ملخص
يقول أحد الصيادين "يمنع علينا العدو الإسرائيلي التوسع في بحرنا ونتلقى تحذيرات من الدولة اللبنانية بواسطة الجيش ألا نتجاوز هذا الخط كي لا يشكل خطراً على حياتنا، وقد باتت لقمتنا مغمسة بالدم، كان يجب على قوات 'يونيفيل' أن تشكل لنا عنصر حماية وتسهل حركتنا، لكننا لا نتلقى منها أي دعم مع العلم أن ثمة قوة ألمانية تتبعها توجد في عرض البحر ولا تقوم بأية خطوة لجعلنا نعود لعملنا".
يشهد "ميناء الصيادين" في مدينة صور الواقعة جنوب نهر الليطاني ازدحاماً خانقاً بمئات المراكب المختلفة الأحجام والراسية فيه منذ وقت طويل، بسبب عدم تمكن أصحاب هذه المراكب، ومنها مراكب الصيادين، من الإبحار بحرية نحو عمق البحر غرباً أو جنوباً باتجاه الناقورة، بسبب استمرار الحظر الإسرائيلي والتهديدات المقيدة لحركة الصيادين والمراكب، يضاف إليها جملة من الأسباب التي منعت الصيادين ممن يتجاوز عددهم في صور ومحيطها 400 صياد من المغامرة والولوج في بحرهم الذي كان يشكل مصدر عيش عائلاتهم وبات الآن يشكل خطراً عليهم.
ولم تبدأ محنة صيادي الأسماك في صور والناقورة مع الامتداد شمالاً نحو الصرفند والزهراني منذ الأمس القريب، بل ظهرت بوادرها عندما انطلقت المعارك بين الجيش الإسرائيلي ومقاتلي "حزب الله" عند الحدود الجنوبية في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ثم راحت إسرائيل تضيق عليهم أكثر فأكثر وتعرضت لبعضهم ممن كانوا يبحرون بين صور والناقورة بإطلاق النار على زوارقهم وإحراق بعضها، ثم اتسعت مع اتساع الحرب منذ الـ23 من سبتمبر (أيلول) الماضي، إذ أنذرت إسرائيل الصيادين في جميع مناطق الجنوب الساحلية بدءاً من نهر الأولي شمال مدينة صيدا وانتهاء بالناقورة عند الحدود، بعدم التوجه نحو البحر أو حتى ارتياد الشواطئ القريبة، وقد استهدفت طائراتها المسيرة عدداً من الصيادين عند الشاطئ الجنوبي لمدينة صور في الـ23 من أكتوبر الماضي مما تسبب بمقتل اثنين منهم.
وكان الجيش الإسرائيلي حذر الجنوبيين" ومنهم صيادو البحر، في الثامن من أكتوبر الماضي، من أن "الوجود على الشاطئ وتحركات القوارب في منطقة خط نهر الأولي جنوباً يشكلان خطراً على حياتكم".
حظر إسرائيلي على الصيد البحري
ويتحدث نائب رئيس نقابة صيادي الأسماك في صور وأمين سرها سامي رزق عن معاناة صيادي الأسماك في صور والجنوب طوال عام وثلاثة أشهر فيقول "عانينا كثيراً كصيادين قبل وقف إطلاق النار في الـ 27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي ولم نزل حتى اليوم، إنها معاناة قاسية على رغم بعدنا عن خطوط المواجهة الحدودية، ونحن منذ عام وثلاثة أشهر وفور بدء المواجهات العسكرية عند الحدود صار محظوراً علينا التحرك بحرية في بحرنا القريب والبعيد، فتراجع نشاطنا وأقفلت المسامك ثم حاولنا استعادة بعض النشاط مطلع العام الماضي وأن نعود تدريجاً للإبحار ومحاولة الصيد في المدى القريب، وفوجئنا بالكساد بسبب نزوح عدد كبير من أبناء المدينة والجنوبيين ممن كان باستطاعتهم شراء السمك، ومن ثم حدث هبوط حاد في الأسعار وباتت الكلفة تفوق ما سيجنيه الصيادون، فاعتكف معظمهم عن الإبحار".
ومن أسباب تراجع نشاط الصيادين برأي رزق "انحسار مناطق الصيد والإبحار بعد أن باتت مناطق بحرية كثيرة محظورة على نحو جنوب صور الممتد باتجاه الناقورة، مع العلم أن نطاق نشاطنا يتمركز أصلاً جنوب نهر الليطاني، وبعدها دخل علينا الإسرائيليون بالتشويش على أجهزة الـ "جي بي إس" (GPS) وهو ركيزتنا في عملية الإبحار والمساعد الأساس لتوجيه عملنا، فعطل الإسرائيليون من خلال التكنولوجيا التي يمتلكونها أجهزة البحارة والصيادين، فأضحى الصياد يخرج إلى البحر وسرعان ما يعود لعدم تمكنه من الوصول إلى المنطقة المقصودة".
الإبحار جنوب صور ممنوع
ويشرح النقابي رزق كيف أن الصيادين "توقفوا بعد الـ23 من سبتمبر الماضي عن الصيد بصورة نهائية وخصوصاً بعد أن حذر جيش العدو الصيادين من الإبحار، فنحن لم نتوقف عن الصيد طوال الحرب الواسعة مدة 66 يوماً وحسب، بل نستمر حتى اليوم مع استمرار التهديدات الإسرائيلية، وهذه مراكبنا وقواربنا راسية في الميناء ومحركاتها لم تعد تعمل وصارت بحاجة إلى صيانة، خصوصاً بعد توقفها أكثر من ثلاثة أشهر متتالية".
ويشير رزق إلى أنه "بعد الانسحاب الإسرائيلي من الناقورة في السابع من يناير (كانون الثاني) الجاري، بدأ بعض الصيادين بالتوجه قليلاً نحو البحر لكن لم يسمح لنا بالتوجه نحو الجنوب بل باتجاه الشمال، والجميع يعلم أن الثروة السمكية تتوافر أكثر في جنوب صور وبينها وبين الناقورة".
ويعرض رزق لخسائر الصيادين "المتراكمة طوال 15 شهراً والتي لا يمكن تعويضها، فالصياد أصلاً ليس صاحب ثروة بل يعمل لقوته اليومي، وموسم أكتوبر ونوفمبر الذي يعتبر خميرة الصياد حرمنا منه، إذ منعنا الحصار البحري المفروض علينا من الصيد وبتنا اليوم معظم الوقت بلا صيد بسبب الطقس الشتوي، مما يعني أننا بلا عمل ولا نجد من يسأل عنا، وانتقدنا في وقت سابق إهمالنا من قبل الدولة اللبنانية فرد علينا وزير الزراعة وقال نحن معكم، ومع ذلك لم نره ولم نر الهيئة العليا للإغاثة مثلاً ولا مجلس الجنوب أو حتى بعض الجهات الداعمة إلى جانبنا، وكأن الجميع نسي أن ثمة قطاعاً للصيد البحري متوقف عن العمل منذ أشهر عدة".
"السمك يفر من بحرنا"
ويقول رزق إن "صيادي السمك في صور بقوا لمدة طويلة يبيعون السمك على أنواعه بثلث القيمة، ثم ارتفع إلى نحو 50 في المئة، لكن ثمة مشكلة أخرى دهمتنا وهي ندرة السمك في البحر، إذ فقدنا كثيراً من أنواعه وكنا نتوقع أن تتزايد الكميات في البحر بعد توقف الصيد مدة طويلة، لكن فوجئنا بتراجع الثروة السمكية في بحر صور، ولا ندري إذا كان ذلك بسبب القصف أو القذائف الثقيلة التي كانت تسقط في البحر وما أحدثته من ارتجاجات وزلزلة جعلت الأسماك تفر من بحرنا، حتى إن الصياد يخرج إلى البحر ولا يعود بأكثر من كيلو غرام واحد أو اثنين، بينما كان في السابق وفي موسم الخريف يعود بأكثر من 15 كيلوغراماً أو 20".
ويروي الصياد البحري رجا الشعار من صور حكاية الصيادين اليومية، فيقول "ينهض الصيادون قرابة الثانية فجراً وعليهم أن يختاروا جهة من ثلاث جهات للإبحار إما شمالاً أو غرباً أو جنوباً، نظراً إلى أن صور جزيرة، لكن الرزق البحري يقع في الجنوب باتجاه الرشيدية وصولاً إلى الناقورة، ونحن لا نصل إلى أبعد من المنصوري التي تبعد براً 13 كيلومتراً عن مدينة صور، إذ من غير المسموح لنا تجاوز هذه المنطقة حالياً في ظل التهديدات الإسرائيلية المستمرة، لذا باتت مساحة الصيد ضيقة علينا ونحن أكثر من 400 صياد".
القرار (1701) قلص المساحة
ويضيف الشعار أن "العدو الإسرائيلي يمنع علينا التوسع في بحرنا ونتلقى تحذيرات من الدولة اللبنانية بواسطة الجيش ألا نتجاوز هذا الخط كي لا يشكل خطراً على حياة الصيادين، وقد باتت لقمة الصيادين مغمسة بالدم، وكان يجب على قوات 'يونيفيل' أن تشكل لنا عنصر حماية وأن تسهل حركتنا، لكننا لا نتلقى منها أي دعم مع العلم أن ثمة قوة ألمانية منها توجد في عرض البحر ولا تقوم بأية خطوة لجعلنا نعود لعملنا، وفي أعقاب القرار الأممي رقم (1701) بعد حرب عام 2006 قلصت المساحة التي كنا نبحر فيها من 10 إلى ستة أميال، على رغم أن عدد الصيادين في ازدياد دائم مما يضيق مساحة الأميال الستة عليهم".
ويتحدث الشعار عن "موسم المياه العميقة التي تقع بعد مسافة الأميال الستة، وهو موسم كان يستفيد منه الصيادون كثيراً ومن أنواع السمك فيه، ففي هذه المسافة توجد القوة الألمانية في 'يونيفيل' وكان يمكن أن نتحرك برعايتها، لكننا منعنا من الوصول إلى هناك منذ عام 2006، وسقف الإبحار اليوم لا يتعدى ميلين أو ثلاثة أميال، إذ إنه بعد بدء سريان قرار وقف إطلاق النار المفترض وقبلها منذ السابع من أكتوبر 2023، أضحى هناك تضييق كبير على الصيادين وحركتهم".
تنمية قطاع الصيد البحري
ويتمنى الصياد الشعار أن تهتم الدولة اللبنانية ووزارة الزراعة بحال الصيادين في منطقة صور، "ومن الضروري وضع بدائل لإنماء البحر هنا، بمعنى أنه يمكن استيراد أنواع من بزرة الأسماك ونثرها في بحر صور الذي يعتبر من أنظف البحار وأجمل الشواطئ في العالم، وبعدها تنمو هذه البزرة وتعود بدورها لوضع بزرة جديدة فتزيد الثروة السمكية ويغدو الصياد بعدها غير محتاج لأحد، إذ تخلق له مثل هذه المبادرة نوعاً من الاكتفاء الذاتي لأن قلة الرزق في البحر هي من تجعل الصياد بحاجة إلى المساعدة الدائمة وسط أسعار متدنية لما يصطاده، ولأن السمك المستورد من الخارج أغلى من سعر السمك المحلي الذي يتعب الصياد هنا كي يحصل عليه".
ويقارن الشعار أسعار السمك بين العاصمة بيروت ومدينة صور "فهنا يباع الكيلوغرام الواحد من سمك اللقز بـ 1.2 مليون ليرة لبنانية، وما يأتي من الخارج يباع في الكرنتينا وأسواق بيروت بمبلغ يراوح ما بين 1.8 و 2 مليون ليرة ، وثمة شيء غريب وغير طبيعي هذا التفاوت الكبير في الأسعار يوجب على الدولة أن تتنبه إليه، وتحاول أن تخلق دورة اقتصادية محلية من خلال صياد السمك، وهذا الأمر ينتج أموالاً تبقى داخل البلد مما يمنع الاستيراد وذهاب ملايين الدولارات أسبوعياً ثمناً للسمك المستورد، ويؤمن حياة أفضل للصياد"، مضيفاً "ضرورة منع المخالفات التي تجري في البحر مثل الصيد بواسطة الـ 'كمبريسور' والديناميت وصيد الليل".
ويشير الصياد علي محمد طالب إلى أنه لم يخرج إلى البحر "منذ أربعة أشهر، وأقوم ببيع مادة المازوت إلى عدد من الصيادين وأصحاب المراكب كي أطعم عائلتي، وهناك بعض الصيادين يستدينون ثمن المازوت كي يتمكنوا من الإبحار بحثاً عن الرزق، وعندما يحصلون على كمية ما من السمك يبيعونها ويسددون ثمن المازوت، ومع ذلك لا يبعد الصيادون كثيراً بسبب الحظر الداهم والمستمر منذ أشهر طويلة، ناهيك عن التنافس الذي يحصل بين صيادي صور والجوار والصيادين الذين يأتون من ناحية الشمال وجنوب منطقة الزهراني وصيدا، مع العلم أن صيد المراكب ممنوع على الصيادين إلى مسافة 500 متر من الشاطئ".
شلل يخيم على الميناء
يمتلك إلياس بربور مع أشقائه مشغلاً لصناعة المراكب التي كانت مزدهرة كثيراً في عاصمة القضاء وأقدم المدن البحرية صور، لكن عندما يتوقف الصيادون عن الإبحار تتراجع الحرفة وتتوقف، لذلك وبعد أشهر طويلة تحركت قليلاً عملية صيانة المراكب وبات عدد كبير منها بحاجة إلى هذه الصيانة، لكن 12 صياداً فقط قاموا بصيانة مراكبهم لأن معظمهم اليوم بلا عمل، بحسب قوله.
ويقول بربور إن "هناك أسباباً كثيرة تسهم في هذا الأمر وفي طليعتها غلاء المعيشة، يضاف إليه هذه الحرب التي طالت كثيراً ومرت على الصيادين وأنهكتهم وعطلت إبحارهم وأقفلت ميناءهم بعد أن منعتهم إسرائيل من الخروج إلى البحر، مع تراجع أسعار السمك إلى ما دون الثلث وما كان يباع بمليون ليرة صار يباع بـ 300 ألف".
ويرى بربور أن "مجموعة من الأزمات المتلاحقة ألقت بتبعاتها على الصيادين وأثرت في إنتاجهم، خصوصاً أن الصياد لا يملك غير الإبحار بحثاً عن قوته ولا مورد آخر لديه ولا ضمانات على حياته أو على صحته، حتى إنه لا يملك ثمن الدواء في أحايين كثيرة".
ويوضح بربور أن "صناعة المراكب كانت مزدهرة كثيراً في سيدة البحار صور، وإذا ما عدنا نحو 15 عاماً للوراء فلم نكن نتوقف عن العمل ونقوم بتصنيع أكثر من سبعة مراكب أو زوارق في العام، أما اليوم فكل ثلاثة أعوام نصنع مركباً واحداً أو شختورة صيد، فالمواد الأولية لهذه الصناعة باتت غالية والصياد لم يعد منتجاً كالسابق حتى يدخر أموالاً ويجدد مركبه أو يصنع واحداً لأحد أبنائه، أضف إلى ذلك أن ميناء الصيادين في صور صار متخماً بالمراكب واليخوت، وقد احتلت المراكب السياحية المساحات كلها وصار أصحابها يشترون مرابط القوارب أو يستأجرونها من الصيادين، مع أنه لا يحق للصياد بيع مربطه الذي منحته إياه الدولة كي يركن قاربه أو زورقه، وهذا مخالف للقانون".
خسائر مرفأ الناقورة
ويؤكد رئيس الجمعية التعاونية لصيادي الأسماك في الناقورة رياض عطايا أن "بعض الصيادين وأصحاب المراكب حصلوا على أذونات من الجيش اللبناني وقصدوا بعد الانسحاب الإسرائيلي من الناقورة الميناء، وأفادوا بأن عدداً من المراكب غرقت في البحر، فضلاً عن أضرار في الميناء وشباك الصيد وغيرها، وأنا شخصياً لن أذهب إلى الناقورة قبل انقضاء الـ 60 يوماً التي أعلنت كوقت زمني لانسحاب قوات العدو من المناطق التي احتلتها خلال الفترة السابقة، ولذلك لن يستعيد الصيادون والبحارة حياتهم الطبيعية قبل الانسحاب الإسرائيلي من البر والبحر الذي تطوقه وتمنع بالطبع الصيادين من الذهاب إلى أعمالهم".
ويضيف عطايا أنه "لا يمكن إحصاء صيادي الناقورة وغيرها من الموانئ، إذ لم يعد الصياد البحري يتفرغ للعمل في البحر لأنه لم يعد مصدر رزق ملائم وكاف له، و الوضع الاقتصادي المزري الذي يعانونه لا يمكّنهم من تأمين معايشهم من خلال الصيد البحري وهم اليوم يتوزعون هنا وهناك، أما بالنسبة إلى لأضرار فلا يمكن إحصاؤها عن بعد ولن نستطيع قبل العودة التامة، وسبق لبعض الصيادين أن نقلوا مراكبهم قبل اشتداد الحرب إلى ميناء صور، وهناك حديث عن فقدان 10 مراكب وغرق تسعة أخرى".