Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما حلق سيد الفاتيكان ذقن بورخيس

يتماهى فرنسيس في سيرته الذاتية مع كفاح المهاجرين عبر تاريخ عائلته ويرى أن "السلام لن ينجم أبداً عن بناء الأسوار"

هي قصة رجل يغلبه الحزن أحياناً، ويعي وعياً عميقاً مشكلات العالم ونقائصه، لكنه مع ذلك مليء بالأمل (أ ف ب)

ملخص

لا عجب في أن يكون فيلليني هو المفضل لديه من المخرجين، إذ عرف البابا في صباه صبياً أطلق النار على جار، وآخر طعن أمه، وكانت خالته مصففة شعر وعاهرة لكنهم "كانوا أناساً طيبين جميعاً".

في وقت يروج فيه عبر كل الوسائط سيل من خطابات الكراهية ونظريات المؤامرة والمعلومات الكاذبة والملفقة، وتكثر النبوءات بالأسوأ القادم مناخياً وسياسياً وحربياً واقتصادياً، ويتصدر لمخاطبة الجماهير تافهون وفارغون ومنعدمو المؤهلات، يجدر بنا أن نبحث عمن تنتظر منهم الحكمة أكثر من غيرهم في الأقل، أو من يخاطبون خيالنا أو أرواحنا أو ضمائرنا بعدما ثبت أن ما نسميه عقولنا لم تعد تجدي نفعاً كبيراً. يجدر بنا أن نبحث عمن نرجو منهم أن يذكرونا بركائز أخرى أقيمت عليها حضارتنا مثلما أقيمت على الركائز الملموسة والظاهرة، ولعلنا نتوقع شيئاً من ذلك في كتاب يصدره بابا الفاتيكان، سارداً قصة حياته.

صدر هذا الكتاب أخيراً باللغة الإنجليزية ولغات كثيرة أخرى، وعنوانه "الأمل". وعلى رغم أنه من النادر أن يصدر بابا جالس على عرش الكاثوليكية كتاباً يروي فيه حياته، فإن التناول النقدي لهذا الكتاب لا يكاد يبدي توقيراً لقداسة المؤلف المعروفة لدى الكاثوليك.

سلام الأسوار

تكتب كاثرين بيبنستر في استعراضها للكتاب ["ذي غارديان" – الـ14 من يناير (كانون الثاني) 2025] أن "البابا فرنسيس يبلغ اليوم من العمر 88 سنة، فهو بذلك أكبر البابوات سناً منذ 100 عام، غير أنه بعد جراحة كبيرة أجريت له عام 2023، ومشكلات قائمة في ركبته تستوجب استعمال كرسي متحرك، لا يبدي أية علامة على قرب الاعتزال. والآن قرر البابا أن ينشر سيرته الذتية، التي كان مقرراً في الأصل ألا تنشر إلا بعد وفاته، بهدف أن يتزامن صدورها مع اليوبيل الذي دعا إليه الكنيسة الرومانية الكاثوليكية عام 2025".

"في كتاب ’الأمل‘ قصة ثرية تبلغ ذروتها باختيار فرنسيس عام 2013 بابا للكنيسة، وتحكي عن جورجي بيرغوغوليو، حفيد الإيطاليين المهاجرين إلى الأرجنتين الذي نشأ وسط أسرة كبيرة، وكيف أحب كرة القدم والتانغو (الحوار العميق العاطفي الذي يأتي من جذور عميقة الغور)، وكيف درس الكيمياء، ثم التحق بالرهبنة اليسوعية وأصبح قسيساً ورئيساً لأساقفة بيونس آيرس، إلى أن حدث وهو يخطط للتقاعد أن استقال البابا بينيدكت الـ16 فاختير هو خلفاً له".

تكتب كاثرين بيبنستر أن "الانتخاب البابوي في عام 2013 كان شديد الدراماتيكية، فعلى رغم أن بيرغوغوليو جاء في المرتبة الثانية عام 2005 وانتهى الأمر بانتخاب بينيدكت الـ16، فقد نسي غالب الناس ذلك أو افترضوا أن الكرادلة سيختارون شخصاً أصغر سناً وليس رجلاً آتياً من أقصى العالم. غير أن فرنسيس لا يبدأ كتابه بهذه اللحظة التاريخية، وإنما يبدأ بجديه وأبيه، إذ يهاجرون من إيطاليا إلى الأرجنتين في عشرينيات القرن الـ20".

وهو بذلك يتماهى، عبر تاريخ أسرته، مع كفاح المهاجرين وما يحتملونه من ويلات، "وذلك التماهي كان سمة بابويته، إذ درج على توجيه الانتقادات للحكومات بسبب ما يعده انعداماً للشفقة تجاه المهاجرين. كما يتكرر في كتاب ’الأمل‘ كثيراً إلحاح على العناية المسيحية بمن يحتاجون إليها، بدءاً بالمهاجرين وحتى الذين يعانون آثار الدمار البيئي أو الفقر أو ما يصفه بـ’عولمة اللامبالاة‘، فضلاً عن قوله إن ’السلام لن ينجم أبداً عن بناء الأسوار‘، وهو القول الذي ينبغي أن يدون الرئيس المنتخب دونالد ترمب ملاحظة بخصوصه".

نقائص البشرية

"غير أن الكتاب، للأسف وللإحباط الشديد، يفتقر إلى تفسيرات لأمور كثيرة. فقرب منتصفه يأتي سرد فرنسيس لانتخابه بابا للكنيسة وقيامه بزيارة عقب ذلك إلى سلفه البابا بينيدكت الـ16، التقطت صورة فوتغرافية للبابويين وهما يجلسان على جانبي صندوق أبيض كبير، وانتشرت آنذاك تكهنات عما قد يكون في ذلك الصندوق، ولم تظهر رواية حاسمة. يتذكر فرنسيس قول بينيدكت له إن ’كل شيء موجود هنا‘، ثم يكتب أن الصندوق احتوى وثائق تتصل بأصعب المواقب وأشدها إيلاماً، أي قضايا الانتهاكات والفساد والصفقات السود والمخالفات، لكنه لا يروي تفاصيل ذلك".

"ويخلو الكتاب أيضاً من رؤى عميقة شخصية أخرى، فلماذا على سبيل المثال حدث لبيرغوغليو المحافظ، المائل إلى التشدد، الذي كان يعد مشكلة لزعيم اليسوعيين في العالم لدرجة أن نفاه إلى الأقاليم، لماذا حدث أن عاد بعد سنين لبيونس آيرس، وتحول إلى الشخصية الإصلاحية التي لا يزال معروفاً بها إلى اليوم؟ وليس هناك أيضاً تفسير كاف لما حدث في ما يتعلق باثنين من الرفاق اليسوعيين عذبهما المجلس العسكري في الأرجنتين، وتم اتهام فرانسيس بالعجز عن تقديم العون لهما على رغم قوله (لقد بذلت جميع المحاولات)".

 

"ولماذا تكلم البابا بتعاطف عن المطلقين، ومد يد الصداقة للمثليين، وحث على أن يكون للعلمانيين دور أكبر في الكنيسة، ولكنه يرفض تعيين النساء قساوسة، على رغم قوله ’إن علينا أن نمضي قدماً‘ في ما يتعلق بمزيد من إشراك النساء في إدارة الكنيسة، لكنه لا يقدم تفسيراً مقنعاً في شأن القسوسة".

غير أن الكتاب على رغم كل ما يفتقر إليه يقدم شيئاً فريداً، هو قصة رجل يغلبه الحزن أحياناً، ويجاري الصراع بين التقليديين والليبراليين، ويعي وعياً عميقاً مشكلات العالم ونقائص الإنسانية، ولكنه مع ذلك مليء بالأمل، الأمل القائم على ركائز الإيمان. ويقدمه الكتاب أيضاً، بحسب كاثرين بيبنستر، "أحد أكثر زعماء عصرنا تأثيراً، ولكنه لا يزال يبدو ضارباً بجذوره في عاديته".

وخلافاً لجدية مقالة كاثرين بيبنستر تأتي مقالة كريستوفر هاوس ["ديلي تلغراف" – الـ14 من يناير 2025] بعنوان "أيتها العاهرات، أيها القتلة، أيها المحافظون (المتخلفون)، إليكم قصة جيدة يحكيها البابا فرنسيس".

يكتب هاوس أن "ثمة كثير، إلى درجة بشعة، من سوء الفهم في كتاب ’الأمل‘"، ومن أمثلة ذلك أن "فرنسيس، الذي يقضي عامه الـ12 في البابوية، حينما يذكر لوحة ’الصرخة‘ لإدفارد مونش فإنه يكتب عن شخص (فاغر فمه على اتساعه، عاجز عن أي شيء إلا الصراخ). وما ذلك إلا سوء فهم شائع، على رغم أن الرسام نفسه أوضح أن الطبيعة هي التي تصرخ في لوحته، وأن الشخص يسد أذنيه من دون صرختها".

حلقات الجحيم

"بعد سرد البابا لطرفة رواها له جوستين ويلبي حينما كان أسقف كانتربيري، إذ قال "هل تعرف ما الفرق بين اللاهوتي والإرهابي؟ مع الإرهابي هناك مجال للتفاوض"، يفضي إلينا فرنسيس بأنه في كل يوم على مدى 40 سنة كان يتلو صلاة سان توماس مور "دعاء من أجل الفكاهة". وتنتهي هذه الصلاة بقول مور "أنعم علي يا رب بحس الفكاهة، وهبني نعمة القدرة على قبول النكتة، واكتشاف بعض البهجة في الحياة، والقدرة على إشراك الآخرين فيها"، ثم يقول هاوس إن هذا الدعاء "على طرافته لم يكتبه توماس مور عام 1972، ولكنه يرجع إلى رجل إنجليزي مات في الحرب العالمية الأولى، وما من سبب لعدم معرفة فرنسيس بهذا، ولا لعدم استعانة موسو بالإنترنت في التحقق من نسبته".

"ويمكنني أن أستمر في مثل هذه المآخذ: فالأباطرة لم يضطهدوا الأساقفة غير الآريين بسبب العنصرية، ولكنهم اضطهدوا غير الآريين منهم"، وكان الأولى في ما يبدو استعمال "غير الأريوسيين" وليس الآريين في وصف الأساقفة الذين لم يتبعوا آريوس، وهو أحد أصحاب الرؤى اللاهوتية في المسيحية. ويمضي هاوس فيقول إن كتاب "الأمل" بعيداً من هذه الملاحظات، يخلق في القارئ انطباعاً دائماً بالخلفية البرجوازية البسيطة لجورجي بيرغوغوليو، ذلك الإنسان العادي الذي فوجئ بانتخابه بابا.

"ولا عجب في أن يكون فيلليني هو المفضل لديه من المخرجين، إذ عرف البابا في صباه صبياً أطلق النار على جار، وآخر طعن أمه، وفي شوارع ضاحية فلوريس غير المعبدة الظليلة في بيونس آيرس كانت أسرة البابا تسارع إلى حضور مباريات كرة القدم المحلية. وكانت خالته مصففة شعر وعاهرة لكنهم ’كانوا أناساً طيبين جميعاً‘. لم يكونوا في بحبوحة من العيش تمكنهم من مشاهدة التليفزيون، لكنهم كانوا يستمعون إلى أوبرا عطيل في الإذاعة، فتشرحها لهم والدتهم قائلة ’اسمعوا يا عيال، إنه الآن يقتلهاإ، وكانت جدته روزا ذات إيمان لم يتزعزع على رغم مصاعب الحياة التي شهدت وفاة ستة من سبعة أطفال لها، فكانت تجثو على ركبتيها أمام محطة الترام في الجمعة الطيبة حينما يمر موكب فيه تمثال للمسيح الميت قائلة ’انظروا يا أولاد، لقد مات.. لكنه غداً يقوم من جديد‘".

واستمراراً لتصحيح الأخطاء، تصحح إليزابيتا بوفوليدو، وهي مراسلة لـ"نيويورك تايمز" في إيطاليا والفاتيكان، لناشر الكتاب قوله إن "الأمل" هو أول سيرة ذاتية لبابا جالس على كرسي البابوية، فتقول في استعراضها للكتاب ["نيويورك تايمز" – الـ13 من يناير 2025] إن "هذا الشرف ينسب إلى البابا بيوس الثاني في القرن الـ15 وكتابه ’التعليقات‘ الذي حكى فيه عبر 13 مجلداً قصة حياته، ويعد من نصوص الإنسانية الأساسية في عصر النهضة"، مضيفة أن سير بابوات آخرين نشرت في حياتهم، ومن أولئك الكاردينال جوزيف راتزينغر الذي نشر سيرته الذاتية قبل ثماني سنوات من توليه البابوية باسم البابا بينيدكت الـ16، فضلاً عن مشاركته هو والبابا السابق عليه يوحنا بولس الثاني لصحافيين في تأليف كتب احتوت تأملات شخصية لا وثائق بابوية رسمية.

وتلتفت إليزابيتا بوفوليدو إلى جانب أهملته عروض نقدية أخرى للكتاب، وهو أن للبابا الحالي ماضياً مثيراً للاهتمام، إذ تكتب أن "ثمة ذكريات شخصية كثيرة في الكتاب منها أنه حينما كان معلماً شاباً للكتابة الإبداعية كان الطلبة يطلقون عليه اسم ’كروتشا‘، أي طفولي الوجه، وأنه ذات مرة أعان خورخي لويس بورخيس في حلاقة ذقنه"، فكم يجدر بهذه التفصيلة أن تحتل مكاناً في مقالات يكتبها دراويش بورخيس، ومنهم كاتب هذه السطور، ليكون بعدها الأديب الذي ساعده البابا في حلاقة ذقن، وحتى لو قيل إن ذلك الشخص كان لا يزال محض جورجي بيرغوغوليو الذي لم يصبح البابا فرنسيس بعد، إذ كتب البابا شخصياً عن بورخيس في كتاب سيرته الذاتية، حتى لو لم يعد ما قاله إن بورخيس "كان لاأدري العقيدة، يردد كل ليلة صلاة الربانية، براً بوعد قطعه لأمه".

من يصدر الأحكام؟

لعل من أهم عروض الكتاب ما كتبه روان وليمز رئيس أساقفة كانتربري من عام 2002 إلى عام 2012، واستهل عرضه ["نيوستيتسمان" – الـ14 من يناير 2025] بقوله إن قرار البابا ابتداء قصة حياته بغرق سفينة المهاجرين التي لم يركبها جداه يعكس "ثيمة تستمر على نحو كبير في الكتاب كله، هي وعي فرنسيس الحاد بامتداد جذوره في تاريخ الهجرة والمجتمع شديد التنوع في تياراته الثقافية".يثني روان وليمز على نصوع وحساسية الصورة التي يرسمها الكتاب لحياة الأسرة المهاجرة في بيئة جديدة، وإن أخذ عليه خلوه من موجز لتاريخ الأرجنتين في القرن الـ20 يعين على استيعاب الصورة على نحو أكمل. ويشير إلى أن عمل فرنسيس الكنسي ورطه في "علاقات معقدة مع أكثر من حكومة قمعية عنيفة في الأرجنتين، ومع رجال كهنوت قاوموا الحكم هناك مخاطرين في ثنايا ذلك بحياتهم، ولكنه لا يتطرق إلى تفاصيل شيء من ذلك، مكتفياً بإيضاح أنه على رغم بعض الانتقادات القاسية لعجزه المفترض عن مواجهة نظام حكم دموي، قد ناصر السجناء السياسيين وتورط في مساعدة بعض منهم على الفرار من البلد مخاطراً بنفسه".

 

يشير روان وليمز إلى أن "فرنسيس لم يتبن قط موقف ’لاهوتيي التحرير‘ في زمنه بصورة كاملة، وتمثلت قوته دائماً في تبني موقف رعوي وعملي من الظلم، فناصر حقوق المهاجرين، وفي الكتاب صفحات عن مقابلاته للنازحين جماعات وأفراداً من السودان والكونغو الديمقراطية وحتى اليائسين في مخيم ليسفوس الشهير الذي يصفه بأنه ’أشبه بحلقة من حلقات جحيم دانتي‘".يصف روان وليمز أسلوب فرنسيس في التعامل مع القضايا الخلافية من قبيل زواج المثليين وحريات المتحولين جنسياً بـ"الكرم الرعوي الأصيل"، إذ يصف البابا استقباله لهم في زيارة للفاتيكان قائلاً إنهم "غادروا باكين، متأثرين بإمساكي بأيديهم وبتقبيلي لهم"، ثم يقول بعد نصف صفحة من ذلك كلاماً عن خطر نظرية الجندر التي ترمي إلى "إلغاء الاختلافات"، وينقل عنه وليمز قوله في حق الأزواج المثليين "من أكون أنا كي أصدر الأحكام؟"، ثم ينقل عنه تكراره "للصيغة الرسمية القائمة التي تنص على عدم الترحيب بالمثليين في المعاهد الدينية".

ويلتفت وليمز إلى موقف البابا من اليهودية، فهو قد يزور معتقل "أوشفيتز"، ويدين معاداة السامية و"شرورها"، لكنه يستشهد بآيات يستنكرها اليهود ويعتبرونها ضدهم. "ولعل المشكلة تكمن في أن فرانسيس، خلافاً لسلفيه بينيدكت الـ16 ويوحنا بولس الثاني، لا يتعامل مع هذه الأسئلة من منطلق الحرص البالغ على الاتساق اللاهوتي، وينطبق هذا على المتحولين جنسياً، وعلى زواج المطلقين"، بل وعلى الحرب، فعلى رغم أن البابا من دعاة السلام تجده يقول "إننا لا ننكر حق الدفاع" دونما خوض في التفاصيل.

يرى روان وليمز أن هذا العزوف "مفهوم"، فـ"الله يشهد أن المجتمعات المسيحية منقسمة انقساماً أليماً حول هذه القضايا في هذه اللحظة، بما يجعل التنقيب في جذور هذه الخلافات كفيلاً بإماطة اللثام عن أسئلة أكثر إثارة للانقسام حول السلطة واليقين وطبيعة الوحدة التي يمكن أن تتوقعها الكنيسة. فقد ترون هذا فشلاً من البابا، وقد ترونه استراتيجية برغماتية عميقة، ولكن تركيز البابا على الجانب الرعوي يمهله الوقت عسى أن تلين فيه المواقف بما يسمح بتغير تراكمي".

العنوان:  Hope

تأليف: Pope Francis

الترجمة إلى الإنجليزية: Richard Dixon

الناشر: Viking

المزيد من كتب