Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ميديا" أوبرا شاربانتييه اختفت 3 قرون وعادت بلا إنذار

اقتبسها كورناي عن الفاجعة الإغريقية ثم ارتدث ثياب الحرب المعاصرة

مارك أنطوان شاربانتييه (1634 - 1704) أوبرا للدفاع عن امرأة (الموسوعة البريطانية)

ملخص

أعادت التلفزة الفرنسية تقديم نسخة حديثة من أوبرا "ميديا" التي ألفها الموسيقي الفرنسي مارك أنطوان شاربانتييه، فأتت في أجوائها في الأقل متخلية عن الزمن الأسطوري القديم الذي كان لأصلها الإغريقي كما كتبه يوربيدس للمرة الأولى فاقتبسه عنه عشرات المسرحيين والموسيقيين والرسامين، وصولاً إلى سينمائيي القرن الـ20

منذ قدمت للمرة الأولى في نهايات عام 1693 في الأكاديمية الملكية للموسيقى في باريس اختفت أوبرا ميديا للموسيقي الفرنسي مارك أنطوان شاربانتييه اختفاء تاماً، بل لم يعد أحد يذكرها. ولئن كان غيابها قبل ذلك مبرراً بالخلاف العميق الذي كان مستعراً بين كبيري الموسيقى الأوبرالية في ذلك الحين، شاربانتييه نفسه ومنافسه، بعد صداقة وتلمذة، جان باتيسيت لولي الإيطالي القادم من فلورنسا، والذي كان قد حصل على الجنسية الفرنسية بمبادرة من الملك نفسه، بالتالي كان ذا نفوذ حرم شاربانتييه من أن تتبنى الدولة تقديم أعماله، فإن رحيل لولي في عام 1687 لم يفد شاربانتييه كثيراً - هو الذي اضطر إلى الانتظار 6 سنوات عند ذلك حتى يزول نفوذ لولي، ويتمكن هو بالتالي من التعاون مع الأكاديمية التي كانت واقعة تحت نفوذ هذا الأخير حتى بعد رحيله بفضل استمرار نفوذ شلته - قبل أن يرى أوبراه "ميديا" تعرض ودون نجاح يذكر على أية حال. بالتالي ظلت سمعة شاربانتييه ومكانته قائمتين على مؤلفاته الموسيقية الدينية لتشارك "ميديا" عمليه الدنيوين الآخرين، "تاج الورود" ومغناة "أورفيو يهبط إلى الجحيم" المصير الكئيب نفسه: النسيان المحزن. وكان عليه أن ينتظر نهاية القرن الـ20 حتى يعود ليتألق بوصفه مبدعاً أوبرالياً حتى ولو "غامر" مسرح من هنا وآخر من هناك بتقديم عمل له خارج الإطار الكنسي. ومن هنا بدا الحدث استثنائياً في ربيع العام الماضي 2024 حين قدمت دار باليه غارنييه وسط باريس أوبرا شاربانتييه الكبرى، "ميديا" بعد غياب طويل... وطويل جداً.

من زمن الإغريق إلى زمننا

بل إن "ميديا" التي عادت التلفزة الفرنسية ونقلتها إلى شاشتها كنوع من هدية في عيد الميلاد، أتت في أجوائها في الأقل متخلية عن الزمن الأسطوري القديم الذي كان لأصلها الإغريقي كما كتبه يوربيدس للمرة الأولى فاقتبسه عنه عشرات المسرحيين والموسيقيين والرسامين، وصولاً إلى سينمائيي القرن الـ20، وعلى رأسهم بيار باولو بازوليني وجول داسان (قدمها أولهما مع ماريا كالاس في الدور الرئيس، كما قدمها الثاني فيلماً من بطولة ميلينا ميركوري)، أتت "ميديا" هذه في حلة وأجواء جديدة لتدور أحداثها خلال الحرب العالمية الثانية. غير أن هذا التبديل لم يغير شيئاً لا من أجوائها ولا من ذهنيتها، بل ظلت كما كانت في أصلها... الفرنسي كما قدم في زمن الملك لويس الـ14. وذلك لأن شاربانتييه إنما اشتغل انطلاقاً من نص شاعري غنائي كتبه له توماس كورناي، انطلاقاً من اقتباس والد هذا الأخير المسرحي بيار كورناي، لمسرحية "ميديا" نفسها، لا استناداً إلى مسرحية الإغريقي يوربيدس مباشرة. وكان ذلك، على أية حال معتاداً في ذلك الزمن الذي كان المسرح الأوبرالي التراجيدي الفرنسي، مسرح راسين وكورناي تحديداً، يعيش فيه ازدهاراً معتمداً على نصوص المسرح الإغريقي التي سرعان ما يحولها كبار الموسيقيين إلى أعمال أوبرالية غالباً ما تنال رضا الملك الذي، لتنويريته واهتمامه بالفنون، كان يلقب بالملك الشمس غير متوانٍ عن إنفاق الأموال بأريحية لدعم المسرح والفنون المرتبطة به.

دفاعاً عن الساحرة "الشريرة"

إذاً في اقتباس عن بيار كورناي لحن شاربانتييه هذه الأوبرا عبر عمل يبدو فيه الكلام واللحن معاً وكأنها لم يوضعا إلا في سبيل فك الحصار عن تلك المرأة نفسها بحيث بدا الكاتب الفرنسي الكبير وابنه المقتبس المجتهد، ومعهما بخاصة الموسيقي الذي كانت الموسيقى الدينية الصافية الرقراقة مجال تحركه، بدوا وقد جعلوا من أنفسهم لجنة محامين منهمكة في الدفاع عن "ميديا" وتبرير الجرائم البشعة المهولة التي اقترفتها، من دون أن يؤخذ في الحسبان أنها في الأصل ساحرة تكاد تكون من صنف الشياطين الأشرار. ونعرف طبعاً أن تلك الشيطنة غالباً ما كانت من نصيب "ميديا" في معظم الاقتباسات، غير أن الأمر لم يكن كذلك لدى كورناي، ثم بخاصة لدى شاربانتييه الذي يكاد يبدو وكأنه ما كتب موسيقى هذه الأوبرا، وما وضع ألحانه على لسانها، إلا لكي يخلصها من اللعنة التي ارتبطت باسمها وسمعتها على مدى التاريخ بوصفها قاتلة للأطفال وخائنة للأمومة انطلاقاً من غيرتها وإحساسها بأن حبيبها الملك قد غدر بها. ونعرف طبعاً أن هذا الموقف الذي يشكل جوهر المسرحية ومقتبساتها في كل صنوف الفنون والآداب التي انكبت على تلك الشخصية تدرسها أو تدينها أو تحيي "بطولتها" و"نسويتها" كما ظهرتا بخاصة خلال النصف الثاني من القرن الـ20 - وأوصلتهما سينما بازوليني/ كالاس وداسان/ ميركوري إلى ذروة لا سابق لها في هذا السياق البطولي والنسوي نفسه على أية حال - يبدو دائماً أساساً ومثيراً لأكثر السجالات حدة... غير أننا نعرف في المقابل أن واحداً من الأسباب التي حرمت "ميديا" شاربانتييه من نجاح يكشف لنا القرن الـ20 وما يليه عن أنها كانت تستحقه بالتأكيد بصرف النظر عن الأحكام الأخلاقية المسبقة، بل حتى بصرف النظر عن حكايات الصراعات الفنية بين لولي وشاربانتييه، واحد من الأسباب كان يكمن في الوقوف عكس التيار الذي ركز عليه شاربانتييه وفي مجال وضع موسيقاه في خدمة الساحرة ما كان من شأنه أن "يهدد الأخلاقيات العامة" و"يسيء إلى الحس السليم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثورة امرأة مغرورة

ففي نهاية الأمر، وهذا ما يبدو أن شاربانتييه في موسيقاه المفعمة بالتعبير الحاد قبل ولادة التعبيرية بعصور، التقط حقاً لب الحكاية، حكاية الساحرة ميديا التي وجدت نفسها تلجأ هرباً من الغضب العام إلى كورنثة مع رفيقها جازون وطفلاًهما، لكنها سرعان ما تكتشف عن أن جازون يرتب الأمور مع ملك كورنثة كي يتزوج ابنته كروزا، نافياً "ميديا" إلى أبعد مكان ممكن. وهذا كله إذ تكتشفه الساحرة المغدورة تغرق في غضب فتاك منذ الفصل الثالث. وهو غضب ندر لموسيقى أوبرالية أن تمكنت من التعبير عنه. ولقد بدا بعد كل ذلك الغياب، لافتاً كم الغضب الذي تبديه لاعبة الدور، في التقديم الجديد لهذا العمل، المغنية الميتزا - سوبرانو، ليا ديزاندر التي لفتت النظر حقاً وأشاد بها النقاد منذ مشاهدتها تنفعل بصورة مريعة خلال تقديم "ميديا" في أوبرا غارنييه، غير أن ما تجاوز ذلك هو أن التقديم التلفزيوني لذلك العرض نفسه بما فيه من لقطات مكبرة تتابعت في النقل التلفزيوني، لوجه المغنية وعروق عنقها وصولاً إلى جحوظ عينيها بصورة لم يتمكن العرض الحي على المسرح من نقلها، فلم يكن ممكناً تبنيه تماماً من الصالة مرفقاً بموسيقى نادرة جعلها شاربانتييه ومنذ زمنه المبكر، قادرة على أن تكون مرآة لروح غاضبة منفعلة يصل غضبها إلى حد قتل طفليها انتقاماً من ذلك الأب الغادر... لتبدو في نهاية الأمر واحدة من أولى النساء اللاتي دافعن عن الأنوثة وكرامة المرأة في تاريخ الفن، في رأي شاربانتييه في الأقل، الرأي الذي دفع ثمنه غالياً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة