤس حياة يومية لا توصلهم إلى أي مكان.
ثنائي من الديار الجرمانية
في اختصار خلق وكلاء النجوم وإدارات الأستوديوهات وأجهزة الدعاية التي كانت لها أيد معطاءة في ابتداع تلك الحكايات وتجميلها ونشرها، عوالم متكاملة كانت جزءاً أساسياً من هوية السينما وحياتها، ولعل جزءاً كبيراً من تلك الحكايات تمحور من حول ثنائيات نجح الإعلام في ترسيخ وجودها وفي جعلها غير قابلة لأن تنسى حتى في أزمنة كان النجوم المعنيون أنفسهم قد صاروا في أماكن شديدة البعد من محور الحكايات المتعلقة بهم. والحقيقة أن ليس ما هو أدل على ذلك كله من تلك الحكاية التي تكاد تكون أسطورية والتي جمعت خلال الربع الثاني من القرن الـ20، بين النجمين مارلين ديتريش والمخرج السينمائي النمسوي جوزيف فون سترنبرغ، وهما اشتهرا في هوليوود بعد "مجيئهما معاً" من فيينا ليحققا نجاحات سينمائية كبيرة ولكن كل منهما على طريقته وربما على حدة أيضاً. ومع ذلك وربما انطلاقا من النجاح الهائل الذي كان قد حققه فيلمهما الأول المشترك "الملاك الأزرق" (1930)، والمعتبر عادة من درر السينما التعبيرية الجرمانية، كما سنشرح بعد سطور، كان لا بد أن تجمعهما هوليوود تحت "سقف واحد" وفي حكاية غرامية مدهشة حتى من بعدما راح كل منهما في طريقه ليبني تاريخه الخاص وأساطيره التي ليس للآخر علاقة بها.
هكذا تكلم فون سترندبرغ
"هذه المرأة لم تكن أسطورة. كانت أسطورة بالنسبة إلى الآخرين فقط ولكن ليس بالنسبة إليّ فالحقيقة أنني كنت أنا الأسطورة الحقيقية وراء الكاميرا أشتغل على ما رحتم تسمونه أسطورة مارلين". في الحقيقة أن فون سترنبرغ وقبل أي شخص آخر كان هو من قال هذا الكلام لاحقاً أي بعد أعوام من انتشار حكايات عنه وعنها أضجرته لكنه سكت عنها على مضض غالباً متجاوباً مع الضرورات العملية. ففي وقت كانت النمسا بلده، وألمانيا بلدها تتدهوران ويتدهور معهما عالم بأكمله من الفن والحياة الاجتماعية طوال النصف الأول من ثلاثينيات القرن الـ20 توجه الاثنان إلى العالم الجديد ليستفيدا من مكانة باتت لكل منهما. وانطلاقاً من القول المأثور، "لا يبدل أحد فريقاً يحقق نجاحاً" تعاونا معاً في تحقيق أفلام هوليوودية حققت بدورها نجاحات طيبة لكن شرطها كان استغلال جذورهما وصداقتهما لخلق ثنائي أسطوري نال حظوة لدى الجمهور كما أشرنا. فهذا كان عشقها وهي تلعب دور لولا في "الملاك الأزرق" تحت إدارة شريكها وتغني "أنا لولا التي لم تخلق إلا لتحب" وها هي لا يراد منها الآن في هوليوود إلا أن تؤبد ذلك الدور مرات ومرات ما دام النجاح الجماهيري وهو المطلوب بات مضمونه. فلم لا؟ غير أن تأبيد الدور يفترض وجوده على الشاشة كما في الحياة الحقيقية. وهذا البعد الأخير كان يتطلب في منظور خبراء الدعاية والانتشار، أبعاداً عديدة قد تبدو الآن ساذجة. ولعل ذلك قد خلق أولى الأساطير وفحواها أن "الملاك الأزرق" كان أول فيلم يحققه الألماني قبل أن يغزو هوليوود مع بطلته ويحقق فيها مسارات سينمائياً جديدة معها أو من دونها. لكن ذلك لم يكن صحيحاً. فون سترنبرغ ولد نمسوياً في فيينا وسبق أن حقق قبل ذلك "الفيلم الأول" عدة أفلام اشتغل عليها بين فيينا ونيويورك حيث عاش صباه المبكر. وهو استقر باكراً منذ عام 1924 في هوليوود حيث حقق فيلماً اشتهر حينها عنوانه "ليالي شيكاغو" سيكون الأصل الذي حاكاه هوارد هاوكس حين حقق فيلمه الأيقونة "سكارفيس". كما أنه وقبل "الملاك الأزرق" كان تعاقد مع شارلي شابلين لينتج له هذا الأخير فيلماً لم يكتمل أبداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قبل ظهور مارلين
وكل ذلك كان بالتالي قبل ظهور مارلين في حياة جوزيف فون سترنبرغ بل كذلك قبل أن يضيف هذا الأخير كلمة فون وسط اسمه كعلامة على أصل أرستقراطي نبيل فكانت أسطورية بدورها. ولنضف إلى هذا أن "الملاك الأزرق" صور في برلين لا في فيينا! وحتى بالنسبة إلى مارلين ديتريش لم يخل الأمر من أساطير تتعلق بها هي الأخرى. فالحكاية تقول عادة إن ذلك الفيلم الذي أدارها فيه فون سترنبرغ، كان أول عمل سينمائي بل حتى فني لها لكن ذلك غير صحيح فنجمة المستقبل ومغنيته الرائعة منذ "الملاك الأزرق" التي ولدت في برلين في العام الأول من القرن الـ20، كانت قد بدأت مسارها الفني ممثلة ومغنية في الكباريهات منذ عام 1922 ولعبت أدواراً ثانوية وحتى رئيسة في عدد من الأفلام قبل أن تلفت نظر المخرج الشاب الذي كان يقوم بزيارة إلى برلين سعياً لتحقيق فيلم فيها وكان قد قرر أن يكون الفيلم مقتبساً عن رواية "هر أورات" لهاينريش مان شقيق توماس مان، وقد جعله اكتشاف إمكانية التعاون مع الممثلة الصبية يبدل العنوان إلى "الملاك الأزرق" لأسباب لم تتضح أبداً علماً أن الاسم ليس لقباً للفاتنة المغنية والراقصة التي توقع الأستاذ الكهل المحترم في حبائل فتنتها هو الذي كان قد زار الملهى ليؤنب طلابه على فسقهم المتمثل في ارتيادهم الملهى والهيام معاً براقصته الفاتنة!
بقية الحكاية
حقق الفيلم إذاً نجاحاً هائلاً رسم درب مارلين التي توجهت نحو هوليوود بنصيحة من مكتشف إمكاناتها الإبداعية. وكان من الطبيعي أن تقوم بين الاثنين علاقة، لكنها لم تكن بأية حال تلك التي تحولت إلى أسطورة عاشت زمناً طويلاً وظلت متناقلة في وقت كانت فيه الفاتنة قد تزوجت مرات عديدة متعاقبة منها مرة مع عملاق السينما الأميركية أورسون ويلز، وصارت من النجاح والمكانة بحيث يروى أن الجنود الأميركيين كانوا يلصقون صورها على القذائف التي يلقونها من طائراتهم على مدن اليابان وغيرها خلال معارك الحرب العالمية الثانية. وربما تكون في غمرة ذلك كله قد نسيت بداياتها وشريك تلك البدايات الذي راح بدوره يكون حياته العملية المقبلة وخصوصاً كممثل من الطبقة الأولى! وذلك في زمن ظل الجمهور العريض الغافل متمسكاً بالأسطورة التي خلقت من أجله زمناً طويلاً...