ملخص
تدور معارك عنيفة بين طرفي الحرب السودانية في مناطق أبو سعد والفتيحاب والشقلة جنوب غربي أم درمان إلى جانب مواجهات شرسة في محلية أم بدة.
في ظل التصعيد العسكري واشتداد المعارك الضارية بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" لا يزال المدنيون العالقون وسط القتال يتعايشون مع قسوة انتهاكات وفظائع الحرب الممتدة، وعلى رغم تأكيدات كل الأطراف على الحوجة الملحة لتلك الحماية، لكنها تغيب على الأرض تواجه عديداً من العقبات على المستويين الداخلي والخارجي.
والسؤال الآن هل تحولت الانتهاكات ضد المدنيين مع طول أمد الحرب السودانية إلى مجرد مادة لبيانات الاتهام المتبادلة بين الطرفين في شأن الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، وجزء من الحرب الدعائية وأوراق وكروت الضغط في الحرب؟
تمادٍ وتصفيات
مع تصاعد حدة الاشتباكات في عدة محاور بمناطق السودان المختلفة خلال الأيام القليلة الماضية، كثفت قوات "الدعم السريع" من قصفها المدفعي على الأحياء السكنية في كل من شمال مدينة أم درمان والفاشر، وهاجمت مسيراتها ولاية نهر النيل شمالاً والأبيض غرباً، من دون أن تردعها الإدانات الدولية المتتالية عن التمادي في الانتهاكات ضد المدنيين، بينما يواجه الجيش السوداني اتهامات متكررة ظل ينفيها مراراً بشن غارات جوية على مناطق مكتظة بالمدنيين، بخاصة غرب البلاد، راح ضحيتها العشرات من المدنيين.
وخلال اليومين الماضيين لفت مقطع فيديو صادم تداولته وسائل التواصل الاجتماعي الانتباه على نطاق واسع، إذ أظهر جنوداً من الجيش يقومون بتصفية شخص أعزل بوابل من الرصاص من مسافة قريبة، ليفتح تساؤلات من جديد حول مدى الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، وحجم الأخطار التي قد يتعرض لها المدنيون أثناء الحرب، وأثار موجة من الغضب والاستياء في عديد من الأوساط والمجموعات الحقوقية في البلاد.
استنكار وإدانة
رداً على الفيديو بادر الجيش السوداني بإصدار بيان دان فيه الحادثة واعتبرها تجاوزاً فردياً مستهجناً بتصفية رجل أسير، ووعد بإحالة مرتكبي حادثة إطلاق النار إلى التحقيقات ومحاسبتهم.
وجدد المتحدث باسم الجيش السوداني العميد ركن نبيل عبدالله التزام الجيش بالقانون الدولي الإنساني فيما يختص بمعاملة الأسرى، معتبراً أن إطلاق النار على الأسير يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان والدين الإسلامي وقانون القوات المسلحة.
من جانبها علقت لجان مقاومة منطقة أم بدة (الراشدين) في أم درمان على الفيديو بقولها إن أحد سكان المنطقة تعرض للتصفية في الشارع العام من قبل جنود للجيش من دون محاكمة أو تحقيق.
في المقابل اتخذت قوات "الدعم السريع" من مقطع الفيديو دليلاً لمهاجمة سلوك جنود الجيش، ووصفت الحادثة بأنها امتداد للجرائم الشنيعة ضد المدنيين العزل، بما ينافي الأخلاق والقوانين والأعراف الدولية ويستدعي إدانة فورية من قبل الجهات الحقوقية والمنظمات الإنسانية.
مواجهات مشتعلة
في الأثناء تدور معارك عنيفة بين طرفي الحرب في مناطق أبو سعد والفتيحاب والشقلة جنوب غربي أم درمان إلى جانب مواجهات شرسة في محلية أم بدة.
ومع تقدم الجيش في تلك المناطق شددت قوات "الدعم السريع" قيودها وإجراءاتها الأمنية بمنع حركة المدنيين. وقال مواطنون من منطقة الصالحة، إن "الدعم السريع" شددت قيودها على حركة المدنيين، بخاصة المتوجهون إلى مناطق سيطرة الجيش، ويطلبون رسوماً في بعض الأحيان مقابل السماح لهم المرور ومغادرة مناطق الاشتباكات.
وفي ولاية الجزيرة، تدور معارك ضارية بين الجيش و"الدعم السريع" في منطقة الشبارقة على الطريق بين الخرطوم ومدينة ود مدني عاصمة الولاية، وتراجعت معها الميليشيات إلى خارج المنطقة، وفق مرصد أم القرى، المعني بمراقبة الانتهاكات والأوضاع الميدانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكدت لجان مقاومة الشبارقة، توغل الجيش إلى داخل المدينة تحت تغطية كثيفة من سلاح الطيران الذي شن غارات عنيفة على تجمعات قوات "الدعم السريع" في محيط المنطقة. وأوضحت أن المنطقة تشهد انعداماً في السلع الاستهلاكية بسبب إغلاق المحال وتوقف حركة النقل من وإلى المنطقة إلى جانب نهب عناصر من "الدعم السريع" للمنازل.
وكشفت مصادر ميدانية عن أن قوات الجيش تندفع بسرعة نحو التطويق الكامل لمدينة ود مدني عاصمة الولاية من ثلاثة محاور رئيسة (الجنوب والغرب والشرق).
خارج الحسابات
في السياق يرى المراقب العسكري ضوالبيت الدسوقي أن استخدام المدنيين دروعاً بشرية وتعريض أرواحهم وممتلكاتهم لأخطار، كان ولا يزال من سمات هذه الحرب المستمرة بصورة يومية من دون أدنى مؤشرات إلى الاهتمام بحماية المدنيين وكأنهم خارج حسابات الطرفين بدرجات متفاوتة.
ولفت الدسوقي الانتباه إلى أن استمرار تحصن قوات "الدعم السريع" وإقامتها للقواعد والمتاريس داخل الأحياء السكنية، بما يفاقم الخسائر البشرية وسط المدنيين، ويدفع بالجيش في بعض الأحيان إلى إخلاء السكان حتى يتمكن من استخدام الأسلحة الثقيلة، مثلما يحدث الآن في معارك الخرطوم بحري، لكنه قد يضطر في النهاية إلى التعامل مع هذا الواقع بكل تداعياته المحتملة على المدنيين.
غير منظورة
وبحسب المراقب العسكري فإنه "وسط الجدل والاتهامات المتبادلة بين الأطراف المتقاتلة يجوع ويقتل المدنيون كل يوم، فبينما يستشهد الجيش بهرب المدنيين من مناطق (الدعم السريع) إلى حيث سيطرته كدليل على استشعارهم بالأمان في مناطقه، تعجز القوات الخاصة التي زعم الأخير أنه خصصها لحماية المدنيين عن وقف من يسميهم المتفلتين في صفوفه، ويتهم الطيران الحربي بقصف البينة التحتية والمواطنين". وأشار إلى وجه آخر غير منظور يجسد محنة المدنيين في مناطق القتال، إذ عندما يحرر الجيش أي منطقة يضع عديداً من المواطنين فيها تحت دائرة الاتهام بالموالاة والتواطؤ مع "الدعم السريع"، بينما تشن الأخيرة عقب كل غارة جوية تستهدف مواقعها حملات اعتقالات وتصفيات جسدية عشوائية على المواطنين بمناطق سيطرتها بتهمة وجود مندسين يرفعون الإحداثيات للجيش.
تبادل الأذى
يلاحظ المراقب العسكري ضوالبيت الدسوقي بروز توجه جديد يتبادل فيه الطرفان الأذى بمناطق بعضهما بعضاً، إذ لوحظ أنه كلما قصف الطيران مواقع في دارفور، ردت قوات "الدعم السريع" بتكثيف قصفها المدفعي على الأحياء السكنية بمحلية كرري المأهولة في شمال أم درمان وغيرها، ويظهر ذلك أيضاً في إصرارها على مهاجمة ولايات الشمال من ذات المنطلق.
واعتبر أن قصف "الدعم السريع" المتواصل على الأحياء السكنية بمحلية كرري بصورة متعمدة، والذي تجاوز عدد ضحاياه المدنيين 340 قتيلاً حتى الآن، سلوكاً ممنهجاً ومتعمداً لمعاقبة الجيش في شخص المدنيين، أما الاتهامات الموجهة للجيش بالتشدد في دخول المساعدات إلى مناطق سيطرة الميليشيات وتأثيرها في المدنيين هناك، فهي إن صحت ليست بالفظاعة والشكل الممنهج الذي يقوم به الطرف الآخر.
الفاتورة الأعلى
بدوره رأى المتخصص في العلاقات الدولية محمد علي عامر أن المدنيين ما زالوا يدفعون الفاتورة الأعلى والأفظع في حرب السودان، فإضافة إلى ما يتعرضون له من قتل وعنف ونهب وإفقار، تحولوا إلى بعض أدوات الضغط والمساومة عبر سعي كل طرف إلى إحراج الآخر دولياً وجذب انتباه المجتمع الدولي للحصول على مكاسب سياسية.
وأضاف، "هناك مسؤولية كبيرة على عاتق رعاة منبر جدة التفاوضي، تجاه ضرورة تنفيذ الالتزامات الإنسانية في اتفاق جدة في مايو (أيار) 2023، بفتح الممرات الإنسانية وحماية المدنيين، لأن هذا الاتفاق أصبح الآن هو البوابة الوحيدة المتاحة التي يمكن أن يعود عبرها الدور المفقود للمجتمع الدولي ومؤسساته إذا كانت هناك فعلاً جدية في حماية المدنيين السودانيين".
وأكد أن تصعيد الضغط الدولي والإقليمي والمحلي على الأطراف المتحاربة، لوقف إطلاق النار وإيجاد حل سياسي شامل ينهي الأزمة السودانية، يبقى هو الحل الأمثل، لإنهاء معاناة المدنيين ووقف الانتهاكات الجسيمة والممتدة التي لا يزالون يتعرضون لها.
عملية شاملة
على الصعيد ذاته أوضح المتخصص في الشؤون الإنسانية صلاح الأمين أن المدنيين هم ضحايا الحرب الأساسيون، بالتالي فهم يحتاجون إلى حماية، لكن لكي تتم هذه الحماية، فلا بد أن تكون هناك عملية شاملة ومتكاملة بموافقة الطرفين المتقاتلين والمجتمعين الدولي والإقليمي بما فيه دول الجوار، ومن قبلهم جميعاً المجتمعات المحلية داخل السودان، لأن مثل هذه العملية تبقى هي الحل الأقرب في ظل صعوبة توقف الحرب. وتابع، "السودان في حاجة إلى عملية أشبه بعملية شريان الحياة (مع اختلاف الأوضاع)، وهي العملية التي نفذت قبل أكثر من 35 عاماً، واستمرت 15 عاماً وأمنت من خلال التنسيق حماية المدنيين في مناطق الحرب بجنوب السودان، وفتحت ممرات إنسانية متفق عليها لتوصيل المساعدات للمدنيين في أماكن وجودهم، ومع ذلك يبقى من الضروري تجريم أي طرف يحاول استعمال المساعدات كسلاح سياسي أو إثني أو أمني".
أبشع الانتهاكات
وبالعودة إلى ولاية الجزيرة التي لا تزال تشهد مأساة المدنيين المستمرة عبر المبر محمود الأمين العام لمؤتمر الجزيرة عن اعتقاده أن إيقاف الانتهاكات والجرائم يبدأ أولاً بالضغط الدولي والتصعيد الحقوقي ضد مرتكبيها وليس بالتستر عليهم، مشيراً إلى إعدادهم مذكرة تقريرية حوت جميع جرائم "الدعم السريع" ضد مواطني الولاية، وجرى تسليمها لكل الهيئات الحقوقية ومؤسسات العدالة الدولية، و"سنواصل جهودنا حتى تتحقق العدالة للضحايا ويجبر ضررهم".
حول أوضاع المدنيين بالولاية قال المبر في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن الميليشيات ارتكبت جرائم وانتهاكات واسعة النطاق في حق المدنيين واستهدفت مناطق مدنية لا يوجد بها أي مظهر عسكري، وقتلت منذ اجتياحها للولاية في ديسمبر (كانون الأول) 2023 نحو 7 آلاف مدني وأصابت إضعافهم، كما أجبرت 5 ملايين مواطن على النزوح، فضلاً عن ممارستها العنف الجنسي ضد 152 سيدة وطفلة بالولاية، وتهجير مواطني 2500 قرية من جملة 3835 قرية، بجاب التدمير الممنهج للبنية التحتية بالولاية في جميع القطاعات.
خيبة أمل
وعبر الأمين العام لمؤتمر الجزيرة عن أسفه لأن جهود حماية المدنيين بالولاية كانت مخيبة للآمال، على رغم الفظائع التي ارتكبتها ميليشيات "الدعم السريع" في حق مواطنيها، بينما لا يزال المجتمع الدولي عاجزاً عن تصنيفها منظمة إرهابية أو تصنيف قادتها "مجرمي حرب".
وكشف بيان للمؤتمر عن أن الميليشيات اختطفت قبل يومين حافلتين تقلان عائلات، معظمهم من النساء والأطفال في طريقهما لمغادرة مدينة ود مدني إلى سنار، واقتادتهم إلى منتجع جنوب المدينة، ثم طالبت بفدية قدرها 50 مليون جنيه سوداني (20 ألف دولار)، لإطلاق سراح الفرد الواحد.
وتسببت الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" المندلعة منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، في أكبر أزمة إنسانية في العالم، أجبرت أكثر من (11.4) مليون شخص على النزوح من منازلهم وفر نحو 3 ملايين منهم عبر الحدود إلى الدول المجاورة، ويحتاج نحو نصف السودانيين إلى مساعدات غذائية عاجلة، بينما يواجه أكثر من 755 ألف شخص أعلى مستويات انعدام الأمن الغذائي وظروف المجاعة.