ملخص
يشهد لبنان تحولاً سياسياً كبيراً بعد تكليف نواف سلام تشكيل الحكومة الجديدة، في خطوة تعكس تغييراً بعد أعوام من الجمود والانقسامات. رغم الدعم الواسع في البرلمان، تواجه الحكومة تحديات كبرى أبرزها موقف "الثنائي الشيعي" الذي أبدى تحفظاً على التكليف، مع التلويح بـ"فيتو" الميثاقية. في حين تشكل التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اختباراً لإرادة الحكومة في تطبيق إصلاحات جوهرية وبناء الثقة داخلياً وخارجياً.
بعد أعوام من الانقسامات السياسية والتعطيل الحكومي، دخل لبنان مرحلة حساسة من تاريخه، إذ بدأ عهد الرئيس جوزاف عون بتكليف القاضي نواف سلام تشكيل الحكومة الجديدة. ورغم الأمل الذي يعكسه تكليف سلام في تحقيق الإصلاحات وإنهاء حال الجمود السياسي، فإن الحكومة الجديدة ستواجه تحديات كبيرة تراوح ما بين الضغوط السياسية الداخلية والخارجية، والمطالب الطائفية، والأزمة الاقتصادية.
وسلام كان حظي بدعم 84 نائباً في البرلمان اللبناني، وهو ما يراه المراقبون تحولاً سياسياً كبيراً لمصلحة خصوم "حزب الله" الذي لم يخفِ امتعاضه من هذه التطورات، بل عبرت قيادته عن غضبها بصورة واضحة، معتبرة أنها تعرضت لـ"خديعة".
ويجمع المراقبون على أن تكليف سلام تشكيل الحكومة يفتح الطريق أمام مرحلة جديدة في لبنان بعد أعوام من الفراغ الرئاسي، إلا أنه ورغم حصوله على غالبية الأصوات في الاستشارات النيابية، فإنه يبدو أن التكليف لن يمر من دون عقبات. أبرز هذه العقبات تمثلت في موقف "الثنائي الشيعي"، "حزب الله" وحركة "أمل"، اللذين كانا يعارضان تكليف سلام، وكان صدر عن قيادات ضمن الثنائي كلام عن الميثاقية وغيابها في عملية التكليف، ما قد يعني أنهما لن يشاركان في الحكومة المقبلة.
والتصريحات التي أطلقها رئيس كتلة "حزب الله" النيابية النائب محمد رعد، والتي وصف فيها التكليف بـ"الخديعة"، أثارت كثيراً من الجدل، لكنها لم تؤثر على مسار التكليف في النهاية. ورغم معارضة الحزبين، يبقى التحدي الأكبر يتمثل في كيفية تعامل الثنائي مع الحكومة الجديدة، خصوصاً في ظل الضغوط الخارجية من المجتمع الدولي وبعض الأطراف العربية التي تدفع نحو تشكيل حكومة جديدة بمشاركة أوسع.
دور فرنسي
وفي السياق، أشارت مصادر سياسية واكبت الحراك النيابي قبيل الاستشارات النيابية التي انتهت بتكليف سلام، إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لعب دوراً بارزاً في الدفع نحو تسمية سلام، عبر التواصل مع بعض القوى اللبنانية. وفي حين تحدث مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وأعضاء آخرين من "الثنائي الشيعي"، بما في ذلك "حزب الله"، بعد التشنج الذي رافق تسميته بأغلبية كبيرة من النواب، عمل على تبديد المخاوف المتعلقة بتشكيل الحكومة.
وكشفت المعلومات عن تطمينات تم تقديمها، حيث تم التأكيد على أن الحكومة ستكون شاملة، وأن "الثنائي الشيعي" سيظل محتفظاً بمكانه في العملية السياسية، في حين يعمل الثنائي على تذليل أية عقبات قد تواجه الحكومة الجديدة. ولم يخفِ بعض المراقبين أن هناك توازناً دقيقاً بين المصالح الفرنسية والإقليمية.
الميثاقية والشراكة
إحدى القضايا التي تثير الجدل حالياً مطلب "الميثاقية" الذي أشار إليه "الثنائي الشيعي"، الذي يعد أن عدم حصول سلام على أصوات شيعية في استشارات التكليف وعدم تمثيله يجعل من الحكومة غير "ميثاقية"، مما فتح نقاشاً حول هذا المفهوم الذي يعود إلى اتفاق الطائف.
وفي هذا السياق، يوضح القاضي السابق في مجلس شورى الدولة زياد شبيب أنه منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حصل كثير من الانحرافات في تفسير نصوص الدستور وتطبيقها. وأحد أبرز تلك الانحرافات هو ما سُمي "الميثاقية" التي انطلقت من نص الفقرة (ي) من مقدمة الدستور التي تنص على أنه "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".
ولفت إلى أن المشكلة في المنحى الرائج بتفسير هذه الفقرة هي أن عدداً من القوى السياسية الطائفية تحتكر كامل أو معظم المقاعد النيابية المخصصة للمواطنين المنتمين إلى طائفتها. وانطلاقاً من هذا الاحتكار وبالاستناد إليه، تعد تلك القوى أن غيابها عن المشاركة في هذه أو تلك من السلطات يساوي غياب الطائفة برمتها، ومن ثم فقدان "الميثاقية". وقد ترسخت هذه الممارسة وأصبحت وسيلة لتحقيق المكاسب ولممارسة التعطيل المتبادل، خصوصاً بين الطوائف التي سعت إلى الاحتكار أو حققته.
وبرأيه، التفسير الصحيح للفقرة (ي) هو أن تُعد أي سلطة غير شرعية إذا تصرف مَن يشغلها بصورة طائفية أو تسبب بانقسامات طائفية. أما الاحتكار الطائفي للمقاعد المخصصة في البرلمان والحكومة لأبناء طائفة من الطوائف اللبنانية، وحجب مشاركة شاغلي تلك المقاعد في عمل المؤسسات الدستورية في إطار الصراع السياسي، فيُعد الخرق الأشد وضوحاً لميثاق العيش المشترك. وما كانت الفقرة الأخيرة من مقدمة الدستور لتُفسر على النحو المشوه هذا لولا الطائفية التي يتكون منها ويمارسها القابضون على السلطة وعلى التمثيل في طوائفهم وبعض الطوائف الأخرى الملحقة بهم قسراً.
وعد أن الميثاقية بمعناها المشوه قد تسببت بكثير من الأزمات الدستورية في الأعوام الماضية، إذ أصبح تطبيقها يعني أن بإمكان مَن يدعي تمثيل الطائفة أن يمتنع عن المشاركة في تكوين أو عمل أي مؤسسة، أو أن ينسحب منها عندما يجد أن مصالحه غير مؤمنة. ويترتب على ذلك أن المؤسسة تصبح "غير ميثاقية" وتتعطل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أسوأ أزمة مالية
من أبرز التحديات التي ستواجه الحكومة الجديدة الأزمة الاقتصادية التي تُعد الأسوأ في تاريخ لبنان. فالبلاد تعاني من انهيار مالي غير مسبوق، إذ فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها أمام الدولار، مما أثر بصورة كبيرة على قدرة اللبنانيين على تأمين احتياجاتهم اليومية. يضاف إلى ذلك مستويات التضخم العالية والبطالة المرتفعة التي تهدد استقرار المجتمع اللبناني.
إضافة إلى تحديات كبيرة في التعامل مع الأزمات الاجتماعية التي تفاقمت بسبب هذه الظروف. فالأزمات المتعلقة بالتعليم والصحة والإسكان، وغيرها من الخدمات الأساسية، تتطلب استجابة سريعة وفعالة. وهذا يتطلب حكومة قادرة على اتخاذ قرارات جريئة وتنفيذ إصلاحات هيكلية في الاقتصاد اللبناني.
العلاقة مع "حزب الله" وإسرائيل
وعلى الصعيد الخارجي، ستواجه الحكومة الجديدة أيضاً تحديات كبيرة، لا سيما في ما يتعلق بعلاقتها مع إسرائيل، في ظل استمرار سيطرتها على مناطق حدودية، وتعهد لبنان تطبيق القرار 1701. إضافة إلى ذلك، تبقى العلاقة مع "حزب الله" أحد المواضيع الحساسة، إذ ستواجه الحكومة المقبلة مطالب باتخاذ مواقف حاسمة تجاه دور الحزب في السياسة اللبنانية، خصوصاً في ما يتعلق بسلاحه وكيفية التعامل معه في البيان الوزاري الذي على أساسه ستنال الحكومة الثقة في المجلس النيابي.
ويتخوف المراقبون من أن يشكل موضوع سلاح "حزب الله" تحدياً سياسياً حساساً، خصوصاً مع المطالب الدولية والمحلية بضرورة حصر السلاح بيد الدولة، كجزء أساس من تطبيق القرار الأممي 1701 وبسط سيطرة الدولة على كامل أراضيها.
إزالة "المقاومة"
ومع تزايد الضغوط الاقتصادية والسياسية على لبنان، أصبح من الواضح أن البلاد بحاجة إلى إصلاحات جذرية لإعادة بناء الثقة داخلياً وخارجياً. في هذا الإطار، يتطلع اللبنانيون إلى حكومتهم الجديدة على أمل أن تحقق التغيير المنشود، خصوصاً في ظل تصريحات نواف سلام التي أكد فيها ضرورة الشراكة الوطنية وتجاوز سياسة الإقصاء.
وكشف المحلل السياسي علي حمادة، أن العائق الأساس في تشكيل الحكومة هو موقف "الثنائي الشيعي" والتلويح بـ"فيتو" الميثاقية، موضحاً أن الموقف السلبي الذي برز في البداية تجاه تكليف نواف سلام بأغلبية كبيرة في الاستشارات النيابية، بدأ في التراجع بصورة تدريجية بعد اجتماع الرئيس جوزاف عون مع سلام ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، مؤكداً أن "الثنائي الشيعي" مضطر للعمل مع سلام، إذ لا يمكن لأي مكون لبناني أن يعزل نفسه عن بقية المكونات السياسية في لبنان.
وفي ما يخص الاستحقاقات القادمة، أبرز حمادة أن تشكيل الحكومة والتفاهم على توزيع الحقائب الوزارية سيكون التحدي الأكبر، خصوصاً أن الحكومة المقبلة ستكون حكومة سياسية وفقاً لاتفاق الطائف. كما أكد أن البيان الوزاري للحكومة المقبلة من المتوقع أن يتغير بصورة كبيرة، إذ سيتم للمرة الأولى منذ نحو 15 عاماً إزالة أي إشارة إلى "المقاومة" إلى جانب الجيش والشعب، وهو ما يمثل تحولاً كبيراً في المعادلة السياسية في لبنان.
البيان الوزاري
في المقابل، أوضح المحلل السياسي رضوان عقيل، التحديات المرتبطة بالتمثيل الشيعي داخل الحكومة، معتبراً أن من حق أي فريق سياسي أو كتلة نيابية، بما في ذلك "الثنائي الشيعي" المتمثل في حركة "أمل" و"حزب الله"، أن يطرح الأفكار والمشاريع التي يعدها مناسبة لفريقه وللبلد. لكنه شدد على أن البيان الوزاري الذي يعكس توجهات الحكومة، لا يخرج من طرف واحد بل هو خلاصة تفاهم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء.
وأشار إلى أن "حزب الله" وحركة "أمل" يميلان إلى البقاء على موقف موحد، وقد يشاركان في الحكومة بصورة مباشرة إذا كانت سياسية، أو من خلال تسمية شخصيات تكنوقراط تدور في فلكهما. لكنه أكد أن التكنوقراط في لبنان ليسوا بعيدين عن الهوية السياسية، إذ إن أي شخصية تكنوقراطية تحمل بالضرورة خلفية سياسية.
وفي ما يتعلق بتوزيع الحصص، لفت إلى أن هذا التحدي سيكون اختباراً كبيراً أمام الرئيس المكلف. ورغم الأجواء الإيجابية التي عبرت عنها معظم الكتل السياسية، فإن كل فريق سيحاول الحصول على أكبر حصة ممكنة من الوزراء. وأضاف أن "الثنائي الشيعي" قد يقرر التوجه نحو المعارضة، ويطالب بتسمية شخصيات شيعية في الحكومة من دون أن تكون بالضرورة مرتبطة مباشرة بحركة أمل أو "حزب الله".
وأكد عقيل أنه لا يمكن تشكيل حكومة من دون مشاركة الطائفة الشيعية، مستذكراً أن الحكومة الوحيدة التي تشكلت من دون تمثيل شيعي كانت قبل عام 1975، في ظروف مختلفة تماماً. وأشار إلى أن الأسماء الشيعية التي ستُطرح خارج فلك "الثنائي الشيعي" ستخضع للاختبار، وقد يمنحها هذا الفريق الثقة أو يحجبها عنها. وفي حال نيل الحكومة الثقة، ستصبح حكومة شرعية رغم استمرار الخلافات السياسية بين الأطراف المختلفة.