ملخص
الشركات الصينية تعيد ترتيب سلاسل التوريد الخاصة بها حيثما أمكن للتهرب من الرسوم الجمركية
مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض والتهديد بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60 في المئة على السلع الصينية، يواجه الاقتصاد الصيني تحديات كبرى في الأشهر المقبلة.
منذ بداية ولاية ترمب الأولى في البيت الأبيض، وحتى ولاية الرئيس جو بايدن، تباطأ النمو الاقتصادي في الصين من نحو سبعة إلى 4.5 في المئة، وانهارت سوق العقارات في البلاد بسبب الإفراط في البناء، مما أدى إلى ظهور مدن أشباح فارغة. وارتفع معدل البطالة بين الشباب إلى مستوى قياسي جديد بلغ نحو 19 في المئة خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، مما قلل من آفاق القوى العاملة بالصين في المستقبل، فيما تواجه بكين ضغوطاً انكماشية قوية مع شعور المستهلكين بانخفاض ثرواتهم بسبب أزمة العقارات المطولة وضعف الرعاية الاجتماعية، ويشكل انخفاض الطلب من جانب الأسر خطراً رئيساً يهدد النمو.
وأصدرت الصين على مدار العام الماضي تصريحات قوية بصورة متزايدة حول تعزيز الاستهلاك، لكنها لم تقدم سوى القليل في ما يتصل بالسياسات باستثناء خطة دعم لشراء السيارات والأجهزة المنزلية وعدد قليل من السلع الأخرى.
"ممارسات بكين التجارية غير العادلة"
بدأ ترمب الجولة الحالية من الرسوم الجمركية بولايته الأولى في عام 2016 بفرض رسوم على واردات الألواح الشمسية والغسالات، التي اشتكت الشركات الأميركية أنها تتلقى دعماً غير عادل، لكنه سرعان ما وسع جدول التعريفات ليشمل الصلب والألمنيوم من الاتحاد الأوروبي وكذلك الصين وصادرات صينية أخرى بقيمة 300 مليار دولار، رداً على ما سماه "ممارسات بكين التجارية غير العادلة"، في حين رد الاتحاد الأوروبي الذي اشتكى بشدة من الرسوم الجديدة، بفرض رسوم مضادة على سلع مثل دراجات هارلي ديفيدسون النارية.
واستخدم الرئيس جو بايدن سلاح التعريفات الجمركية، فإلى جانب الإبقاء على معظم التعريفات الجمركية التي فرضها ترمب، فقد توصل إلى هدنة موقتة مع الاتحاد الأوروبي حول الصلب، وزاد الرسوم الجمركية على المعادن والخلايا الشمسية والصلب والألمنيوم وأشباه الموصلات من الصين، وفرض تعريفات جمركية ضخمة بنسبة 100 في المئة على المركبات الكهربائية الصينية.
اتبع الاتحاد الأوروبي نهج بايدن حول السيارات الكهربائية، وفرض رسوماً تراوح ما بين 17.4 و37.6 في المئة بعد تقارير تفيد بأن الأوروبيين استوردوا 438034 سيارة صينية تعمل بالبطاريات في عام 2023.
"إذا لم تظهر أوروبا أنيابها في التجارة"
وفي يونيو (حزيران) الماضي، قال وزير المالية الفرنسي برونو لومير، "إذا لم تظهر أوروبا أنيابها في التجارة، فسننتهي إلى الاعتقاد بأن السوق الأوروبية مجرد مركز تسوق عملاق. إنه قرار أولي آمل أن تتبعه قرارات أخرى، خصوصاً في ما يتصل بالألواح الشمسية وغيرها من الطاقات الإنتاجية الفائضة الصينية".
وبما أن عدداً من تدابير الجولة الأخيرة من التعريفات الجمركية تستهدف الصادرات الصينية، فإن الشركات الصينية تعيد ترتيب سلاسل التوريد الخاصة بها حيثما أمكن للتهرب من الرسوم الجمركية، وعلى سبيل المثال، انخفضت الواردات إلى الولايات المتحدة من الصين من 536 مليار دولار في عام 2022 إلى 426 مليار دولار في عام 2023، لكن الواردات من دول تصنيع أخرى، مثل فيتنام والهند، ارتفعت بصورة كبيرة، وفي الوقت نفسه، بلغت صادرات الشركات الأميركية من المكسيك إلى الولايات المتحدة 475 مليار دولار في عام 2023، متجاوزة صادرات الصين إلى الولايات المتحدة للمرة الأولى.
وتتابع بكين باهتمام شديد الوضع السياسي في الولايات المتحدة، إذ يؤثر على الصادرات، فعندما فرض ترمب رسوماً جمركية على مجموعة متنوعة من السلع الصينية في عام 2018، ردت الصين بفرض رسوم على الواردات الزراعية من الغرب الأوسط، التي شملت عدداً من الولايات الحمراء التي تدعم ترمب، وعندما أعلن بايدن عن رسوم جمركية جديدة على منتجات صينية بقيمة 18 مليار دولار، ردت بكين قائلة إنها ستجري تحقيقاً لمكافحة الإغراق ضد الشركات الأميركية.
"التعريفات الجمركية العكسية"
وإضافة إلى فرض ضرائب صريحة على الواردات، استخدم بايدن ما يسميه الاقتصاديون "التعريفات الجمركية العكسية" لمواجهة سياسات التجارة الصينية، إذ منحت إدارته إعانات تصل إلى 7 آلاف دولار لكل سيارة كهربائية تصنع في الولايات المتحدة وعرضت 50 مليار دولار من التمويل الفيدرالي لشركات أشباه الموصلات لبناء مصانع تصنيع الرقائق في الولايات المتحدة بدلاً من الخارج.
وقال أستاذ التمويل في جامعة هونغ كونغ تشين تشيوو، لشبكة "سي بي أس نيوز"، "أتوقع أن تكون العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين أكثر تقلباً في عهد ترمب، لكنني أعتقد بشكل عام أن هذا قد يكون أفضل بالنسبة للصين".
ويرى تشين أنه إذا نفذ ترمب تهديده بفرض مثل هذه الرسوم الجمركية الباهظة على الصين، فإن ذلك "قد يجبر القيادة في بكين على عدم وجود خيار آخر سوى التركيز على الاقتصاد، خصوصاً أن الاقتصاد الصيني في الوقت الحالي يواجه مشكلة كبيرة للغاية".
ويعتقد تشين أن التركيز الشديد الذي ركزته بكين خلال العقد الماضي على تعزيز قوتها العسكرية لتلبية طموحاتها الجيوسياسية في منافسة الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ، أدى إلى مزيد من التضحية بفرص النمو الاقتصادي المحلي.
تصنيع الصادرات الرخيصة للعالم
واتفق رئيس التحرير السابق لصحيفة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست" وانغ شيانغ وي، على أن "الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على الصين ستصبح أمراً جيداً بالنسبة للصين على المدى الطويل".
وقال وانغ لشبكة "سي بي أس نيوز"، إن "الصين اعتمدت على محركين رئيسين لدعم النمو الاقتصادي السريع على مدى الأعوام الـ40 الماضية، منذ أن بدأ الزعيم السابق دينغ شياو بينغ الإصلاحات وبدأ في فتح البلاد. كان المحركان الرئيسان هما تصنيع الصادرات الرخيصة للعالم من خلال الاستفادة من قوة العمل الرخيصة في الصين لفترة طويلة، ثم إنفاق المليارات على البنية الأساسية المحلية بما في ذلك الطرق والسكك الحديدية والمطارات، لكن العمالة أصبحت أكثر كلفة مع صعود الطبقة المتوسطة المزدهرة في الصين، وبدأت الحكومة تفتقر إلى الأشياء الجديدة التي يمكن بناؤها في جميع أنحاء البلاد".
وأضاف وانغ، أن الرسوم الجمركية التي هدد بها ترمب قد تعطي الدفعة الخارجية اللازمة للتغيير، وأن الصين ستعاني على المدى القصير، أما على المدى الطويل، فسيساعد ترمب بكين على تحقيق هذا التحول المؤلم، مشيراً إلى أن الاستهلاك المحلي في الولايات المتحدة يمثل ما بين 70 و80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما في الصين يمثل نحو 60 في المئة فقط.
أفضل حماية لبكين ضد الرسوم الجمركية
لعل دفع الشعب الصيني إلى شراء مزيد من السلع والخدمات التي تنتجها بلاده قد يثبت، في رأي المحللين، أفضل حماية لبكين ضد الرسوم الجمركية التي هدد ترمب بفرضها.
يقول تشين، "إن أفضل أداة يمكن أن تلجأ إليها الصين هي تحفيز نمو الاستهلاك داخل الصين، وفي الوقت الحالي، لم تحاول القيادة الصينية مساعدة المستهلكين الصينيين بإرسال الشيكات الحكومية إليهم، بل وحتى فرض الضرائب على الشركات، وأعتقد أن تحرك الحكومة الصينية في هذا الاتجاه بشكل أكثر عدوانية من شأنه أن يساعد الاقتصاد الصيني على توليد مزيد من الطلب على الاستهلاك المحلي الداخلي للتعويض عن بعض الصادرات المفقودة المحتملة إلى الولايات المتحدة".
ويوضح تشين، "من حيث خيارات الانتقام بالنسبة للصين، فهي محدودة للغاية. إذ تستورد الصين كثيراً من المنتجات الزراعية مثل فول الصويا والذرة، وقد تحاول استيراد مزيد من هذه المنتجات الزراعية من البرازيل، وأيضاً من روسيا كواحدة من طرقها للانتقام من الولايات المتحدة، لكن في نهاية المطاف، تستورد الصين كثيراً من الرقائق الكمبيوترية من إنفيديا وإنتل، وخصوصاً كوالكوم، وهذه المنتجات هي ما تحتاجها الصين. لذلك، لا تستطيع الصين الإنتاج داخلياً".
التعريفات الصينية المضادة
في واقع الأمر، إذا فرضت بكين تعريفات جمركية انتقامية، فإنها بذلك تطلق النار على قدمها، ذلك أن التعريفات الجمركية من شأنها أن تجعل كل هذه المنتجات، التي تشكل أهمية حيوية لاستمرار التنمية الاقتصادية والتكنولوجية في الصين، أكثر كلفة بالنسبة لشعبها، لكن التأثير المحتمل الآخر للسياسات الحمائية المتوقعة من جانب ترمب قد يكون في الواقع دفع بعض أقدم حلفاء أميركا وشركائها التجاريين إلى الاقتراب من الصين، وعكس ما يسمى بفك الارتباط بين اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وبكين الذي دفعته واشنطن في عهد بايدن.
وقال تشين، "قامت إدارة بايدن بعمل جيد للغاية لتوحيد هذا الأمر إلى حد ما. وإذا أثار ترمب استياء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، فإن هذا يجعل من الممكن لألمانيا أو فرنسا أو إيطاليا أو حتى المملكة المتحدة أن تتقارب أكثر مع الصين على الجبهة التجارية، لذا، قد يساعد ذلك إلى حد ما في تحييد التأثير السلبي للرسوم الجمركية المتوقعة من جانب ترمب على السلع الصينية".
الشركات الأجنبية ستدفع الفاتورة
زعم ترمب مراراً أن الشركات الأجنبية ستدفع الفاتورة، وتمتص فعلياً الكلفة الإضافية للتصدير إلى السوق الأميركية التي فرضتها رسومه الجمركية، لكن عدداً من الاقتصاديين لا يتفقون معه، ويقولون إنها ستكون في الواقع بمثابة ضريبة على المستهلكين الأميركيين.
في كتاب، "لا تحميني: تأثير الرسوم الجمركية على شبكات التوريد الأميركية"، يحث الأستاذ المساعد في سلسلة التوريد وإدارة العمليات في كلية روبنسون للأعمال بجامعة ولاية جورجيا، سينا جولارا الساسة على توخي الحذر عندما يتعلق الأمر بالرسوم الجمركية، ويعترف بأن الضرائب يمكن أن تنتج فوائد موقتة، لكنه يؤكد أن التأثير الطويل الأمد على التدفق العالمي للمنتجات غالباً ما يُتجاهل بانتظام.
وخلصت الدراسة إلى أنه "في حين أن التعريفات الجمركية يمكن أن توفر بعض الحماية لبعض الصناعات، فإنها يمكن أن تؤدي أيضاً إلى عدم الكفاءة للصناعات التي صممت لحمايتها، وكذلك لشركائها في سلسلة التوريد".
التأثير المالي على الشركات
وبالتركيز على تنفيذ التعريفات الجمركية من جانب الولايات المتحدة في عام 2018، رصد جولارا "تأثيراً سلبياً إجمالياً" على قيمة الشركة، مما أدى إلى انخفاض قيمة المنتجين المحليين داخل الصناعات المحمية، وكان التأثير المالي على الشركات في صناعات الموردين والعملاء مختلطاً.
وتؤكد الدراسة أن "هذه النتائج تظهر التأثير المتسلسل للعواقب غير المقصودة التي يمكن أن تؤدي إليها الرسوم الجمركية في جميع أنحاء سلاسل التوريد، مما يحفز مزيداً من التطوير النظري ويساعد في صياغة السياسة التجارية".
ورغم أن التعريفات الجمركية قد توفر راحة قصيرة الأجل، وربما دعماً نفسياً للعامة، فإنها تمنع الشركات من معالجة المشاكل التي أدت إلى انعدام المساواة في السوق في المقام الأول، بحسب ما يضيف جولارا.
ووجدت دراسة أجراها معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في عام 2012 أن الأميركيين أصبحوا يدفعون في نهاية المطاف ثمناً أعلى للإطارات نتيجة للرسوم الجمركية، إذ ارتفعت كلفة الإطارات المصنوعة في الصين بنسبة 26 في المئة، ومع تراجع المنافسة من الصين، رفعت شركات تصنيع الإطارات المحلية الأسعار بنسبة 3.2 في المئة.
في المجمل، كلفت الزيادة في الأسعار بسبب تعريفة الإطارات الأميركيين مبلغاً إضافياً قدره 1.1 مليار دولار، وهو ما يعني فقدان ما يقدر بنحو 3731 وظيفة في قطاع التجزئة، وفقاً لدراسة معهد بيترسون.
ويرى جولارا أن مثل هذه العواقب غير المقصودة عادة ما تصاحب التعريفات الجمركية، محذراً من أن حماية صناعة واحدة يمكن أن تسبب تأثيرات متتالية على الصناعات الأخرى التي تزود أو تشتري سلعها.