ما الذي جرى في الداخل الأميركي في الأيام القليلة الماضية؟
الثابت أنه في الساعات الأولى من العام الميلادي الجديد بدت الولايات المتحدة الأميركية، وكأنها في مواجهة سلسلة من العمليات الإرهابية، بدأت في مدينة نيو أورلينز بولاية لويزيانا الأميركية، ثم امتدت إلى حي كوينز في نيويورك، وصولاً إلى لوس أنجليس في الساحل الغربي للولايات المتحدة في كاليفورنيا.
وعلى رغم أن الحقائق لم تتضح حتى الساعة بصورة جلية وواضحة للعيان، فإن المؤكد هو أن عمليات وصفها مكتب التحقيقات الاتحادي "أف بي آي" بالإرهابية، قد أسفرت عن قتلى وجرحى، عطفاً على رمزية التوقيت الذي جرت فيه العمليات، فمن جهة بدا موصولاً بالعام الجديد، وكأن هناك من يود أن يرسل رسالة حول قادم أحداث العام الجديد، ومن جهة ثانية جاءت تلك العمليات قبل أيام قليلة من تصديق الكونغرس على انتخاب دونالد ترمب رئيساً للبلاد.
ربع قرن منذ عمليات الـ11 من سبتمبر (أيلول)، ولا تزال الولايات المتحدة مفتقدة حالة الأمن والأمان الكاملة، مما يستدعي عديداً من التساؤلات حول ما إذا كانت الطرائق كافة التي عالجت بها أزمة العنف المسلح قد نجحت أم أخفقت، لا سيما بعد غزو أفغانستان، ثم العراق، ناهيك بعديد من العمليات العسكرية جهراً وسراً، التي مضت بها المقادير، ولا يزال الإرهاب حاضراً.
ويستدعي مشهد الإرهاب في الداخل الأميركي، مع الإدانة الكاملة أولاً لكل ما جرى، طرح علامات استفهام، واستدعاء تحليلات سياسية، أمنية، اجتماعية وأنثروبولوجية، وبين هذا وذاك النظر إلى التداعيات التي ستحملها العمليات الأخيرة على سياسات الرئيس الأميركي الجديد في الداخل الأميركي أول الأمر، وخارج أميركا تالياً، مما يعني أن ولاية ترمب الجديدة ستطبع بطابع التحدي والتصدي، وغالب الظن عبر الأدوات العسكرية والأمنية بأكثر من السياسية.
من أين لنا أن نبدأ؟
ساحة حرب في طرقات نيو أورلينز.
لم يعد هناك شك أن ما جرى كان عملاً إرهابياً بكل ما تعنيه الكلمة من نيات ومخططات، ناهيك بأدوات وآليات وجدت بالفعل في موقع الحادثة. ويكاد أي محلل محقق ومدقق لشؤون الأمن والإرهاب أن يقطع بأن آلية الدهس باتت المكافئ الموضوعي لفكرة استخدام الطائرات كأدوات موت طائر.
غير أن مشهد نيو أورلينز ربما كشف عن تشبع بفكر إرهابي لتنظيم "داعش"، لا سيما بعدما وجد في سيارة الجاني علم التنظيم، عطفاً على قيامه بإطلاق الرصاص بعدما ترك سيارته التي صدم بها المحتفلين في المدينة ذات الأصول الفرنسية بالعام الجديد، مما أوقع نحو 15 قتيلاً وعشرات من المصابين، في ما يعد مذبحة حقيقية لا مجازية.
ولاحقاً بدأ يتكشف عن أن الأمر ليس وليد الصدفة، بمعنى أنه لم ينجم عن اندفاعة عاطفية من شخص مريض نفسياً، حاول أن يخرج من ذاته إلى الآخرين ولو بالدماء، وإنما وجد الأميركيون أنفسهم أمام فعل مخطط له على أعلى مستوى، فالرجل شمس الدين جبار استأجر سيارة وقادها من تكساس، أي كانت لديه رؤية خاصة، وتكبد مسافة سفر تزيد على سبع ساعات، ليترك ساحة المدينة وكأنها منطقة حرب على حد تعبير زيون بارسونز أحد شهود العيان الذي قاده حظه في تلك الليلة ليكون هناك "رأيت الساحة وكأنها تحولت إلى منطقة حرب حيث الجثث ملقاة على الرصيف، وأناس جرحى، وغيرهم يبكون، وآخرون يركضون ويصرخون".
وباختصار، يبدو واضحاً أن ما حدث هو عمل مدبر بليل بهيم، وأفاد مكتب التحقيقات الاتحادية بوجود عبوات ناسفة بدائية في سيارة الجاني، ولو قدر لها أن تنفجر، لربما زادت من هول الكارثة، مما يعني أن فيروس الكراهية كان قد تمكن من المشتبه فيه الذي لقي مصرعه في موقع الحادثة على يد رجال الشرطة الأميركية.
والثابت أنه لم يكد القائمون على إنفاذ القانون يستيقظون على هول الصدمة في نيو أورلينز، حتى فاجأتهم قصة لها كثير من الأهمية الرمزية، فقد حدث انفجار شديد في شاحنة خارج فندق ترمب في لاس فيغاس.
ولم تكن السيارة سوى واحدة من سيارات "تسلا"، الماركة الشهيرة لرجل الأعمال الملياردير إيلون ماسك، صديق ترمب الصدوق ولو أخيراً، والرجل المكلف الإشراف على مكتب جديد في إدارة ترمب القادمة، مهمته تقليل النفقات البيروقراطية للحكومة الأميركية، مما يعني أن هناك من يرسل رسالة لترمب عبر ماسك.
وتالياً جاء إطلاق الرصاص في حي كوين ليعيد المخاوف من تفشي العنف، حتى لو لم يكن نوعاً من الإرهاب الرسمي، مما جعل الجميع، وفي مقدمهم الرئيس المنتخب ترمب يتساءل "ما الذي تواجهه أميركا في هذه الآونة؟".
الشر الخالص يحلق في سماوات البلاد
لم ينفك الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب أن يصدح صباح مساء كل يوم، مندداً ومحذراً من هول الإرهاب القائم والقادم، غير أن سيد البيت الأبيض الجديد ربط بين الهجرة والمهاجرين غير الشرعيين، الذين اتهمهم، مرات كثيرة، بأنهم السبب الرئيس في غياب الأمن والأمان في الداخل الأميركي، وبدا واضحاً أنه يرتب أوراقه لما يمكن أن يضحى أكبر عملية ترحيل جماعي في تاريخ أميركا، منذ الحرب العالمية الثانية وما جرى لليابانيين هناك وقتها.
أول تصريح لترمب، وإن جاء مقتضباً، إلا أنه يعكس من دون أدنى شك توجهاً أيديولوجياً ممنطقاً بمسحة دوغمائية تستحضر الصراع الأزلي بين الخير والشر "شر خالص"، هذا كان تعليق ترمب على منصة "تروث سوشيال"، ومضيفاً "قلوبنا مع جميع الضحايا الأبرياء وأحبابهم، بما في ذلك الضباط الشجعان في قسم شرطة نيو أورليانز". ولم يكن ترمب ليفوت الفرصة لإظهار نياته القادمة قريباً، بعدما يصبح صاحب البيت الأبيض "ستدعم إدارتي القادمة مدينة نيو أورلينز بصورة كاملة أثناء التحقيق والتعافي من هذا العمل الشرير الخالص".
جاءت حادثة نيو أورلينز في الأيام الأخيرة من رئاسة جو بايدن، مما مثل بالنسبة إليه لطمة شديدة، وربما زادت من كآبته وإحباطاته، إذ سيغادر البيت الأبيض وثوب إدارته ملطخ بحادثة إرهابية بشعة.
لكن وعلى رغم ذلك فقد حاول إظهار تماسكه ودعمه سلطات إنفاذ القانون، والتنسيق مع مكتب التحقيقات الاتحادية، وتوجيه فريقه في البيت الأبيض لضمان توفر كل الموارد، من أجل الوصول إلى حقيقة ما حدث في أسرع وقت ممكن وضمان عدم وجود أي تهديد متبق من أي نوع.
وبدا بايدن وكأنه يعزف على وتر الأخلاقيات، في حين كانت تملأ الدماء شوارع نيو أورلينز، وذلك عبر تصريحه "لا يوجد مبرر للعنف من أي نوع، ولن نتسامح مع أي هجوم على أي من مجتمعات أمتنا".
هنا ربما يمكن للقارئ أن يتساءل: هل تغافلت إدارة بايدن عن العنف المختفي والمختبئ بين جنبات المجتمع الأميركي، ثم، وهذا هو الأهم، هل كانت هناك بالفعل تحذيرات تشي بأن أعمالاً إرهابية ستجد طريقها إلى الداخل الأميركي في وقت قريب، ولم يُلتفت إليها بصورة جدية، مما أفرز مثل هذه الحوادث، وربما غيرها في وقت قريب؟
تحذيرات سابقة من الخلايا النائمة
في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 كان رئيس مجلس النواب السابق كيفن مكارثي يحذر من الخلايا النائمة المحتملة في الداخل الأميركي والكفيلة بإحداث عمليات إرهابية، وتنتظر الأمر بالضرب.
تحذيرات مكارثي جاءت خلال لقائه في برنامج "واجه الصحافة" على قناة NBC إذ أشار إلى تقرير جديد أصدرته الجمارك وحماية الحدود الأميركية يظهر أن 18 شخصاً على قائمة مراقبة الإرهاب لمكتب التحقيقات الفيدرالي قُبض عليهم على الحدود الجنوبية في سبتمبر من ذلك العام، وهو ما يمثل أكثر من 160 شخصاً قُبض عليهم حتى الآن.
في اللقاء نفسه قال مكارثي "إذا نظرت ببساطة إلى الفوضى الحالية، والحدود الجنوبية المفتوحة على مصراعيها، فأنا أشعر بالقلق في شأن خلية تجلس داخل أميركا اليوم".
فهل مخاوف مكارثي مرتبطة بما يجري حول العالم وارتدادات ذلك على الأمن الداخلي الأميركي؟
غالب الظن أن الأمر بالفعل له علاقة وثيقة بهذا المفهوم، فقد أكد مكارثي أنه "حال النظر إلى الشرق الأوسط والانتفاضات التي اندلعت في أوروبا وغيرها، سيكون من الطبيعي أن يقطع المرء بإمكانية وجود خلايا نائمة في أميركا الآن".
وألقى مكارثي باللوم الكبير والخطر على إدارة الرئيس بايدن، متهمها بأنها لم تفعل شيئاً لتغيير ما يحدث على الحدود الجنوبية.
وعلاوة على ذلك، ذكر النائب الجمهوري أنه لو كان لا يزال رئيساً لمجلس النواب، لكان قد تأكد من "أننا ننظر إلى حدودنا، وأننا لا نملك أي خلايا نائمة هنا، وأننا سنوقف هؤلاء الإرهابيين بالفعل عن عبور حدودنا". وجاءت تصريحات مكارثي بعد اندلاع ما عرف باسم "طوفان الأقصى" في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
وعلى رغم قلق السيد مكارثي في شأن الخلايا النائمة للإرهاب في الولايات المتحدة، فقد قال متحدث باسم وزارة الأمن الداخلي إن الوزارة "لا تملك معلومات استخباراتية محددة وموثوقة تشير إلى وجود تهديد للولايات المتحدة في الوقت الحالي، ناجم عن الهجمات الإرهابية التي شنتها ’حماس‘ في إسرائيل". وأضاف المتحدث أن الوزارة "تراقب من كثب الأحداث الجارية، وستواصل المشاركة في تبادل المعلومات مع شركائنا في الاستخبارات وإنفاذ القانون في الداخل والخارج". وهذا يدفع الباحث في شؤون الإرهاب إلى أن يتساءل "هل كانت تلك التوقعات خاطئة، والتركيز على محاربة الإرهاب مضى في اتجاه مغاير مما سمح بالفعل بوقوع مثل جريمة نيو أورلينز؟".
التركيز بعيداً من "القاعدة" و"داعش"
بحسب تصريحات مكتب التحقيقات الاتحادية، يبدو من الواضح أن وجود علم "داعش" في سيارة المشتبه فيه في حادثة نيو أورلينز يؤكد فكرة تأثره بأفكار التنظيم، مما يعني الحضور الأيديولوجي للتنظيم بصورة ما.
والسؤال هنا: هل انشغلت إدارة بايدن بالصراع الحزبي مع الجمهوريين، والتركيز على الانتقام والثأر من دونالد ترمب، ونسيت الخطر الأكبر المتمثل في تنظيمي "القاعدة" و"داعش" ومن لف لفهما؟
في الأول من يونيو (حزيران) 2024 قدمت قناة "فوكس" تقريراً مثيراً للأميركيين، جاء فيه أن الولايات المتحدة تتجه الآن بعيداً من التركيز على أكثر الجماعات الإرهابية ضراوة، لا سيما "داعش" و"القاعدة ". وعمل على التقرير جوشوا كيتينغ المراسل البارز في "فوكس" الذي يغطي عادة السياسة الخارجية والأخبار العالمية، ويركز دوماً على الصراعات الدولية.
يلفت جوشوا بداية إلى أن عمليات مكافحة الإرهاب التي كانت تقوم بها القوات المسلحة الأميركية في العقدين الماضيين، وبخاصة بعد حادثتي نيويورك وواشنطن، قد أصبحت هادئة إلى حد ملحوظ هذه الأيام. والشاهد أنه عندما انسحبت القوات الأميركية من أفغانستان في أغسطس (آب) 2021، أكد الرئيس جو بايدن للأميركيين أن القتال ضد الجماعات الإرهابية في البلاد، السبب الظاهري لغزو الولايات المتحدة أفغانستان قبل ما يقارب 20 عاماً، سيستمر. ويومها قال بايدن في خطاب متلفز "لقد طورنا قدرة مكافحة الإرهاب عبر الأفق والتي ستسمح لنا بإبقاء أعيننا ثابتة على أي تهديد مباشر للولايات المتحدة في المنطقة والتصرف بحسم وسرعة إذا لزم الأمر".
فهل غفلت أعين بايدن وأجهزته عن الترتيبات التي كانت تعد لمذبحة نيو أورلينز؟
غير أنه خلال الأعوام الثلاثة تقريباً التي مرت منذ ذلك الحين لم يكن هناك سوى مثال واحد على تحرك الولايات المتحدة ضد تهديد من أفغانستان، أي الغارة التي قتلت زعيم تنظيم "القاعدة" أيمن الظواهري في أغسطس 2022.
وفي الوقت عينه تراجعت عمليات مكافحة الإرهاب الأميركية خطوة أخرى في مايو (أيار) 2024، بإعلان الولايات المتحدة أنها ستسحب قواتها من النيجر بناءً على طلب من حكومة البلاد، التي وصلت إلى السلطة في انقلاب عسكري في الصيف الماضي.
وفي الأعوام الأخيرة كان لدى الولايات المتحدة أكثر من 1000 جندي متمركزين في البلاد ويديرون قاعدة طائرات من دون طيار واسعة النطاق، لمراقبة الجماعات المسلحة في منطقة الساحل في شمال أفريقيا، وهي مركز ناشئ لنشاط الإرهاب العالمي، كما سُحبت القوات من تشاد المجاورة بناءً على طلب تلك الحكومة.
اقرأ المزيد
- "أف بي آي": لا صلة لـ"الإرهاب" بانفجار شاحنة "تيسلا" في لاس فيغاس
- مرشح ترمب لمستشار الأمن القومي: حماية إسرائيل ومكافحة الإرهاب من أولوياتنا في المنطقة
- بعد حادثة نيو أورلينز... هل يترك ترمب الشرق الأوسط ليواجه مصيره؟
- مكارثي أمام المهمة الأصعب لتمرير صفقة سقف الدين الأميركي
- محاكمات 11 سبتمبر قد تجبر أميركا على كشف أسرار غوانتانامو
- الكونغرس يتحدى العاصفة للتصديق على انتخاب ترمب
هل كانت إدارة بايدن مصابة بخلل جسيم بالفعل في مواجهة الإرهاب؟
بحسب جوشوا كيتينغ، فإن من الواضح أنه حتى لو لم تنته "الحرب على الإرهاب"، تماماً، فإنها ليست المبدأ التنظيمي المركزي للأمن القومي الأميركي كما كانت للإدارات السابقة. وعلى عكس أسلافه بعد الـ11 من سبتمبر لم يصدر البيت الأبيض في عهد بايدن استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب.
وفي استراتيجية الأمن القومي الصادرة في أكتوبر من عام 2022، التي تؤكد بشدة "المنافسة الاستراتيجية" مع المنافسين الاستبداديين مثل الصين وروسيا، يتلقى الإرهاب قسماً من صفحة واحدة فحسب، بعد تغير المناخ وانعدام الأمن الغذائي. وأصدر البيت الأبيض إرشادات سياسية جديدة لوكالة الاستخبارات المركزية و"البنتاغون"، ووضع حدوداً وبروتوكولات أكثر صرامة خُففت من قبل إدارة ترمب على ضربات الطائرات من دون طيار، وغارات القوات الخاصة التي أجريت خارج مناطق الحرب المعلنة.
هنا يبدو واضحاً أن اتجاهاً ما داخل إدارة بايدن قد مضى في طريق تخفيض الموارد الموجهة لمحاربة الإرهاب، غير أنه، وبحسب كولين كلارك الباحث البارز في مكافحة الإرهاب في مركز "صوفان" في نيويورك، بدا الوضع "كأن البندول قد تحول من اتجاه إلى آخر" مما جعل الولايات المتحدة عرضة لهجوم جديد، ربما لم تعد أميركا مهتمة بالإرهاب، لكن الإرهابيين ما زالوا مهتمين بأميركا .على أن التساؤل الجديد الذي خلفه حادثة نيو أورلينز "هل هناك عطب داخلي أميركي يكاد يكون أخطر من فكرة ترمب وغيره حول الإرهاب القادم من خارج البلاد؟".
نيو أورلينز وفشل المجتمع الفسيفسائي
رويداً رويداً تكشفت ملامح منفذ هجوم نيو أورلينز شمس الدين جبار، والمفاجأة أنه ليس مهاجراً حديث النشأة بالولايات المتحدة الأميركية، ولم يتسرب عبر الحدود إلى تكساس، بل هو مواطن أميركي يبلغ من العمر 42 سنة، والأكثر إثارة هو أنه خدم في القوات المسلحة الأميركية ووصل إلى رتبة رقيب، وتخصص في الموارد البشرية وفي تكنولوجيا المعلومات.
ونقلت شبكة NBC تصريحات لمن وصفته بأنه "صديق الطفولة" لمنفذ الهجوم، ويدعى كريس بوسون، وفيها أنه مصدوم مما حدث، ذلك أن جبار كان شخصاً هادئاً بل انطوائياً وذكياً.
غير أن مكتب التحقيقات يقول إن جبار نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل ساعات من تنفيذه هجومه، مقاطع فيديو تشير إلى أنه استلهم أفكار تنظيم "داعش". فهل تقودنا هذه المعلومة، وغيرها مما سيتوافر قطعاً لسلطات التحقيق للتساؤل عما إذا كانت فلسفة المجتمع الفسيفسائي الأميركي، أو نظرية بوتقة الانصهار، تبدو أخيراً وكأنه مشكوك فيها.
عبر 42 سنة هي عمر جبار، ونشأة أميركية خالصة، ولغة ولسان ونطق أميركي خالص، بل وعمل في المؤسسة العسكرية الأميركية، يصل جبار إلى لحظة حياتية مفارقة، يميل فيها إلى اعتناق أفكار تنظيم إرهابي عالمي، طارت أفكاره بالأجنحة عبر الأثير، ووصلت إليه، وآمن بها، حتى لو كان إيماناً بالموت والدماء.
حديث بوتقة الانصهار ليس بحديث جديد بل يضرب بجذوره في عمق التاريخ الأميركي.
على سبيل المثال لا الحصر، في فبراير (شباط) 1915، نشرت مجلة "ذا نيشن" أو "الأمة"، مقالاً من جزءين بعنوان "الديمقراطية في مواجهة بوتقة الانصهار: دراسة للقومية الأميركية"، بقلم خوراس كالين الذي كان أستاذاً للفلسفة في جامعة "ويسكونسن" في ماديسون. وفي تحد مباشر لحركة الأمركة زعم كالين أن هذه الفكرة لا تروج لدمج عديد من الثقافات، بل لهيمنة ثقافة واحدة. وكان من المفترض أن يتحول "اليهود والسلاف والبولنديون والفرنسيون والألمان والهندوس والإسكندنافيون وغيرهم، بفعل معجزة الاستيعاب إلى كائنات تشبه في خلفيتها وتقاليدها ونظرتها وروحها أحفاد المستعمرين البريطانيين، من أصول أنجلو - ساكسونية. وكان من المفترض أن يحكم الأنغلو - أميركيون، تحت ستار الأميركيين الأصليين، في حق البكورية الثقافية".
كان المهاجرون الأوائل، بسبب الصدفة التي جعلتهم الأوائل، قد تحولوا إلى طبقة أرستقراطية، تدافع عن "فخر الدم"، ولم يكن هذا الأمر، مناهضاً للديمقراطية فحسب، بل استبدادياً أيضاً، إذ قوبلت المقاومة من جانب المجموعات العرقية الخاضعة بإجراءات قسرية مثل نظام المدارس العامة الأنغلو- أميركية، الذي حاول القضاء على عادات وتقاليد البلاد القديمة من خلال سحق روح التلاميذ المهاجرين.
اليوم وبعد أكثر من 100 عام من مقال مجلة "الأمة"، ربما يجب علينا أن نتوقف أمام ما قاله المؤرخ الأميركي الأشهر آرثر شليزنجر، من أنه "في معظم التاريخ الأميركي كانت هناك أمة عنصرية، تميز بحدة بين البيض الأنغلو – ساكسون والهنود الحمر والسود الأميركيين والآسيويين والمكسيكيين، وكثيراً ما استبعدتهم من فعاليات المجتمع الأميركي الحقيقية، وعملوا على تهميشهم".
فهل جاء هجوم جبار ليعيد الحفر عميقاً حول النسيج المجتمعي الأميركي؟ وكيف أنه يعاني بالفعل شروخاً عميقة في هيكله البنيوي التكتوني؟
الجواب سيقودنا إلى تبعات هذا العمل الإرهابي على رئاسة دونالد ترمب القادمة... ماذا عن هذا؟
ترمب ورئاسة بطعم محاربة الإرهاب
هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن تحدث العمليات الإرهابية الأخيرة في الداخل الأميركي، قبل ثلاثة أسابيع من تنصيب ترمب، وقبل أقل من أسبوع من تصديق الكونغرس على فوزه بالأصوات الانتخابية؟
في حقيقة الحال لا يهم الجواب كثيراً، فيما الأهم موصول بالتداعيات التي سيشهدها الداخل الأميركي بعدما يتسيد ترمب البيت الأبيض والإجراءات المثيرة التي سيمضي في إثرها حكماً.
إن علاقة جبار بـ"داعش" ربما تعيد من تجليات أفكار ترمب التي استهل بها إدارته الأولى، وفي مقدمها فرض إجراءات تعسفية على دخول زائرين من دول ذات طبيعة ثقافية وعقائدية مغايرة، لا سيما من منطقة الشرق الأوسط وبعض دول آسيا.
وعطفاً على ذلك سيكون من الطبيعي أن تغازل ترمب أفكار موصولة بتشديد الإجراءات على المهاجرين الشرعيين، وفي مقدم من تلك الإجراءات ما قد نادى به سابقاً من اختبار قيم المهاجرين المحتملين اختباراً أيديولوجياً، وقد يصل إلى مرحلة البحث والتفتيش في النيات والإيمانيات، مما يعني انفلاش فيروس المكارثية، لكن بنسخة "هنتنغتونية" مرة جديدة، مما يفتح الباب واسعاً لشقاقات وفراقات عميقة وكارثية في الجسد المجتمعي الأميركي.
والثابت أنه وعلى رغم مرور زمن الانتخابات في نوفمبر الماضي في هدوء، ومن غير اشتعال للمواجهات بين الأميركيين، فإن كثيراً من المراقبين يرون أنه نوع من أنواع الهدوء الذي يسبق العاصفة.
في هذا الإطار يبقى من نافلة القول إن التيارات اليمينية المختلفة المتفاوتة من يمين متشدد إلى يمين وسط إلى جماعات يمينية تؤمن بحمل السلاح، هذه كلها قد تجد في أمثال "جبار نيو أورلينز"، دافعاً معززاً لقيامها بمزيد من العنف المضاد، الذي يسهم بالفعل في إشعال شرارة الحرب الأهلية.
من جانب آخر يتساءل مراقبو حال حقوق الإنسان عن مدى التضييق الذي يمكن أن تمارسه إدارة ترمب في الداخل الأميركي على الحريات، إذ ستعود من جديد المفاضلة العبثية بين الأمن والحرية، وما إذا كان الاهتمام بالأمن يعني بالضرورة التخلي عن مساحات واسعة من الحريات، والتنازل عن مقدرات شاسعة من الحقوق الخاصة التي يكفلها الدستور، وفي مقدمها حرية الرأي والتعبير؟
ترمب والطريق للعالم الخارجي
يحتاج تحليل مشهد علاقة ترمب والعالم الخارجي، في ظل تصاعد موجات الإرهاب في الداخل الأميركي، إلى قراءة مفصلة، غير أنه يمكننا الإشارة إلى بعض النقاط المهمة.
في مقدم القضايا المثيرة التي سيجب على ترمب مواجهتها الخلافات مع كندا، التي تتهم من قبل عديد من دعاة اليمين الأميركي بتعاطفها مع الإرهاب. ويقول هؤلاء إن رئيس وزراء كندا جاستن ترودو يواصل إلقاء المحاضرات ويبعث برسائل الفضيلة، بينما يحول كندا إلى ملاذ للإرهابيين الذين يهاجمون الديمقراطيات الأخرى.
وممازحاً ترودو في منتجعه بفلوريدا، تحدث ترمب عن فكرة ضم كندا، وجعلها الولاية الـ51 ضمن ولايات أميركا.
ماذا لو تسببت خلية إرهابية ما تأكد حضورها من كندا في عمل إرهابي هائل في الداخل الأميركي، لا سيما إن تجاوز في حجمه أعمال الـ11 من سبتمبر، لا سيما في ظل الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل التكنولوجية المخيفة؟
هل سيحول ترمب مزاحه إلى حقيقة مما يعني أن الديمقراطيات العريقة ستغزو بعضها بعضاً؟
تساؤل آخر عن موقف ترمب من سوريا، وما يجري هناك، وهل سيظل عند مواقفه الرافضة أي نوع من الحضور الأميركي، سواء كان ذلك حضوراً سياسياً أو أمنياً وربما عسكرياً؟
أخيراً هناك "المجهولات غير المعروفة"، أو ما قد يسميه بعض المتابعين "أحداث البجعة السوداء" التي من غير المرجح، إلى حد كبير، أن تحدث، ولكن إذا حدثت فسيكون لها تأثير ضخم عالمي، وسيكون أخطرها هجوماً إرهابياً مذهلاً على الأراضي الأميركية أو ضد المصالح الأميركية في الخارج. وإذا حدث ذلك، على سبيل المثال، هجوم لـ"داعش" في ولاية خراسان في مدينة أميركية كبرى باستخدام أسلحة كيماوية أو بيولوجية، فمن المستحيل أن نعرف كيف قد يتفاعل الرئيس المنتخب ترمب.
وعلى رغم ميله إلى الرغبة في تقليص الوجود العسكري الأميركي في الخارج، فإن هجوماً إرهابياً يخلف أعداداً كبيرة من الضحايا قد يدفعه إلى نشر الجيش لإعادة دخول أفغانستان، أو أي منطقة تسكنها الجماعة أو الشبكة التي شنت الهجوم، وإذا نشأ الهجوم من دولة راعية للإرهاب، بما في ذلك إيران، فقد يؤدي ذلك إلى قيام الولايات المتحدة بمهاجمة النظام في طهران بصورة مباشرة، مما قد يؤدي إلى حرب شاملة في الشرق الأوسط.
فهل أميركا والعالم على موعد مع مرحلة جديدة من الحرب على الإرهاب؟