ملخص
قبل 40 عاماً، صدرت رواية "أربعة أفراس حمر" لرائد الرواية اللبنانية الحديثة يوسف حبشي الأشقر، ، وقد أعادت طبعها حديثاً دار النهار، وهي الأولى في ثلاثية روائية، نشرت خلال ربع قرن، ثانيتها "لا تنبت جذور في السماء" 1971، وثالثتها "الظل والصدى" 1989. في كتابها الجديد "رؤى وروايات" الصادر عن دار تكوين في دمشق، الذي تبحث فيه عن الرؤيا في أفق الرواية العربية، تعد الناقدة خالدة السعيد الأشقر "من أكبر الروائيين العرب، ومن رتبة الروائيين الكبار في العصر الحاضر" .
على رغم وجود فاصل زمني طويل، قدره سبعة أعوام بين رواية يوسف حبشي الأشقر الأولى والثانية، و18 عاماً بين الثانية والثالثة، فإن الثلاثية تتناول حياة شريحة من المثقفين في النصف الثاني من القرن الماضي، وتقتفي مساراتهم المتقاطعة ومصائرهم المختلفة، وترصد الخلفيات الاجتماعية والعوامل الثقافية المؤثرة في تلك المسارات والمصائر.
ومن يذكر أن هذه الثلاثية الروائية هي التي منحت الأشقر موقعه المستحق على خريطة الرواية اللبنانية والعربية، كرائد للرواية اللبنانية الحديثة.
واليوم، إذ تصدر "أربعة أفراس حمر"، في طبعة ثانية، بعد أربعة عقود على طبعتها الأولى، وبعد ثلاثة عقود ونيف على رحيل الروائي، يشكل صدورها مناسبة لاستعادة يوسف حبشي، من خلال قراءة خالدة السعيد في ثلاثيته الروائية، المنشورة في كتابها الجديد الذي تشير فيه إلى الرواية الأولى لكنها تتوقف مطولاً عند روايتي "لا تنبت جذور في السماء" و"الظل والصدى". فكيف قرأت السعيد الأشقر في كتابها؟ وما المكونات الروائية التي تمحورت حولها القراءة؟ وما النتائج المترتبة عليها؟
دراسة منهجية
تولي السعيد رواية "لا تنبت جذور في السماء" اهتماماً خاصاً، وتفرد لها دراسة منهجية تمتد على مساحة 33 صفحة، تتناول فيها مكوناتها المختلفة، وفق التسلسل الآتي: الحوار، البنية، الزمن، المكان، الشخصيات، السرد، الأسئلة المطروحة. وتخرج بخلاصات تتعلق بكل من هذه المكونات، ففي الحوار، تتناول لغته ووظائفه، وتنسب إلى الأشقر ترويضه الحوار "بلغة فصحى تلتقي بحيوية المحكية وتنبض بالصوت الحار" (ص 25). وتنسب إلى الحوار نهوضه بوظائف: السرد ورسم الشخصيات ومواكبة نموها وتقلب مواقفها (ص 25). ولعلها تخلط في هذا التحديد بين وظيفتي السرد والحوار، فتنسب إلى الثاني ما هو من متعلقات الأول، وتفارق بذلك المتعارف عليه في علم السرد من أن الحوار نوع من وقفة أو استراحة بين المشاهد السردية، وأن دوره في نمو الأحداث ورسم الشخصيات هو دور محدود، مقارنة بدور السرد.
في بناء الرواية، تحصي عدد الفصول وتحدد وظائفها وتصنف الشخصيات والأماكن، فالرواية موزعة على 24 فصلاً، تنهض الثلاثة الأولى منها بوظيفة تحضير مسرح الأحداث ووضعيات الشخصيات الأساسية. وتقوم الفصول الـ20 التالية لها بوظيفة إضاءة الشخصيات ورصد حركاتها على مسرح الأحداث، الخارجية والداخلية. وتسند إلى الفصل الـ24 وظيفة لملمة خيوط الرواية ورسم مصائر الشخصيات. وتعتمد في تصنيف الشخصيات معايير الأهمية والحضور والفعل، فتراوح ما بين أساسية وثانوية وحاضرة وغائبة وفاعلة وعابرة. وتعتمد في تصنيف الأماكن معايير الزمن والوظيفة والدلالة، فتراوح ما بين تلك المتعلقة بزمن القص وهي "أماكن لجوء أو هرب أو اعتزال"، وتلك المتعلقة بزمن الأحداث وتلعب دوراً أساساً عاطفياً في حياة الشخصيات، وتلاحظ أن هذه الأخيرة أكثر اتساعاً وفاعلية من الأولى المخصصة للعزلة تطل منها الشخصيات على الماضي ورحابته.
الزمن الروائي
في الزمن الروائي، تميز السعيد بين زمن القص المحسوب بالساعات وزمن الوقائع المحسوب بالأعوام، وتوضح البنية الزمنية المركبة للرواية برسم مخطط تورد فيه أحداث الماضي في زمن الوقائع وأحداث الماضي في زمن القص، وترصد العلاقة بين النوعين القائمة على الاستدعاء والتذكر والمونولوغ والحوار الداخلي والخارجي والسرد. وتخلص إلى أن المنظور الروائي يفضل الماضي على الحاضر، "فالماضي ومسرحه هو الجذور" (ص 45) والعودة إليه شرط للنمو، وإلى أن الرواية تتسم بالصيغة التذكرية التأملية والطابع الفكري النفسي.
في شخصيات الرواية، تحللها السعيد من خلال الأحداث التي تنتظم فيها، وتخلص إلى نتائج تختصر الشخصية، فإسكندر شخصية متنازلة، يستمد قوته من الأشياء التي يمتلكها حتى إذا ما فعل ملها، وأنسي شخصية باحثة عن المطلق في الدين والحزب والمرأة، وميرا تمارس الحرية بالطريقة الخطأ فتتحول إلى عبء عليها، على سبيل المثال لا الحصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السرد، تتناوله السعيد، في إطار رصد العلاقة بين الحاضر والماضي، وتستنتج أن السرد في "لا تنبت جذور في السماء" هو "فن اصطياد الماضي، أو فن استيقاف الحاضر" (ص 54). وبرأيي أن هذا الاستنتاج ينسحب على جميع الروايات من دون استثناء. وتنهي السعيد دراستها بالكلام على الأسئلة التي تطرحها الرواية، وتحددها بالمسؤولية والمصير والكتابة ودور المثقف وتماسك الذات والتفسخ الجوهري وغيرها، مما يضفي على الرواية الطابع الفكري الثقافي، وهذا أمر طبيعي في ثلاثية تتناول شريحة المثقفين، في النصف الثاني من القرن الـ20، في حالتي السلم والحرب.
وعليه، نلاحظ أن دراسة السعيد تكاد تتمحور حول الخطاب الروائي بمكوناته المختلفة، فتدرس الحوار والسرد والبنية والزمن والمكان والشخصيات، وهي من متعلقات الخطاب بينما تدرس مكوناً واحداً من مكونات الحكاية يتعلق بالأسئلة التي تطرحها الرواية. على أنه من الملاحظ، في هذا السياق، أن الدراسة قد تتناول ما يتعلق بمكون معين تحت عنوان مكون آخر أو أكثر، فيتواتر الكلام على الشخصيات، بصورة أو بأخرى، تحت غير عنوان، مما ينتقص من منهجية الدرس، ناهيك بأن دراسة المكونات لم تخضع لتسلسل فني معين، فتدرس الحوار في البداية وتترك السرد للنهاية، على سبيل المثال، على رغم التواشج بين هذين المكونين.
"الظل والصدى"
إذا كان الفاصل الزمني بين صدور "لا تنبت جذور في السماء" و"الظل والصدى" 18 عاماً، فإن هذا يجعلنا نستنتج أن ثمة فاصلاً زمنياً طويلاً بين قراءتي السعيد للروايتين، وهذا ما يفسر الاختلاف في منهجية القراءة، ففي حين تولي الخطاب الروائي اهتماماً كبيراً وتهمش الحكاية في الأولى، نراها تركز على هذه الأخيرة في الثانية وتنطلق منها لتحليل الشخصيات المختلفة، وهي شخصيات قلقة، مأزومة، تبحث عن المعنى والخلاص في زمن الحرب، لها مشكلاتها العاطفية وتمزقاتها الفكرية، النابعة من خلفيات اجتماعية وتحولات سياسية وثقافية. وتستنتج، في سياق التحليل، أن الشخصية في الثلاثية "معمقة بأبعاد [...] تحمل ماضيها وتحاوره، تتذكره أو تنقز منه أو تحاول أن تمحوه وتتحرر منه" (ص 67). وإذ تصف المثقف في "الظل والصدى" بالعضوي الذي يحضر في مجتمعه "بقوة الفعل الثقافي كوعي للذات والتاريخ، كمعيار لتحديد الصواب، كمعيار أخلاقي ـ معرفي ـ مبدئي معترف به، أو له وزنه ويقدر على الوقوف ندًا، أو في الأقل كصوت مسموع فاعل أو محاور إزاء السلطات الواقعية أو المعيارية العملية الميدانية، من رجال أحزاب وميليشيات وحتى من حكام وقضاة أو رجال دين" (ص 68، 69).
وترصد تداعيات الحرب على المثقف في صراعه مع الميليشياوي ونتائجها المتراوحة ما بين "موت الفكر المستقل، وتوظيف المثقف المنتمي، وسقوط الكاتب الفنان، وتحويل المثقف الحزبي إلى أداة في الحرب، والموت المجاني للكاهن المصلح والمتعلم، واعتقال الكاتب المحايد على الحواجز وقتله" (ص 67)، فإن هذه المصائر القاتمة للمثقف في ظاهر الأمر تنطوي في باطنه على إمكانية نهوض جديد، وهو ما تقرأه السعيد في استعادة إسكندر وجهه الحقيقي، لحظة قتله، وتخليه عن قناعه الشمعي الذي اضطرته الحرب إلى ارتدائه، وفي مواجهة يوسف الذات، لحظة إقدامه على قتل أبيه المعنوي إسكندر، مما يرهص ببداية تحول، يتماهى فيه مع الأب القتيل المثقف، ويفتح الرواية على وعد الخلاص الذي كثيراً ما بحث عنه المثقفون في الحرب.
"هكذا تقدم الروايات الثلاث، عبر 1500 صفحة، تأزم الرؤى لدى فئة مثقفة، وتؤرخ لتطلعاتها وتطوراتها الفكرية، لتصل في "الظل والصدى" مع الحرب، إلى موت المصلح والطوباوي والكاتب المؤمن بقوة الإبداع وفاعلية الفكر والحوار، وتصور خيبة المثقف الملتزم كي تصور صعود المقاتل الميليشياوي، لكنها لا تقفل الباب أمام التماس طريق الخلاص"، على حد تعبير الناقدة (ص 66) التي تميزت قراءتها لها بالمنهجية والعمق والغوص على المعنى، فاستحقت القراءة بامتياز.